" رزنامة " الأسـتاذ كمال الجزولي: الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون"!

" رزنامة " الأسـتاذ كمال الجزولي: الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون"!


08-08-2007, 09:52 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=140&msg=1186563174&rn=0


Post: #1
Title: " رزنامة " الأسـتاذ كمال الجزولي: الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون"!
Author: بكري الصايغ
Date: 08-08-2007, 09:52 AM

ضيف على " رزنامة " كمال الجزولي:
------------------------------------


الياس فتح الرحمن

08 اغسطس, 2007

[email protected]

الثلاثاء:
-----------------

قبل أن يدعونى صديقي العزيز كمال لأحلَّ ضيفاً على رزنامته المحروسة بقرائها ومريديها ، ولعلي أوَّلهم ، كانت نفسى تحدثني بقول ما احتقن به الصدر ، وتحشد في اللهاة ، متراكماً ، بعضه فوق بعض ، طوال سنين الغياب عن وطنٍ أبىَ إلا أن يلد نقائض أحلامنا البسيطة ، واستعصى حتى على الشهادة لنا بأننا نستحق العيش ، ولو بعض العمر ، كما معظم خلق الله فى حمى أوطان لا تغصبها قيصرية ، ولا تستذلها كسروية ، ولا تستبيحها فرعونية تنطلق من أرحام لا تنجب سوى الشر!

نعم كانت الرغبة في البوح تتملكي حدِّ ارتعاش الاطراف ، واصطكاك الاسنان ، وكانت مفردات اللغة العتيقة تتزاحم عند الشفتين بحثاً عن متنفس. مع ذلك دهمنى ، فجأة ، داء (السَّكت) ، من حيث أدري ولا أدري ، وانتابني ، بغتة ، رعب الصورة القديمة تخرج من ملحمة (الأوديسة) ، فإذا نحن جميعاً فى الفراغ ، وإذا بيتنا الحميم فى العدم ، أو فى الجحيم ، أو فى أى مكان آخر ، فليس موجوداً ، ولسنا فيه مطلقاً ، ولن نكون! هكذا وجدتني أسقط في تيه مريع ، تماماً كما بحار (الأوديسة) الذى توقف به الزمن ، وأطاح ببوصلته ، فما عادت لديه حماسة للعزف على قيثارته ، أو لتوزيع خواتمه ، أو حتى للخلوة بامرأته الجميلة!

لكن ما العمل وليس ثمَّة مناص من تلبية دعوة كمال؟! من لي بمزاج الرزنامة ترفرف ، بحرائقها ونسائمها ، بصراخها وهمسها ، بصرامتها وخفة روحها ، ب####اجتها وخلوها من مساحيق اللغو الغارق فى ترهات الحداثة ، وخزعبلات التفكيك ، و هيلاهوب العقل والجسد! كيف لي بصعود مرتقى الرزنامة الذي تربعت فوقه ، وشادت عمارتها الفارهة من جدل العقل المنتبه والوجدان العاشق! من أين أبدأ كدح اللغة الشفيقة تشحن الذواكر الخربة بطاقة جديدة ، وتحضُّ الأنفس الكبار ، صيَّادة اللوامع والشوارد وألق ما قل ودل ، على حفز حركة الوعى. من أين لي والرزنامة رهان سلطة نؤمن بأنها وحدها العارفة ، وسط كل هذا الطوفان ، سكة اليابسة؟! سلطة تتكئ على شعاع ضوء باذخ وتتربع فوق كل السلطات ، شاء الحمقى أم أبوا؟! سلطة الكلمة الجريئة والكتابة المقدامة .. أغلى العملات فى التاريخ البشري!

لقد كان أهل الرافدين القدماء يعتقدون أن الطيور كائنات مقدسة ، لمجرد أن أقدامها كانت تترك على الصلصال الرطب علامات تشبه الكتابة المسمارية ، وكانوا يظنون أنهم لو تمكنوا من فك أسرار تلك العلامات فسيستطيعون معرفة ما كانت تفكر فيه الآلهة! وحاولت أجيال من العلماء ، وما زالت تحاول ، أن تسبر غور كتابات أضاعت البشرية مفاتيحها .. سورية وأكدية ومانوية وآتستيكية ، علاوة على لغة المايا! وصدق ليفى شتراوس حين أطلق على المجتمعات التى لا تعرف الكتابة (المجتمعات الباردة)! وفي رثائه لزوجته الجميلة الشابة كتب هنرى كنج ، فى القرن السابع عشر ، يقول: "واجبى هو التأمل .. تأملك/ إنك الكتاب/ وغرفة القراءة التى أبحث عنها/ وإن أشرفت على العمى"! وبنيامين فرانكلين أوصى بأن تنقش على قبره بضعة أبيات تقول: "إن جسد ب. فرانكلين ، عامل الطباعة/ مثل غلاف كتاب قديم/ محتوياته ممزقه/ وأحرفه منهوبة/ وطلاؤه المذهب مسجى هنا طعاماً للديدان/ غير أن العمل لن يذهب سدى/ لأنه فى إحدى المرات ، كما يظن ، سيُنشر من جديد/ فى طبعة جديدة أجمل/ منقحة تماماً وطازجة"!

سعادتنا بالرزنامة ، لو علم كمال ، لا تحد ، نهرع إليها يوم إطلالتها البهيَّة ، نعانقها ، نتشممها ، نتحسسها ، نلتهمها ، تماماً على حدِّ تعبير علامة عصر النهضة الإنجليزى فرانسيس بيكون: "بعض الكتابات يُتلذذ بها ، وأخرى تلتهم ، وثالثة تمضغ جيداً لتهضم"! ولأن لحظة الطلق المرعبة شهيق كلها ، من بدايتها إلى نهايتها ، سيما في مناخ حياتنا وافر العتمة والعطن ، فليس للكاتب ، بين يديها ، غير أحد خيارين: الانطلاق ، بالجسارة كلها ، في اتجاه حزمة ضوء محتملة ، أو العدو هرباً! وأشهد أنني رأيت ، بأم عيني ، آلام كمال (الرزنامية) الخاصة ، ووجعه الأسبوعي الرهيب ، حين يتحشد للكتابة عالية الدربة ، بكل ما فيه من اعصاب مشدودة ، وقلب يغلي حرارة ، وشرايين تحتقن بعذاب الفكر والابداع ، يستنهض من ذلك كله خلقاً سوياً يطالعنا ونطالعه في الموعد المحدد! إنه ضرب من الكتابة يضعك ، مباشرة ، في مواجهة النفس وسط أسئلة الواقع الملحة ، ويغويك بقطف ثمرتين: الفائدة والمؤانسة ، أو ، كما يصر كمال ، المؤانسة ثم الفائدة!

إسباغ لغة المثقف (العام) على سمت المبدع (الخاص) أمر في غاية الصعوبة ، تماماً كالمزج بين (سخونة العاطفة) و(برودة الحقيقة)! ذاك عمل يتطلب مهارة خاصة ، إذ يقتضي جمع وتركيب أشتات لا تحصى من عناصر متنافرة ، متناقضة ، يصارع بعضها بعضاً كالوعول ، لكنها لا بد أن تظهر ، بين يدى القارئ ، في هارمونية متسقة! عمل ينداح على كل فروع المعرفة ، إثراءً للحوار مع أوسع القطاعات. عمل طليق في قيد الضرورة ، يراوح ، مراوحة محسوبة ، بين الجديَّة والفكاهة ، السياسة والثقافة ، الفلسفة والابداع ، الفكر والتجربة ، ويتغذى ، بشكل دائم ، على خبرات الحس ، والانفعال بكثافة اليومى المعاش. عمل يرفل في التلقائية ، ويزدان بالموضوعية ، ليخاطب ذائقة (العامة) و(الخاصة)!

لقد ارتبط تاريخ الحركة الثقافية في بلادنا عضوياً بتاريخ الحركة السياسية الاجتماعية. وقد تصدى ، وما زال يتصدى ، مفكرون مناضلون ومقاومون كبار وبناءون مهرة لإعمال معاولهم الخلاقة في كل هذه الجبهات. وما ذلك بالعمل اليسير ، فقد دفعوا ، وما زالوا يدفعون ، في سبيله باهظ الأثمان! على أن أرواحهم ظلت تتألق في طقس العناق الأبدي بين الإبداع والحياة.

نعم ، أستجيب لدعوة صديقي العزيز للحلول ضيفاً على رزنامته هذا الأسبوع ، وقبل ذلك أشد على يديه بحرارة ، متمنياً لقلبه المتوثب الرؤوف بشعبه النجاة مما يقتضيه هطول النزيف ، لكنني أبقى ، في النهاية ، مثلي مثل الكثيرين ، ذلك القارئ الذي ينتظر صباحات الثلاثاء باللهفة والشغف!


الأربعاء:
----------------

بعد أيام قلائل من انقلاب 1989م ، وذات صباح صيفى حرارته تغلي الماء في الصنابير ، ولزوجته تصمغ أطراف الأبدان ببعضها ، وبينما بيانات الحل والحظر والغلق والفصل تترى وتنهال ، إذا بمذياع الجيران ينفجر بدوي هائل يسحق كل بوصة من اعصابي العارية ، ويكاد يخلع باب غرفتي ونوافذها ، ويدك سقفها وجدرانها على أم رأسي دكاً!

قلت لا بد أن شيطاناً ضخماً قد ركب ميكرفون الإذاعة ، وانطلق يعيث ضجيجاً وعجيجاً و(فنجطة) في ستديوهاتها الهادئة! السقف فوقي يهتز ، والأرض تحتي تهتز ، والحوائط حولي تهتز ، ودولاب الملابس يهتز ، والمنضدة السميكة تهتز ، وكوب شاى بأبخرته يهتز ، وفرشاة الأسنان فى يدى تهتز ، حتى الماء النازل من الصنبور يهتز ، كل شيئ يهتز .. كل شئ!

كرباج نارى (يكربج) فى كل الإتجاهات ، كما زئير المنذرين ضحاياهم بأن ساعة الموت قد دنت لا محالة ، بل ان القيامة نفسها قد قامت ، وأن الأرض والسماء طويتا ، ونفخ في الصور! صوت أرق منه صوت (الصايح) المهيب فى قريتنا البعيدة ، يسرج حماره ، حين وفاة إنسان ، ليطوف بالدروب الضيقة المتعرجة ، ويردد في وقار: "الحى الله والدايم الله .. فلان ود فلان راح فى حق الله"! ذلك (الصايح) يؤدي مهمة ضرورية يحتاجها الناس فى القرية ، فيحظى منهم بالتقدير والقبول. لكن ما بال (صايح الاذاعة) يهدد بالموت والعذاب جميع الناس ، بدءاً من بائعى اللبن الذين لم يجدوا وقتاً كافياً ليسمعوا عن جنة الإنقاذ ، ومروراً بجماهير الأحزاب وقادتها ، ومنظمات المجتمع المدنى ، و(المندسين) من (شراذم) اليسار و(فلوله) ، وانتهاءً بثلة الزنادقة الصغار الساكنين عمداً جنب البار ، وهاتيك اللواتى خالفن الشريعة ، وصنعن (العرقي) جهراً من (الذِرِّيعة) ، علاوة على (عمايلهن) الأخرى الشنيعة!

ولما كان مصدر (الزلزال) بيت جاري ، فقد هرعت إليه ، وطرقت بابه أعاتبه غاضباً ، على حرق أعصابى ، من (صباح الرحمن) ، وأعصاب أهل بيتى كمان! فضحك وقال: "إنت ما عارف ده منو؟! عجيبة ياخى!! وانا حالتي موطي الصوت .. والله العظيم يا إلياس ياخوى ده هسع أوطى صوت فى الرادي حقنا ، لكن نسوى شنو؟! ما شاء الله الزول صوتو ماكن .. عشان كدة أحسن نقفلو كلو كلو"! وما لبث الجار الطيب المغلوب على أمره أن هرول ، وأغلق (راديه) ، بينما لسانه يلهج بعبارات اعتذار حارة.

عدت إلى البيت أتصبب عرقاً ، ولهاتى كومة رمل ، وقلبى يدق كطبل ، وصدرى لا يسعه التنفس. كانت الجهة الوحيدة التى لا بد أن أقصدها أولاً هى الحمام. فتحت الصنبور. شخر شخرة أسقطت نظارتى من عينى. تدحرجت النظارة وتدشدشت على البلاط. تركت أشلاءها كما هى ، وخرجت. إختبأت من عيني أمى. أغلقت باب حجرتى ، وتهت فى الجحيم!

الخميس:
----------------

كلما تقدمت بى السن لمعت في ذاكرتى مراتع طفولة لي في عطبرة كانت الأجمل والأغنى في حياتي. لكنني ، منذ أن غادرتها وأنا في المرحلة الإبتدائية ، لم أعد أرى فيها مدينتى الساحرة! مع ذلك ظلت ذكراها تسعفنى ، بأريجها وعبقها وطلاوتها وحضورها الغلاب ، وتدعونى فى أوقات الحزن والضيق بأن أطوف ، في الخيال ، بأنحائها ، صاعداً إلى القمم ، حيث الهواء الأطيب ، ومانحاً نفسى بعض الأمل!

وحدث أن التقيت ، خلال عودتي الأخيرة القصيرة إلى السودان ، بعطبراوي سبعيني يحمل مدينته فخاراً يكسو الجبين ، وبشاشة لا تفارق الوجه ، فتح باباً انثالت منه السيرة العطرة مدرارة بيننا. حدثني حديث العاشق عن كيف قاد عمال السكة حديد بعطبره إضرابا ، أيام الاستعمار ، استمر فترة طويلة ، مما أفقد الانجليز صوابهم ، فلجأوا إلي تجويعهم لكسر إرادتهم ، إذ صدرت الأوامر بعدم صرف مرتباتهم حتى ينهوا إضرابهم ويعودوا للعمل! لكن تجار عطبرة وجزاريها وخضرجيتها وفكنهجيتها قرروا فتح حسابات للعمال ، يأخذون منهم ما يحتاجونه .. والسداد مؤجل لحين ميسرة! غضب الإنجليز وهاجوا وماجوا .. بلا طائل ، فاضطروا للاستجابة ، في النهاية ، لمطالب العمال. وساقنا الحديث إلى حكايات أخرى ، كحكاية عثمان الطالب المسلم الذي أحب طالبة مسيحية وكاد الأمر ينتهي بفتنة لا تبقي ولا تذر جراء الشرارة التي أشعلها فريقان متشددان من المسلمين والأقباط! لكن عقلاء من الطرفين اتفقوا على ترك الخيار للبنت والولد ، تحت إشراف السلطات المحلية فى المدينة ، حتى لايفلت الزمام فيقع مالا تحمد عقباه. فاستوضح فريق المسيحيين البنت رغبتها ، حيث تمسكت بحبيبها ، واستوضح فريق المسلمين الولد رغبته ، حيث أعلن عن رغبته في الزواج بها. هبت عطبرة كلها تبارك تلك العلاقة الشريفة. ولما لم تكن إمكانات الولد تسمح له بالزواج الفورى ، فقد حملت المدينة كلها مسئولية ذلك ، ورابض بعضهم يوم صرف المرتبات على أبواب ورش السكة حديد ، فارشين جوالاً لجمع التبرعات ، فيما ذهب آخرون إلى الأسواق لذات الغرض. وفي غمرة الحماس للحدث السعيد الفريد توحد الجميع ، مسلمين وأقباط.

ساعتها تأكد لي أن استحلاب الذاكرة بسيرة عطبرة وربوعها وأهلها لم يعد يكفي ، فلا بد من اعداد ما يلزم لرحلة ضرورية إليها ، رغم خشيتى مما قد يصدمنى ، بل وربما يقضى على ما تبقى من صفحات ذلك الزمن الجميل في كتاب الذاكرة!

الجمعة:
-----------------

نفس المدينة التي ودعت الجيش بدعوات النصر ، قبل أيام ، ، عادت شوارعها تكتظ ، هذا المساء ، بالجنود الجرحى العائدين يجرجرون أذيال الهزيمة والأسى والانهاك! لكن ، ولإحساسها بأن ثمة شيئاً خطأ منذ البداية ، فقد خرجت تستقبلهم ، بكل ما تملك من وسائل الاسعاف. النساء يحملن الطعام والماء والدواء ، والرجال يجوبون الشوارع أو يمشطون البحر ، في منطقة الشط ، سباحة وعلى مراكب صغيرة ، بحثا عن الجرحى والتائهين!

تلك كانت حال السويس ، المدينة الباسلة الكبرى فى طريق سيناء ، مساء السادس من يونيو 1967م ، حيث قدر لها أن تكون الأولى في مصر التي تدهمها مرارة الهزيمة! هكذا مضت تحدثني عنها ، ذات مؤانسة شجية ، وبحماس دافق ، صديقتي المخرجة السينمائية وعاشقة السويس .. عطيات الأبنودي. حدثتني عن ناسها البواسل ، وعن أبطالها الأشاوس ، وعن ذكرياتها معهم وسط الأهوال ، لحظة بلحظة ، خلال تلك الأيام العصيبة. قالت: فى بور توفيق ، علي مسافة مئة وثمانين متراً هى عرض القنال ، كان العلم الإسرائيلى يرفرف على بعد أمتار قليلة من الضفة الشرقية بحيث يرى بالعين المجردة ويثير مشاعر الحزن والضغينة في نفوس الأهالي ، مما دفعهم لأن يرفعوا ، وهم على مرمى المدفعية الإسرائيلية ، شعار (نبقي على أرض السويس حتي الموت)! وهكذا تهيأ السوايسة لخوض معركة الفداء. تطوعت النساء ، وتطوع الرجال ، وشكل الشباب (منظمة سيناء الفدائية). وفي خندق في (حى الغريب) رابطت مقدمة التشكيلات المتطوعة فى المنطقة السابعة للمقاومة الشعبية والدفاع المدنى بقيادة .. الشاعر الكابتن غزالى.

حديث عطيات عن أولئك البسطاء المناضلين ، وبالأخص عن كابتن غزالى ، أثار لدي رغبة لا تقاوم في زيارة السويس العظيمة واللقاء بهذا الشاعر البطل الذي ، كما نجيب محفوظ ، لم يغادر مدينته قط ، والذي أصبح جزءاً من تاريخ مصر وحركتها الوطنية. وكنت سمعت عنه ، قبلاً ، وقرأت بعض أشعاره التى تفيض ثورة وجمالا. وتوطدت صلتى أكثر بسيرته وشعره عندما حكى لى الصديق الشاعر الراحل جيلى عبد الرحمن عن بطولاته النادرة إبان العدوان الإسرائيلى على مدن القناة ، وكيف كان رياضياً شهيراً وشاعر عامية مصرية يعب من تراث المدينة العريق ، وكيف قاد فرق المقاومة المسلحة وألهم بأشعاره أبناء مدينته الباسلة ، وكيف استطاع شخصيا أن يصطاد ببندقيته عشرات الصهاينة ، وحال بينهم وبين تدنيس أرض السويس الطاهرة بأحذيتهم القذرة!

هناك ، وتحت ظل شجرة وارفة ، وسط مساحة خضراء فى قلب المدينة التقيت به. سبعيني أسمر فارع الطول ، يحدثك وجهه البشوش قبل لسانه الذرب. ومن حولنا رصت مقاعد الحبال القديمة كالمدينة ذاتها ، وأمامنا مناضد عليها أطباق الكشرى الشهية ، وأخرى ملئت تمراً ، بينما كانت تطوف علينا صواني الشاى تتوسطها حزم النعناع الطازج بنكهته الفواحة. قال لي كابتن غزالى ، بصوته العميق ، إن الشباب كانوا يضعون خططهم وأهدافهم تحت هذه الشجرة ، فأصبحت في ما بعد رمزاً للمقاومة ، يلتقى في ظلها ، يوم الجمعة من كل أسبوع ، أبناء المدينة كباراً وصغاراً ، يستقبلون ضيوفهم من شتى أنحاء مصر والعالم العربى ، يسمعونهم أشعار المقاومة وأناشيد النصر المحفورة على سيقان الشجر وجدران المدينة وصفحة البحر!

وشهدنا طقوس حفل (الضمَّة) ، إحدى أهم وأجمل الطقوس لدى السوايسة ، حيث يجتمعون في حلقة يعزفون على آلة (السمسمية) المعروفة على امتداد مدن القنال ، ويرتفع الغناء والجميع يرددون خلف المغني ويضبطون الايقاع بتصفيق بديع ، وينزل أحدهم إلى الحلقة ويبدأ رقصاً تعبيرياً حماسياً ، ثم يتدخل (الردَّادة) ، أي الكورس ، لتبدأ أغنية أخرى ، وهكذا. وأخبرني الرجل الجالس إلى جواري بأنهم كانوا ، فى تلك الليالي الصامتة إلا من طلقات الرصاص وأزيز المدافع ، يتحلقون حول كابتن غزالى وأنغام السمسمية يستمدون منهما طاقة المقاومة لكارثة العدوان: "فات الكتير يا بلدنا ما بقاش إلا القليل/ بينا يللا بينا/ نحرر أراضينا/ وعضم ولادنا نسنُّه نسنُّه/ ونعمل منُّو/ مدافع .. وندافع/ ونجيب النصر/ هدية لمصر".

أطلقت تلك المجموعة على نفسها (فرقة البطانية) ، تفرشها وتجلس على الأرض تعطر الأجواء بالغناء الجماعي. كانت غالبية أعضاء الفرقة من عمال البترول واليومية والموظفين الصغار وأصحاب المهن البسيطة ، فرقة من الشعراء الحفاة والعازفين والمغنين والردَّّادين جمعتهم حملة الدفاع عن مدينتهم الغالية. ذاعت شهرة الفرقة بين الجميع مدنيين وعسكريين ، وتغير اسمها لاحقاً إلى (فرقة أولاد الأرض). وجابت مواقع القتال على طول القنال تغنى للمقاومة وتستنهض فى النفوس روح الاستعداد لمعارك طويلة قادمة.

السبت:
------------------

ذات ظهيرة من صيف 1992م ، قبل سفرى المغاضب من السودان ، وأنا أسير هائماً حزيناً ، بين نادى ناصر وميدان أبى جنزير بالخرطوم ، سمعت فجأة جلبة وصراخاً خلفي! إلتفت ، فرأيت جمهرة من الناس بعمائم يعلوها غبار الحافلات والبكاسى ، وما لا حصر له من شباشب (تموت تخلى). ورأيت ، قرب حائط المدرسة العتيقة ، بضع دواب على ظهورها صفائح اللبن ، وبين فكوكها حزم البرسيم. إقتربت ، فرأيت بغلين ، أستغفر الله .. رجلين عفيَّين يجَّران بغلظة وعنف صبيَّة جنوبية فى العشرينات ، وكلما زادا في جرها ، زاد صراخها واستغاثتها . قلت لعسكرى ثالث يحمل كرباجاً دون أن يشارك في الجر: "البت دى ياخي عملت شنو أصلو عشان يتعمل فيها كده؟! أجابني: "دى واحدة مطلوقه ماشه زى العريانة فى الشارع .. خليها تتأدب هناك في الخيمة"!

لن أزعج القارئ بباقي القصة ، لكننى أود أن أوثق هنا ، ربما لتاريخي الشخصي ، أننى ما زدت غير أن نطقت بكلمة أو كلمتين في مقام نصرة حمامة تكالبت عليها مخالب الضواري ، ظاناً ، وبعض الظن إثم ، أن ذلك من حقي كمواطن صالح يسدد ضرائبه ، فاعتبروا ذلك (معارضة عضلية) مني أفضت إلى تحملي النتائج الوخيمة (لشهامتي) ، آسف .. أقصد (لحشر أنفي) أكثر من اللازم في ما لا يعنيني!

كانت تلك هي إحدى تفصيلات المشهد الذي بدا لي فيه (الوطن) بأكمله ذليلاً بين ذراعين هائلين وثالثهما لا يفلق ، لكنه سعيد جداً بجلب الحجارة! وعقب كل تفصيلة من تلك التي تكررت أمام عيني في وجود جمهور صار يرغم ، تدريجياً ، على الانسحاب من المشهد كله ، كنت أموت وأحيا ، في اليوم الواحد ، ألف مرة ، غضباً ورعباً! ولا أشك ، الآن ، لحظة ، في أن ذلك بالتحديد هو ما أورثني ، مع الزمن ، (ضغط الدم) الذي أعاني منه حالياً ، إذ ليس في حياتي سبب آخر ، فلا أنا من المدخنين ، ولا من الانفعاليين ، ولا ممن يكثرون من تناول الملح!

عامان مرا ، ثم عام آخر ، وأنا أضغط على نفسي لأتحمل ، لكنني ، في النهاية ، خرجت! لم أختر القاهرة ، ومع ذلك بدأت هجرتي بها ، ثم شاءت الأقدار أن أقيم فيها كل تلك السنين. كانت محاولة للتماسك وعدم السقوط تحت حوافر القهر! لم أتعمدها ، فقد كان لي في الوطن ما يكفي العمر حلماً وغاية ، لكنها جاءت هكذا ، بغتة ، مثلما يفجؤك ، آخر الليل ، لص مدرب يتسور بيتك ، أو صديق فقير يقرر بيع كليته لثرى مريض! نعم جاءت هكذا ، ثم استمرت ثلاثة عشر عاما تحت ظلٍّ لا بأس بهدوئه في ضجيج القاهرة وزحامها! ثم جاء وقت كان لابد فيه للخيمة من أن تستأنس ساكنها ، وتستدرجه لدواعي العيش الجديد ، وتغويه بالاستمرار في النأى عما يعطل الحواس و يربك انتظام دورة الدم!

إلتحقت في البداية بمركز لفنون الطباعة تبدأ الحركة فيه عند الثامنة صباحا ، ولا تتوقف قبل الثامنه مساءً ، وأحيانا كثيرة لا تتوقف أبدا! أما الرفيق فكان الكتاب يفرج كربي صفحة صفحة!

في تطور لاحق ، كما يقول محررو الأخبار ، أقنعت أصحاب المركز بتأسيس دار للنشر ، حيث أصدرنا ، خلال فترة وجيزة ، كماً كبيراً من الكتب والدوريات المصرية. ورغم ضغوط العمل وصعوبته ، حيث كان مطلوباً منى أن أقود خمسين شاباً وشابة ، وأن أتحمل ساعات العمل التي زادت حتى بلغت ، أحياناً ، ثمانية عشر ساعة ، وأن أتعاطى مع عملاء من كل شاكلة ولون ، وأن أتحلى ، فوق ذلك ، بالصبر على شطحات رئيس مجلس الإدارة ، إلا أنني تعلمت الكثير خلال تلك السنوات. صحيح أنني لم أبدأ من فراغ ، فقد تعلمت (أسرار المهنة) في بلدي ، لكن ما تعلمته من خبايا فنونها فى مصر لا يقدر بثمن!

بعد سنوات ثلاثة من الكدح المتواصل ، احتجنا للاستعانة بالمزيد من الكوادر ، فكان أولهم الصديق الفنان التشكيلى عادل كبيدة ، المقيم ، وقتها ، بالقاهرة ، إضافة إلى مجموعة من شباب مصر. ثم حدث أن تقدم لنا الصديق منصور خالد ، وكان مقيما أيضاً في القاهرة ، بمخطوطة كتابه (جنوب السودان فى المخيلة العربية) ، على أن يصدر في القاهرة ، باسم دار (تراث) التي قام بتسجيلها فى لندن. إنجازنا لذلك الكتاب حفزنا ، عادل وشخصي ، لنبدأ في نسج خيوط ملونة للحلم بدار نشر تخصنا. لكن حكاية العين البصيرة واليد القصيرة تدخلت لتحول دون تحقيق حلمنا فى ذلك الوقت ، فاكتفينا بإنجاز بعض الأعمال الصغيرة بعد الدوام ، نشبع بها هوايتنا المفضلة ونجرب فيها أدواتنا المتواضعة.

عاد عادل إلى الخرطوم على ظهر موجة عاتية من الحنين للوطن ، والتحقت أنا بعمل فى إحدى السفارات العربية. وبدأت أعد وحدي لإنشاء مكتب للتجهيزات الفنيه ، كخطوة أولى صوب تأسيس دار للنشر ، وقد نفذ هذا المكتب ، بالفعل ، العديد من أعمال التصميم لكبريات دور النشر المصرية ، كدار ميريت ودار الثقافة ودار العلوم وغيرها.

ثم تعرفت على محمود صالح ، رئيس مجلس إدارة مركز عبد الكريم ميرغنى ، الذى كلفنى بتنفيذ مطبوعات المركز. كانت تلك هى البداية الجادة لتجربة جمالية وتقنية تراكمت وتطورت بفضل الصدور المنتظم للكتب في مواسم بعينها. وقد لاقت من الترحيب والقبول ما شجعنى على اتخاذ الخطوة التى أنا بصددها الآن: تأسيس (دار مدارك للطباعة وللنشر بالخرطوم) يشاركنى همومها صديقي حامد محيى الدين (الطبري).

هكذا ، ما زلت أمضي في مسارات الكدح بما يقتضي الوعي بضرورة اللحظة الراهنة في مشهد الحلم المستقبلي. أول تلك المسارات (الشعر) ، بالقطع ، فهو العذاب اللذيذ الذي لا فكاك لي منه ، أحاول عبره الدفاع عن ذلك الحلم ، ولو بين أكمام السحاب! لكن مستويات نشاطى وحركتى تتداخل وتتعدد ، فتمد ساقيها خارج نطاق الأدب ، حيث أجدني مهموماً بقضية النشر باعتباره الأداة الأكثر أهمية بالنسبة للمنتَج الفكري والابداعي السوداني ، والمؤشر الحي على حركة الوعي.

أعرف أنها معركة الدفاع عن الروح ، عن الأحلام المؤودة ، وعلينا أن نتهيأ لها مدججين بذاكرة لا تتراخي ، فمتى كان البحر وديعاً كي تأمنه قواربنا حتى وهي مشدودة إلى حبالها؟ وأعرف أيضاً أنه ضرب من الاعجاز أن نفلح في تحديد شجرتنا الضائعة وسط هذه الغابة الكثيفة ، لكن لامفر من تكرار المحاولة .. المرة تلو المرة ولو رسبنا عشرات المرات! وأعرف كذلك أن هذا مخاض مهلك ، ولكنى أتحدى ، فى ذات الوقت ، أن يأتينى فاسق بنبأ مخاض أقل كلفة يفتح الباب لهواء نقى جديد!

الأحد:
-------------

ما دخلت مكتب صديقي الكاتب محمد هاشم ، صاحب ومدير (دار نشر ميريت) فى وسط القاهرة ، جوار منتدى الكتاب والفنانين المعروف (بالجريون) ، والتي استطاعت أن تحتل موقعها وسط دور النشر المصرية والعربية فى زمن قياسي ، إلا ووجدته غارقاً مع أصدقائه من الكتاب والفنانين في سحائب من دخان سجائر الكيلوباترا! وبما أنني من خصوم التدخين الأشداء ، فإنني غالباً ما أتحاشى زيارة مكتب محمد ، مكتفياً باستخدام التليفون كلما اشتقت إليه أو دعت الضرورة! لكنه هاتفني ، في الاسبوع الماضي ، وأصر على حضوري إليه لأمر مهم. ولما كثر إلحاحه توكلت على الله وذهبت مكرهاً!

فتحت باب مكتبه ، فتسابقت أمواج الدخان الكثيف تغمر أنفى ، وتحجب الرؤية عن عيني ، حتى كدت أعود من حيث أتيت! غير أن صوت محمد المرح المضياف كالعادة سرعان ما فرقع في أذني: "أهلاً أهلاً إلياس .. أدخل .. أدخل ياراجل ، أنا عايز أعرفك النهار ده على فنان عظيم"! وبين الأبخرة الكثيفة وصوت محمد المبحوح ، نهض شيخ شديد النحافة ، بجلابية صعيدية ، وشعر أبيض ، وغليون ينفث الدخان (على جميع الأصعدة) ، يصافحني بيد مرتعشة ، وما أن تفحصت ملامحه حتى تبينت أنه شاعر العامية المصرية الأكبر .. أحمد فؤاد نجم. بادرنى بترحيب عفوي: "محمد كلمني عنك كتير .. من صغري والله وأنا بحب السودانيين .. إزي السودان"؟! أنقذنى محمد من الإجابة الصعبة ، راوياً له قصتى (البايخة أوي) ، وأننى مقيم فى مصر منذ زمن طويل .. الخ. وعلى حين كان الشاعر الشيخ يجلسني بمودة إلى جواره ، كان شريط طويل من الذكريات يدور في ذهني.

كنت فى المرحلة الثانوية ، وكان جاري فى الفصل ثورياً بالوراثة ، فوالده النقابي اليساري الفذ ظل ضيفا مستديماً على سجون النميرى مند 1971م. وحدث أن أصيب زميلى هذا بكسر في رجله ، فذهبت أعوده ، فإذا بى أفاجأ بمكتبة على طول حائط الصالون تخص والده ، فقمت أتمعن فى العناوين. بعد لحظات قال زميلي "أسمع .. عايز تسمع شعر جد جد"؟! ودون أن ينتظر إجابتي وضع شريط كاسيت في جهاز التسجيل وأداره. سمعت لأول مرة مرثية نجم والشيخ إمام للمناضل الملهم جيفارا ، وقصائد أخرى يسخران فيها من الفشل الذى قاد إلى الكارثة فى أعلى المراتب والمستويات! ولم أغادر دار صديقي حتى وعدني بطبع نسخة لى من ذلك الشريط.

لقد تزامن ظهور هذين المبدعين العبقريين مع انفجار حركة الطلبة (1968 – 1977م) ، وبداية من يناير 1972 بشكل مخصوص ، كما يؤرخ لذلك الناقد والشاعر هشام السلامونى. ومنذ ذلك الحين أصبحا نشيد إنشاد الثورة والغضب والرفض فى جميع أنحاء الوطن ، ومثلا أول جريدة معارضة علنية ، بأسلوب ومنهج فنى ، في تاريخ مصر عقب ثورة يوليو 1952م ، واستمر صدورها لسنوات طويلة.

الإثنين:
---------------

خطب المنصور يوماً فقال: "منذ أن وُليت عليكم رفع الله عنكم الطاعون"! فقام رجل في المجلس وقال: "لأن الله أكرم من أن يجمع علينا المنصور والطاعون"!