النقد السياسي والاجتماعي.. من مدعي النبوة إلى الحشاش!!

النقد السياسي والاجتماعي.. من مدعي النبوة إلى الحشاش!!


07-19-2007, 08:33 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=140&msg=1184830409&rn=0


Post: #1
Title: النقد السياسي والاجتماعي.. من مدعي النبوة إلى الحشاش!!
Author: jini
Date: 07-19-2007, 08:33 AM

Quote:

يتترس الناس في عصرنا الحاضر خلف الحشاشين لتسريب تعليقاتهم السياسية والدينية والاجتماعية وخاصة تلك الآراء والتعليقات التي تتخذ شكل المعارضة للسائد السياسي أو الاجتماعي فيتم طرحها على شكل طرائف ونوادر. والذي يكسبها صفة القبول في المجتمع ثلاثة أمور أولها أن قائلها حشاش فيه شبهة غياب العقل والإدراك ويخرج بالتالي من طائلة المحاسبة على قوله بصرف النظر عن فعل التعاطي نفسه الذي يصبح من المسكوت عنه في هذا السياق، والثاني أن الحشاش يأتي في صيغة النكرة غير المخصصة وليس منصوصا على شخص بعينه فهو بالتالي لا أحد، والثالث أن التعليقات تأتي في صورة طرفة أو نادرة التي يطلق عليها حاليا النكت، تثير الضحك، إما في صورة مفارقة منطقية أو تلميحات ساخرة لأشخاص لا يمكن المساس بهم أو نقد لاذع لتابوهات يعاقب على التعرض لها قانون الدولة أو أعراف المجتمع، وتنتشر مثل هذه النكت في المجتمع بسرعة ويتداولها جميع أفراده على مستوى الشرائح الأفقية أو التراتبية الرأسية لا تجد لها منكرا أو رافضا إلا ممن يرون أن نسبة هذا النوع من النكت للحشاشين، وتصويرهم فيها بهذه الصورة، فيهما تسويغ لهذه الشخصيات لتصبح مقبولة اجتماعيا بينما هي في معايير إدارات مكافحة المخدرات مخالفة قانونيا.

والمفارقة الغريبة هي أن الحشيش استخدم من قبل بعض الحكام والمستعمرين في عصور مختلفة لتغييب وعي الشعوب المحكومة كما كان يحدث في مصر الفاطمية والمملوكية حين كان المشاعلية من جند السلطان يقومون ببيع الحشيش للناس، وكذلك في الشرق الأقصى إبان الاستعمار الفرنسي، ولكنه ارتد على السلطة بالنقد من قبل الحشاشين أنفسهم، ولكنها بقيت في الحالين مادة للثقافة الشعبية استخدمها الشعراء والأدباء والصوفية، فنظمت فيها الأشعار وألفت فيها الرسائل والخطب وحفظت كتب التراث في العصور المتأخرة نماذج شعرية وقصصا وحوادث تاريخية عديدة واحتفظت الهيئة العامة للكتاب بمصر بمخطوطات عدة في الحشيش والقنب، وقد تخلل تاريخ تعاطي حشيشة الكيف أوقاتا منعت فيها وفرضت عقوبات على من يتعاطاها مقترنة بالقهوة والدخان. إن شخصية الحشاش التي استدعيت من العصر الفاطمي والمملوكي كانت تطويرا لشخصية أخرى تقوم بالدور نفسه وهو النقد السياسي والديني والاجتماعي، وتزداد هذه الشخصية بروزا وظهورا كلما زاد جور الحكام أو اضطربت الحياة السياسية أو ازداد القهر الاجتماعي، والشخصية التي كانت تقوم بهذا الدور في العصور الماضية وبالذات في العصرين الأموي والعباسي هي شخصية المتنبئ او مدعي النبوة والمجنون والموسوس مثل شخصية جعيفران وماني وبهلول ورأس النعجة والصوفي كالجنيد وسمنون وبعض النساء كميمونة وبخة وريحانة، وتشترك جميع هذه الشخصيات في الصفات التي تبعدها عن طائلة العقوبة وهي في ادعاء النبوة أكثر خطورة لأن حكم ادعاء النبوة عند عدم التوبة القتل ولذلك يتم تصويره دائما بصفات هي أقرب إلى الجنون، فصاحبها يغيب عن العقل متى ما هاجت به الصفراء وفي هذه الحالة فقط يتم تسريب كل عبارات النقد أو الوعظ أو الهجوم على السلطان أو أحد أعوانه أو نقد رجالات السلطة، وبغياب العقل يأمن العقوبة لأن صاحبها مرفوع عنه القلم، ومتى ما أفاق وعاد أو عاد إليه عقله يعود أديبا حكيما أو شخصا هادئا أو ينطلق هاربا بعد أن يقول ما يريد قوله قبل ان تمتد إليه يد السلطة.

وأكثر من استخدم هذا الأسلوب أبو العباس محمد بن يزيد المبرد المتوفى سنة 286هـ الذي عرف عنه زيارته للبيمارستانات والمقابر ولقاؤه بالمجانين ومحادثته لهم، ويسرب من خلال قصصهم كل آرائه أو آراء المجتمع في ذلك العصر من الخلفاء والولاة والقادة وحتى العلماء والأدباء وأمور الناس عن طريق المواعظ أو الشعر أو التعبيرات المختزلة القصيرة التي تشبه التوقيعات إلى أن تأسست بعد ذلك أدبيات هذا الفن فيما يعرف بقصص عقلاء المجانين، ولعل خير من يمثل ذلك المجنون الذي كان يركب قصبة كل يوم اثنين وخميس في عهد الخليفة المهدي العباسي فإذا ركب في هذين اليومين فليس لمعلم على صبيانه حكم ولا طاعة فيخرج معه الرجال والنساء والصبيان ويصعد على تلة ويحاكم الخلفاء عبر عصور الإسلام فيبدأ في عصر الخلفاء الراشدين بالخليفة أبي بكر الصديق متمثلا في غلام أمامه ويخاطبه قائلا: جزاك الله خيرا يا أبا بكر عن الرعية فقد عدلت وقمت بالقسط وخلفت محمدا عليه السلام في حسن الخلافة ووصلت حبل الدين بعد حل وتنازع وفرغت منه إلى أوثق عروة وأحسن ثقة اذهبوا به إلى أعلى عليين، ثم ينادي على عمر فعثمان فعلي رضي الله عنهم، ثم يطلب معاوية فيجلس بين يديه غلام فيقول له: أنت القاتل عمار بن ياسر وخزيمة بن ثابت ذا الشهادتين وأنت الذي جعل الخلافة ملكا واستأثر بالفيء وحكم بالهوى وبطر بالنعمة وأنت أول من غير سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونقض أحكامه وقام بالبغي، اذهبوا به فأوقفوه مع الظلمة، ثم يقول هاتوا يزيد فيجلس بين يديه غلام فيقول له: أنت الذي قتلت أهل الحرة وأبحت المدينة ثلاثة أيام وانتهكت حرم رسول الله وآويت الملحدين وبؤت باللعنة على لسان رسول الله وقتلت حسينا وحملت بنات رسول الله سبايا على حقائب الإبل اذهبوا به إلى الدرك الأسفل من النار، ويتتابع الولاة عليه حتى يصل إلى عمر بن عبد العزيز فيقول هاتوا عمر فيؤتي بغلام يجلس بين يديه فيقول: جزاك الله خيرا عن الإسلام فقد أحييت العدل بعد موته وألنت القلوب القاسية وقام بك عمود الدين على ساق بعد شقاق ونفاق اذهبوا به فألحقوه بالصديقين، ثم يتناول بقية خلفاء بني أمية حتى وصل إلى دولة بني العباس فسكت فقيل له: هذا أبو العباس أمير المؤمنين قال: فوصل أمرنا إلى بني العباس ارفعوا حساب هؤلاء جملة واقذفوا بهم في النار جميعا.

غير أن هناك اختلافا جوهريا بين أسلوب المتنبئ والمجنون القديم وأسلوب الحشاش المعاصر في أن الشخصية القديمة تستخدم الأسلوب الأدبي والوعظ والشعر في توصيل رسالتها وتميل إلى إثارة التفكير أو اللعبة البلاغية والإسهاب في حين أن الشخصية المعاصرة تستخدم التعبيرات الشعبية البسيطة الدارجة والعبارات القصيرة وتميل إلى الإضحاك وإثارة الدهشة والاختصار والتكثيف وهو ما يفرضه طابع كل عصر.
عثمان محمود الصيني

* كاتب وإعلامي سعودي