أوغلوا في اليقين برفق ..

التوتر لا يغادر إلا ريثما يعود محملاً
بجرعات إضافية من أرق كاد أن يستوي على سوقه
وعرى التماسك ترقبه بحذر .. الفرح يأتي كنسمة صيف
في سماء فضاء مسطح .. فقراء نزعوا من
أوطانهم التي لم تعد تحمل صفة الوطن .. ولا توفر
الملاذ .. فأي وطن في زمان المسغبة ..
أين الحرية والحب ؟
أصبحا مجرد جزء من مخزون الذاكرة رغم
دعاوى أنهما حاضران .. والناس (من صعوبة
البكاء يضحكون) .. أصحاب الحظوة الرثة يقهقهون
على أشلاء الفقراء وبعض ثقافات اللزوجة تحيك
الأوهام أملاً، ولا زال هناك من يترنم (بعض الرحيق أنا
والبرتقالة أنتي) .. وآخر يردد (هنالك مركز
يتراجع .. وهامش يتقدم) .. وفي كل
ركن حياء مكسور .. وفواجع أصبحت
لا تثير الحواس .. لم تعد هنالك مجموعة
لا يجوع فيها أحد إلا إذا جاع كل أفرادها
فالقابض على أنانيته يؤمل في النجاة
على حساب الفرح .. وثوابت التوق نحو
الغد حاصرتها الخطوب .. فأعيدوا حسابات
الحزن الجديد وأوغلوا في اليقين برفق .. ونواصل!!

كان عمي الصافي يحمل جوز صفائح من الماء
منذ قبل آذان الفجر كل صباح .. وجريـــاً
يواصل حتى يرضي كل زبائنه .. وهو يغنــي
.. يغني فجراً .. صيفاً شتاءاً يغني .. ويضحك


وفي يوم عادي من أيام السنة .. تمدد ومات
حزن عليه كل أهل القرية .. خاصة من كانت
تسعفهم ذات يدهم أن يستأجروا جهده لسقياهم
وهو يغني بلا أجر ..رحم الله عمي الصافي ..
عاش ومات .. وهو يعرف أن لا طريق غير طريق
البئر وبيوت القرية .. ولم يقرأ يوماً محمود
درويش:

حين يصفي الحساب مع نزعة البشرية
لا غد في الأمس
فلتتقدم إذا
قد يكون التقدم جسر الرجوع
إلى البربرية

نواصل ..

إذا لم يتكيء اليقين على حساب الواقع
فسيستحيل الخروج من دوائر الوهــــم
فمعالجة الواقع المتحرك بوتائـــــر
متسارعة بإستدعاء ثوابت أفكار محنطة
من مستودع الحكمة التي أورثت الهزائم
سيزيد هوة المفارقة، لنستيقظ عـــلى
الذهول الجماعي .. ونواصل ..

في محاضرة للطيب صالح قبل عدة سنوات
بمدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية
قال الروائي الكبير:

عند النظر إلى إنسان السودان أتعجب .. كيف
ظل ثابتاً ومحافظا على ذاته وهذا الوطن الكبير
بعد أن عاش عبر العصور حروب وكوارث وإستعمار
تركي إنجليزي مصري .. و(وطني) ..

وظل إنسان السودان مختلفاً تجده لا يملك شيء .. وحاقب
عصاتو فوق كتفو ومشنق طاقيتو ولا هامهيو أي
زول ولا أي شيء!! هذا أمر عجيب ..

بالأمس أحضر لي زميلي جعفر صورة بالجوال فيها
حفلة فيها نفر من قبيلة البطاحين (يعرضون صقرية)
وهي رقصة الصقر عند الفرح .. وكذلك عندما يقرر
القتال .. ويكتح التراب يمنة ويسرى ..
وقال لي:
بالله ديل ناس بنقدرو؟؟

تماسك الأمس دهدهته أعاصير اليوم .. وغامت
آفاق المستقبل وتسرب الفرح من بين أيدي
من كان يظن أن البأساء لا تفل حبال صبرهم
"والرقدو بدري أرتاحوا" كما تروي الحكمة
القروية.