Post: #1
Title: مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 06-22-2007, 11:17 AM
في مدرسة حي الضباط الأهلية ( مدرسة سوميت ) وذهبت إلى المدرسة , ووجدت أن بها مدرسان وأعداد التلاميذ في كل من الفصول الأربعة لا يتعدى الثلاثين في كل فصل واحد ولا يوجد كتب مدرسية وكراسات وطباشير , وكانت المدرسة تجاور مدرسة المؤتمر الثانوية الشهيرة وناظرها المقتدر الطيب شبيكة .. وذهبت إليه وكان عضواً في مجلس إدارة المدرسة , وشرحت له الموقف وكنت قد أعددت إعلاناً لطلب مدرسين لنشره في الصحف اليومية , ولم يتوان الأستاذ الشهم العم الطيب من تقديم كل عون , وأمد المدرسة بالكراسات من مخازن مدرسته , وعمل معي المعاينة في مكتبي لاختيار المدرسين الجدد , وتعاقدت على إدخال الكهرباء إلى مبنى المدرسة , وانتظمت الدراسة على غرار النظام والنهج في المدارس الحكومية .. وذهبت مغاضباً إلى الوزارة وقابلت المسئول عن التعليم الأوسط وكان في ذلك الوقت هو صاحبي القديم الذي قاسمته مكتبه في مكتب تعليم مدني عندما تعينت ناظراً لمدرسة المناقل الوسطى وهو الأستاذ دهب عبد الجابر , وأخبرته بما يجيش به صدري من احتجاج , ورد على بقوله بأنهم نقلوني إلى مدرسة قريبة من أهلي فقلت لهم أنكم نقلتوني من مدرسة نموذجية إلى خلوة – بهذا النص – وأني لن استمر في هذه المدرسة ولو استدعى الحال لاستقالتي لأنني اعتبر هذا النقل إنقاصاً لمركزي وتبخيساً لقدري , وقال لي بلهجته الحلفاوية (( خلاص بلاش حماقة .. حنشوف لك مدرسة كويسة ولكن خارج مديرية الخرطوم – مستعد تمشي )) , فرددت عليه بالإيجاب , فقال لي (( خلاص بعد أيام حيجيك جواب النقل )) وفي نهاية الشهر وصلني خطاب من الوزارة بنقلي إلى مدرسة عطبرة الأميرية الوسطى . في عطبرة ووصلت مدينة عطبرة بالقطار في عام 1962 , وحدثت لي مصادفة سارة فقد كان مسافراً على نفس القطار ضابط في الجيش تخرج لتوه من الكلية الحربية وكان ذلك الضابط الملازم ثاني أحد تلاميذي في مدرسة الأحفاد الوسطى بأمدرمان في عام 1954 , وهو متوجه الآن إلى وحدته بسلاح المدفعية والذي كانت رئاسته في عطبرة , وكانت حكومة الفريق عبود قد استنت أن يركب كل ضباط الجيش ابتداء من الملازمين الدرجة الأولى بالقطار , وكنت أنا بدرجتي الوظيفية جي G أركب الدرجة الثانية , ولكن تلميذي الضابط فارس حسني أصر بشدة أن يركب معي في الدرجة الثانية إلى عطبرة .. عطبرة مدينة كبيرة وكان بها رئاسة وورش السكة الحديد في السودان فهي مدينة عمالية في المكان الأول وكانت نقابة عمال السكة الحديد أكبر نقابة وأكثرها عضوية في السودان وكان لها القدح المعلى في الكفاح ضد الاستعمار وفي قيادة النضال المطلبي .. وتتميز المدينة بآلاف الدراجات التي تجري في شوارعها وتستحق أن يطلق عليها مدينة الدراجات , فكل عامل يمتلك دراجة وهي وسيلة التنقل الرئيسة في المدينة فهم يركبونها ولهم فيها مآرب أخرى منها حمل المتاع .. وتقع المدرسة الأميرية في حي موظفي السكة الحديد بمنازله الأنيقة والذي يقع بجوار النهر , والمدرسة عريقة ومن أوائل المدارس الوسطى في السودان , ويجاورها منزل أنيق للناظر , وبالمدرسة بستان مزروع بأشجار الفاكهة وملحق خارج أسوارها وملاعب من النجيلة لمزاولة الرياضة . وأرض المدرسة تكسوها النجيلة وتحفها بعض الأشجار , والمدرسة ذات النهر الواحد جيدة من جميع الوجوه سواء في مدرسيها أو تلاميذها أو تجهيزاتها , وكنت في كثير من الأحيان أجلس على كنبة في مكتب المدرسين , ويأتي أحد أولياء أمور التلاميذ ويتجه رأساً إلى الأستاذ عمر وهو رزين الشكل كثيف شعر الرأس أشيبه , بحسبانه ناظر المدرسة , ويوجهه الأستاذ عمر إلى , والأستاذ عمر درعمى ( خريج دار العلوم بمصر ) ويدرس اللغة العربية والدين بالمدرسة .. ويوجد في مخزن المدرسة عشرات الملفات القديمة المكدسة والتي علاها الغبار , وذات مرة دخلت إلى المخزن وأخذت اقلب في الملفات القديمة وعثرت في أحدها على خطاب كتبه الزعيم إسماعيل الأزهري عندما كان مدرساً بهذه المدرسة في الثلاثينات من القرن العشرين , والخطاب بخط يده وكان موجهاً لمفتش المركز بواسطة ناظر المدرسة يطالب فيه بتخصيص منزل حكومي له , فقد كان مفتش المركز الأنقليزي هو الحاكم بأمره وتتبع له جميع المصالح الحكومية وهو الذي يمنح المنازل الحكومية للموظفين .. وفرحت بالخطاب وأسرعت أعرضه على المدرسين , وشعر الجميع بشيء من الزهو لتدريسهم في نفس المدرسة التي درس فيها الزعيم رافع علم الاستقلال .. ومدينة عطبرة التي تدعى مدينة الحديد والنار والتي ذكرت أنه أولى أن يضاف إلى صفاتها مدينة الدراجات , أرى أن يضاف إليها أيضاً وصف مدينة الدين أي السلف , ويبدو أن ضئالة رواتب العمال وضخامة من يعولونهم يجعلهم يلجأون إلى الدين يستعينون به على توفير حاجياتهم ولقد تغلغل الدين في حياة الناس إلى أشياء عسيرة التصور مثل قص الشعر عند الحلاق وأخبرني صديقي العطبراوي أن الذين لم يعصمهم دينهم يتعاملون حتى مع بنات الهوى بالدين فقد كان البغاء علناً !وسألت صديق طبيب عن أكثر الأمراض شيوعاً بين مواطني عطبرة فأخبرني أن السل منتشر بين الناس , والمعروف أن هذا المرض الخبيث من أمراض الجوع وسوء التغذية , وتتميز هذه المدينة أيضاً بريح تهب عليها في الصيف تحمل أتربة كالدقيق في نعومته ( سفاية ) , ولا منجي ولا مهرب منها مهما أقفلت كل منفذ فأن الغبار الناعم يتسلل إلى داخل الحجرات .. ويغطي كل شيء , وذكرتني بهبوب أمدرمان عندما يصحو الواحد وهو متغطي في الحوش ليجد نفسه مرتسماً على الفراش وحوله تراب , ومن المستحيل النوم داخل الغرف لأنها تكون من الحر كالفرن ! وجاءني خطاب رسمي من المراجع العام من حكومة السودان يستفسر فيه عن العجز المالي في المصروفات المدرسية وهل سددته أم لا ؟! ولا عطاء خلفية عن الموضوع فأنه كانت المدارس بمصروفات يدفعها أولياء أمور التلاميذ , وألغيت المصروفات المدرسية بعد ثورة أكتوبر المجيدة في عام 1964 , وكان الناظر الأسبق قد امتدت يده إلى المصروفات المدرسية وبدلاً من أن يوردها إلى خزينة الحكومة وردها إلى جيبه , وكشفته المراجعة وقدم للقضاء وحوكم بالسجن وبرد المبلغ الذي أختلسه , ورددت على المراجع ذاكراً له أن الناظر المعني بالحادثة حوكم بالسجن وهو مازال يقضى العقوبة , وجاء مكانه ناظر آخر ونقل وجئت أنا بعد الناظر الآخر ولا دخل لي بهذا الموضوع , وما يهمني من إيراد هذه الحادثة هو مدى الحرص على المال العام والمتابعة اليقظة لديوان المراجع العام .. وكان أبناء الفقراء معفيين من المصروفات على أن يبرز ولي أمر التلميذ شهادة من المجلس البلدي من شيخ الحارة تبين أن الرجل فقير , وهذه الشهادة تسمى شهادة الفقر .. وأحضر لي أحد التلاميذ هذه الشهادة وقال لي أن والده مريض ولا يستطيع الحضور , واستدعيت أحد المدرسين القدامى بالمدرسة ومن أبناء عطبرة للتأكيد , فدهش المدرس وعنف الولد وقال لي أن والد هذا التلميذ من أكبر تجار عطبرة ! واكتفيت بأن قبلت الولد بالمصروفات الكاملة ولم تكن باهظة في ذلك الوقت ولعلها كانت ثمانية عشر جنيهاً في العام وتسدد على ثلاثة أقساط .. ولست أدرى هل اتخذت عطبرة أسمها من النهر أما اتخذ النهر أسمه منها , فهذا النهر في أوان فيضانه يكون طامياً عافياً في عنفوان رهيب ويندفع هائجاً محتملاً معه أخشاباً وحيوانات نافقة وزبداً رابياً وكثيراً من الغثاء , وبرغم هذا العنفوان والذي يهدد حياة من يجرؤ على الاقتراب منه فقد رأيت بعض الناس في بقعة معينة عند كوبري عطبرة وهم عراة الصدور يقفون على ضفة النهر وعندما يشاهدون من بعد كتلة من الحطب يلقون بأنفسهم في الماء ويسبحون لانتشالها من الماء وهم ينجحون في ذلك في أغلب الأحيان , وكنت أعجب بقوة ومهارة أولئك الناس ! ومن الأمور التي لفتت انتباهي أنه كان هناك بار أو متجر لبيع الخمور صاحبه سوداني ود بلد , وعلمت أن السلطات لا تمنح رخصة بار لمسلم ولذلك يحتال بعضهم مثل ذلك السوداني ويستخرج الرخصة بأسم شخص مسيحي .. وقد كان القانون يحظر بيع وتعاطي الخمور الكحولية مثل الويسكي والجن والكونياك للسودانيين ولكن يبيح فتح الانادي لبيع المريسة ولذلك كان يداهم بيوت إعداد العرقي وتقديم صانعاته للمحاكمة .. ولا يسع المرء أن يغادر هذه المدينة العمالية العظيمة دون أن يذكر حادثة تقف شاهداً على وطنية وأباء الضيم وصلابة المقاومة لأبناء هذه المدينة , فقد دأبت حكومة عبود أن تحتفل كل عام بيوم 17 نوفمبر وهو تاريخ إنقلابهم واستيلائهم على السلطة ويمهدون للاحتفالات بالأعداد لها قبل مدة كافية وكانوا يعتمدون على طلبة الثانوية في المشي في طابور السير الذي يسبق المباريات الرياضية المختلفة وكذلك المشاركة في الألعاب المختلفة , وكان الطلبة يزاولون التدريبات بكل همة ونشاط , وفي صباح يوم الاحتفال أضرب الطلاب , وأوقعوا المسئولين في ورطة عويصة , وخرجوا منها بأن أحضروا عمال البلدية وبعض عساكر من الجيش وألبسوهم زي الطلبة وسار الطابور في فوضى شاملة بين سخرية وضحك الجمهور .. وقد دفع الطلبة ثمن فعلتهم تلك غالياً , فقد فصل منهم ما فصل وأوقف من الدراسة من أوقف , وهكذا كان انتقام العسكر .. وجاءت ذكرى الاستقلال قي يناير من العام الجديد , وعملنا لافتة قماش كبيرة كتبنا عليها (( مدرسة عطبرة الأميرية الوسطى تهنئ الشعب السوداني بعيد الاستقلال المجيد )) , وعلقنا اللافتة على واجهة المدرسة وأحطناها بالأنوار في الليل , وكنا لم نفعل ذلك في احتفال ذكرى انقلاب 17 نوفمبر أو الثورة كما يقولون . ولم أمكث كثيراً في عطبرة بل بقيت فيها عاماً واحداً وفي نهاية العام الدراسي صدر كشف التنقلات وظهر أسمى مترقياً ومنقولاً ناظراً لمركز تدريب المعلمين بمدينة التونج في مديرية بحر الغزال بجنوب السودان .. ونزلت الترقية برداً وسلاماً على قلبي ولم أفرح بترقية من قبل ومن بعد قدر فرحتي بتلك الترقية فقد وصل راتبي إلى الخمسين جنيهاً شهرياً وهذا المبلغ حينذاك يمهر عروساً , وأكثر من ذلك أن الدرجة الجديدة دى إس DS تتيح لي السفر بالدرجة الأولى بالقطار وإذا دفعت مائة وخمسين قرشاً فأنني أسافر بعربة نوم , وكانت الدرجة الأولى في غاية النظافة والأناقة دعك عن درجة النوم الفاخرة والتي كان بكل كابينة سريران والخدمة فوق الممتازة وما عليك إلا أن تضغط على زر الجرس فيلبي الفرّاش النداء فوراً وكانت منعزلة عن بقية عربات القطار ولها باب خاص , كما كانت هذه الدرجة الرفيعة تتيح لي السفر بالطائرة إلى الأماكن النائية وأذنت شمس بقائي بعطبرة بالمغيب لتشرق من جديد في بقعة أثيرة من سوداننا الحبيب وهي جنوب السودان ..
|
|