ســـــمراء الدمن

ســـــمراء الدمن


06-18-2007, 09:14 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=100&msg=1182154466&rn=0


Post: #1
Title: ســـــمراء الدمن
Author: ودقاسم
Date: 06-18-2007, 09:14 AM


تجلس كل يوم في نفس المكان ، على ( بنبر ) صنعه حدّاد مجهول لم يستطع أن يجد ما يثبت به حق الملكية .. الكانون العتيد الذي تضعه أمامها ربما تكون قد ورثته من أمها حين ماتت ذات صباح ماكر .. هي الأخرى امتد إليها فكّ الفقر ، افترسها ، ولم تجد من يجعل على قبرها شاهداً ، فراحت في طيات النسيان مخلفة وراءها هذا الكانون وتلك الصبية السمراء لدرجة العناد . ثوبها النظيف يلف كامل جسدها فلا يترك منه إلا كفيها ودائرة الوجه الذي اختلطت وسامته بصرامة لا تخفى على أحد ... الجمر المتقد إزاءها ، والماء فوقه يغلي لتصل حرارته إلى أطراف الجالسين ، لكن الظل الممدود والذي تجود به شجرة النيم المخضرة أبدا ، والرطوبة المنبعثة من الأرض المرشوشة بالماء ، كلها تقاوم انتشار الحرارة ، فتتراجع منهزمة . وأكواب الشاي الزجاجية النظيفة يتم تعريضها على بخور المستكة المتصاعد فتطرد ( القريفة ) من أدمغة الجالسين ، وترد الذباب خاسئا إلى كومة الأوساخ التي أمرت البلدية بتجميعها ثم أهملتها . والسمرة تملأ فضاء هذه الجلسة ، تنبسط الأسارير ، وتخف حدة الغبار المتطاير فوق هامات الجالسين ، والأصوات تخرج من أفواههم لا هي عالية فتزعجك ، ولا هي منخفضة فتدفعك إلى تصنت يخجلك.. وهنا تكون الحصيلة بيئة خاصة نشأت تحت هذه الشجرة .. بيئة لا تشبه الظروف التي أوجدتها ، ولا تلغيها تماما ، لكنها تقاومها بمهارة ، وحنكة ، ودراية ..
تبدو الجلسة من أول وهلة وكأنها جزء من دائرة الفقر المغلقة التي تعيشها الغالبية العظمى هنا ، فتمسك بتلابيبهم ، وتبقيهم داخلها يحومون في دوامة من النقص والسعي إلى سد الفجوات التي تتعاظم وتتكاثر بدلا من أن تتراجع . وهم في ذات الوقت يراقبون الأغنياء يمرون من حولهم داخل الدواب ذات الدفع الرباعي والمظللة عمدا في محاولة لتغطية العورات المكشوفة أصلا ، فلا يجدون مع هؤلاء وسيلة لاقتسام بعض هذا الغنى ، ويترفعون عن إثارة الفوضى وإعلان الحرب . والفقر له وجهان ، فهو يكون باردا كالصقيع ، وحارقا كاللهب .. وكلاهما – الصقيع واللهب - ينتظران قوة قاهرة تكسر حدتهما ، وتهزمهما .. وحين ينتصر الفقر علينا ننكسر نحن أمامه فيمرح فينا كيف يشاء ، مرضا ، وجهلا ، فيرمينا بالقعود ، ويسوقنا إلى الموت الزؤام فلا نجد منه فكاكا...
يقول صحفي متجول يكسب رزقه من معسول الكلام :
إنّ بائعات الشاي يشكّلن مظهرا غير حضاري ...
إنّ بائعات الكسرة يفتقدن أبسط قواعد الصحة ...
وينسى – هذا المخبول - كما نسي من قبله أقوامٌ استمرأوا إلغاء الذاكرة ، أنه حين يكون التوزيع مختلا ، يعمد المكتوون بنيران الفقر أو صقيعه إلى انتزاع لقمة العيش من أفواه المفترسين فتتسع الجلسات السمراء تحت ظلال أشجار النيم المخضرة ، ويطرد الذباب بعيدا ، بعيدا ، تحت ضربات بخور المستكة ، ويئن الظلم ، وينكشف القبح الذي كان يغطيه زجاج العربات المظللة ..
هذا صراعٌ طويلٌ يتمدد رهقا ، وكدحا لا حد لهما ، لكن الثوب يظل كاسيا ، وجمر الكانون يظل متقدا ، ودائرة الوجه تزداد جمالا . إنه جمالٌ يستمد أصوله من سمرة الجلسات التي تبذر بذور الإنسانية بصبر وتأني وتبقى واثقة من أن الانتصار قادم حتى وإن انقضت سنوات العمر ... وسنوات العمر تمر والتضحيات تتراكم ، والصمت الرزين ، الطويل ، يزين المكان ، وفي داخله حراك يطيل أعناقا حاول الفقر تقصيرها .
هؤلاء السمر – وهي منهم وإليهم - يسجّلون كل يوم في دفاتر ذاكرتهم المعاناة التي أوجدها هذا الواقع المزري ، يعيشون معاناتهم في صمت ويديرون معركتهم بوسائل عديدة وتصقلهم التجربة ، فيسجلون تاريخا حافلا من الانتصارات تمتد من الصبح الباكر حتى المساء ، حين تدلق الصبية السمراء الماء المتبقي تحت شجرة النيم فتمتصه جذورها فتجود بمزيد من الاخضرار . والجالسون كلهم ينفضّون فيعودون إلى منازلهم حامدين شاكرين للواحد الأحد الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ... فهناك دائما ما يتبقى لتغطية جزء من علاج الأسرة ، وجزء من رسوم دراسة الأولاد ، وربما يبقى في جيوبهم بضع جنيهات تمكّنهم من مواجهة متطلبات التواصل الاجتماعي والأسري ، وإن لم يجدوا فهم يكتفون بابتسامة يرسلونها بكل الحب إلى كل الذين يحبونهم ..
سألتني ابنتي :
من هي سمراء الدمن ؟
قلت : هي المرأة الحسناء في منبت الجمال ...
هي امرأة خرجت إلى العلن بكامل سترها ، فأطعمت وسقت ، وسعت لصنع الحياة ، وبناء الأجيال ، وتوفير لقمة العيش لأفواه غفلت عنها موازين التوزيع العامة حين أصرت على الاختلال وأنكرت استحقاق العامّة ...
هي التي صارعت الفقر وحيدة فصرعته ، فأضحت رمزا للبذل والتضحية ... أخذت نصيبها من الأذى ، ولم تنس نصيبها من الدعة ، لكنها تمهل ، وتصبر ، وتسامح ، ثم لا تهمل .
وبعد انقضاء الليل الطويل ، وطلوع الفجر الصادح ، يصلي الجميع لله الواحد القهار ، فيقبل صلاة التائبين الصادقين ، ويستجيب لدعوة المظلوم ، ويرد على الجائرين ظلمهم ، ويعذّب من يشاء ، ويعذّب من يشاء .

Post: #2
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: معتصم دفع الله
Date: 06-18-2007, 09:31 AM
Parent: #1

يا سلاااام يا خال ..
والله اشتقنا لحكاويك الحلوة التي تمس الواقع ..
واشتقنا لقعدتنا وونستنا معاك ..

تحياتي للجميع بطرفك ..

Post: #6
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: ودقاسم
Date: 06-20-2007, 04:45 PM
Parent: #2

عصومي
كيفك ..
والله مشتاق ليكم كتير ، وما بنساكم خالص ...
وقد كنتم لي زادا وسقيا ...
وعايز أشوفكم في السودان ...
سلم لي على كل الحلوين ..

Post: #3
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: عمران حسن صالح
Date: 06-18-2007, 10:36 AM
Parent: #1

العزيز ود قاسم
لك التحية وأنت تقاسم أهلنا كل أشيائهم .. وبكل التفاصيل...
وحقيقي بدأت سموم السودان ومشاويرها ...
وكتاحته ...
وونسة حفلاته وحافلاته تتغلغل (مرة) أخرى في دمائك ..
فبدا شكل الحرف عندك أكثر عمقاً ووضوحاً ..
واقع عجيب
له مراراته ونكهته ...
...
راجع ليك ...ً

Post: #7
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: ودقاسم
Date: 06-20-2007, 04:58 PM
Parent: #3

عمران يا حبيبنا
كيفك والأسرة ..
والله يا عمران السودان مليان حكايات لي عينو ، بس داير ليهو فضا ,,, ةالفضا ده هو الحاجة الوحيدة الما موجودة في السودان ...
طبعا حان موعد إجازات مغتربي الخليج ،،، خلونا نشوفكم

Post: #4
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: عبد الله عقيد
Date: 06-18-2007, 11:01 AM
Parent: #1

ها هو ود قاسم يعود لتجلياته التي افتقدناها طويلا
ما زلت أحمل ذكرى (راس القايدة الما منو فايدة).. فهي من الحكايات التي تعلق بالذاكرة
لسنين..
سمراء الدمن أيضا من نفس الصنف واللون والرائحة..
لا فُض قلمك يا ود قاسم
وسلامات

بالمناسبة: خليت لي الرياض، جيت اداقرك في الخرطوم دي زاتا
والله كل ما أجي ماري بالمهندسين اقول يا اخواننا ما يلاقيني الخال؟!

Post: #5
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: احمد العربي
Date: 06-18-2007, 11:20 AM
Parent: #4

يا جماعه والله الجمال القدر ده
ما بنقدر عليهو
رفيع المقام الزول السحاب
ودقاسم سلام
عاطر المحبه

Post: #8
Title: Re: ســـــمراء الدمن
Author: نهال الطيب
Date: 06-20-2007, 08:08 PM
Parent: #5

هذا صراعٌ طويلٌ يتمدد رهقا ، وكدحا لا حد لهما ، لكن الثوب يظل كاسيا ، وجمر الكانون يظل متقدا ، ودائرة الوجه تزداد جمالا . إنه جمالٌ يستمد أصوله من سمرة الجلسات التي تبذر بذور الإنسانية بصبر وتأني وتبقى واثقة من أن الانتصار قادم حتى وإن انقضت سنوات العمر ... وسنوات العمر تمر والتضحيات تتراكم ، والصمت الرزين ، الطويل ، يزين المكان ، وفي داخله حراك يطيل أعناقا حاول الفقر تقصيرها .

أستاذ ود قاسم
شكرا جميلا على هذه الفسحة الوريفة

مودتي