مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس

مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس


06-13-2007, 04:35 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=100&msg=1181748927&rn=0


Post: #1
Title: مقتطفات من كتاب الطباشيرة والكتاب والناس
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 06-13-2007, 04:35 PM

في المناقل :
صدر كشف التنقلات في الربع الاول من عام 1959 ووجدت اسمي مترقياً الي ناظر ولفتح مدرسة جديدة في المناقل , ويجدر الذكر انه في ذلك العام فتحت مدرستان متوستطان حكوميتان فقط في كل السودان احدهما في المناقل والثانية في مدينة الكوة . ولملمت متاعي القديم وتوجهت الي الخرطوم .
وحال وصولي إلى الخرطوم والي مدينتي الحبيبة أمدرمان , توجهت في اليوم التالي الي
الوزارة حيث قابلت المسؤول عن التعليم الأوسط , وكان أول سؤال يجول بخاطري هو عن المناقل وأين تقع في خريطة السودان فقد كانت معلوماتي تتلخص في أن هناك مشروع زراعي كبير رديف لمشروع الجزيرة الزراعي في مساحته ولم أكن أعلم أن هناك مدينة بهذا الاسم ( المناقل ) , ولما سألت المسؤول عنها وجدت المسؤول في الجهل سواء مع السائل ! وقال لي عندما تذهب إلى مدينة مدني والتي يوجد بها مكتب تعليم مديرية الجزيرة والذي تتبع له المناقل فأنهم سيدلوني عليها , وعجبت من مسؤول يفتح مدرسة جديدة في مكان يجهله , وزودني بمنشورات إدارية ومالية لتنظيم العمل , وزودني أيضاً بملف يدعى ( فايل النظار ) , وهو ملف جرى إعداده من معهد التربية ببخت الرضا وهو بمثابة مرشد لإدارة المدرسة يهتدي به الناظر , وذهبت إلى شئون الموظفين لاستخراج استمارة السفر المجانية بالقطار ومعها استمارة العفش , ووصلت إلى مدني وتوجهت إلى مكتب التعليم حيث قابلت مفتش تعليم المديرية الذي رحب بي وطلب منى أن أضع تقويماً للدراسة للمدرسة الجديدة فقد كانت الدراسة قد بدأت بالفعل منذ شهر وعلينا أن نعوض هذا الشهر في التقويم الجديد , وطلب منى ان ابقي بالمكتب إلى أن تصل أثاثات و كتب المدرسة بالقطار من الخرطوم بحري و اشحنها في لوري و اصطحبها معي للمناقل , و قال لي أن المدرسة و التي ستبدأ بفصل واحد , سيكون مقرها في مبني المدرسة الأولية الصغرى , حيث سيخصص لنا مكتب و حجرة دراسية و مخزن و أما الداخلية فقد تبرع أحد أهل المناقل بمنزل لهذا الغرض , وهذه الترتيبات سوف تكون مؤقتة إلى أن تكتمل مباني المدرسة و ملحقاتها من الداخلية و منازل الناظر و المدرسين , و ستقوم مصلحة الخدمات الاجتماعية بمشروع الجزيرة ببناء المدرسة , كما ستقوم وزارة الري بالتنفيذ .
و هيئت لي ترابيزة مكتب في حجرة مكتب المفتش دهب عبد الجابر وهو شخصية لطيفة وشهم وخفيف الظل وساخر مثل كل الحلفاويين , وظللت أجيء كل يوم إلى المكتب واجلس بدون عمل , وحل أول الشهر ولم تصل شهادة آخر صرفية من الخرطوم والتي بمقتضاها احصل على راتبي مما سبب لي قلقاً وضيقاً , وصرت أتحدث مع الأستاذ دهب في هذا الشأن فقال لي باللهجة الحلفاوية المحببة : (( انت خاوتني شهادة أخر صرفية ماجات , شهادة أخر صرفية ماجات . انت عاوز كم وأنا اديك لحدي الشهادة ما تجي ))
وأعطاني مشكوراً المبلغ الذي طلبته والذي رددته له فيما بعد .
وكنت في مدني اسكن مع خال لي يعمل بالأرصاد في ميس يضمه وثلاثة آخرين ومكثت في مدني لمدة اسبوع حتى وصلت أثاثات وأدوات المدرسة , وتعاقدت مع لوري وشحنتها وركبت إلى جوار السائق وتوجهنا علي بركة الله إلى المناقل , وكان الأستاذ دهب قد سبقني في صباح نفس اليوم إلى هناك و لكن تأخيرنا في السكة الحديد لشحن العفش أخر أيضا تحركنا إلى المناقل و كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة صباحا و توقفنا عند نقطة للشرطة في آخر المدينة و هي المدخل و المخرج للمدينة , واطلع الجندي علي أوراق اللوري و سأل عن وجهتنا ثم أعاد الأوراق للسائق و تراجع للوراء ملتصقا باللوري , ورأيت السائق يخرج من جيبه ورقة من النقود و يمد يده خارجا إلى جانب اللوري و تناولها الشرطي , و استنكرت الأمر و سألت السائق لم فعل ذلك , فأجابني بأنه إذا لم يدفع له فانه يعاكسه بأي حجة و إن أي عربة داخلة أو خارجة تدفع للعسكري , و أضاف قائلا إن هذا المبلغ (ياكل) منه العسكري حتى (الكمندان) أي رئيس الشرطة ! , و قابلنا الأستاذ دهب في منتصف المسافة عائدا من المناقل بعربة مكتب التعليم , وقال لي انه مهد لي الطريق مع المسؤولين هناك و قال لي أن اذهب عند وصولي لمقابلة رجل اسمه إبراهيم سليمان في مطعمه في السوق, وذلك بعد أن اقدم نفسي لضابط المجلس الريفي و الذي هو ممثل الحكومة أو الحاكم للمنطقة , وذهبت إلى الرجل في مكتبه في مبني المجلس المحلي و استقبلني بحفاوة هو و نائبه و عرض علي عونه في أي حاجة تعرض لي و اخبرني أن أحد وجهاء المناقل تبرع بمنزل ليكون داخلية للتلاميذ و ان المدرسة ستفتح بمبني المدرسة الصغرى مؤقتا إلى أن يتم تشييد المدرسة و ملحقاتها و التي وضع الأساس لها فعلا , وطلب من نائبه علم الدين محمد أن يصحبني بعربة المجلس ليريني المدرسة و المنزل , و طلبت منه مقابلة إبراهيم سليمان , وذهبنا إليه و رحب بي بحرارة و قال لي أن منزله سيكون سكنا لي وهو أعزب و يقضي جل وقته في السوق و ينام هناك في معظم الأحيان , وهو يمتلك المطعم الوحيد في المدينة و كذلك الفرن , ولما علم أن أدوات الطهي الخاصة بالداخلية لم تصل بعد , أمدني بالحلل و كل أدوات الطهي الأخرى , و السيد إبراهيم سليمان رجل طويل نحيف اصفر اللون ابيض الشعر بلون فضي وهو من أهل حلفا ويتكلم العربية باللكنة الحلفاوية صريح إلى حد (الخشونة) , وهذه سمة غالبة في اخوتنا الحلفاويين و يقولون للأعور اعور علي عينه , والرجل من القلائل الذين قابلتهم في حياتي في مثل شهامته و كرمه , وقدم للمدرسة من الخدمات ما فاق الذي قدمه أهل البلد عدا السيد كوباوي و الذي قدم لنا منزلا ليكون داخلية للتلاميذ . و استضافني نائب ضابط المجلس بمنزله تلك الليلة . و في الصباح تأهبت لتصريف الأمور استعدادا لفتح المدرسة , وكان أول الأشياء هي فتح عطاءات الغذاءات و كنت قبل مجيئي قد نشرت إعلانا في الصحف اليومية بواسطة الوزارة طالبا تقديم عطاءات لتوريد الغذاءات للمدرسة الجديدة . ووصلتنا ثلاثة عطاءات و تكونت لجنة مني ومن رئيس حسابات المجلس و محاسب من المجلس لفتح مظاريف العطاءات و إجراء عمليات حسابية تشمل سعر كل صنف ومن ثم جمع القيمة الكلية للعطاء وبعد ذلك نختار اقل عطاء في القيمة و نوصي بقبوله و نرسل كل الأوراق الخاصة بالعطاءات إلى وزارة التربية و التعليم للموافقة و التصديق , ولم تأخذ هذه العملية وقتا طويلا فبعد اسبوع جاءتنا الموافقة بقبول اقل عطاء و كان للسيد محمد مصطفي من سكان المناقل , و سأخبر لاحقا عن هذا الرجل فيما سيلي من حديث . وقد عين مكتب التعليم بمدني للمدرسة طباخ و سفرجي و فراش , كما عينت الوزارة مدرسا ليقوم معي بالتدريس للفصل الواحد أي نتقاسم تدريس جميع المواد , و اكتملت التجهيزات للمدرسة الجديدة و بقي أن يعمرها التلاميذ الجدد و هم أربعون تلميذا أتوا من قري منطقة المناقل , وأتى إلى المناقل مفتش التعليم ليتولي عملية قبول التلاميذ , و جاء و معه كشوفات الناجحين ليختار منهم أربعين تلميذا و قد كان عدد تلاميذ الفصل لا يتجاوز هذا العدد أبدا , و كان الشرط الرئيسي للقبول هو عامل السن فلا يزيد السن علي اثنتي عشرة سنة , و كان الأولاد كبار السن يقبلون في المدارس الصناعية , وعقدت اللجنة بمكتبي و جاء كل تلميذ و معه ولي أمره , و فرغنا من العمل قبيل العصر فقد كان المفتش كثير الكلام و يمحص كل شئ ومن ذلك انه عرض علينا من الناجحين ولد طويل القوام وشك المفتش في سنه و قال له انت كبير و لذلك سأقبلك في المدرسة الصناعية بمدني , و دافع والد الولد عن ابنه دفاع المستميت قائلا بلهجته القروية ((جنابك الولد صغير , بس شايلنه كرعينه الطوال ساكت و الولد خيلانه كلهم طوال , علي الطلاق الولد صغير)) , ويتكلم الرجل بحرارة مرصعا كلماته بإيمانات الطلاق و المفتش يقول له الولد كبير وده واضح من طوله و يأمر الولد بان يرجع للوراء و يرفع جلبابه لأعلي ليكشف ساقيه , ثم يأمره أن يأتي للأمام , ويقوم المفتش من كرسيه و ينظر إلى ساقي الولد ثم يردد ((لا لا , الولد كبير , شوف رجلينه طوال كيف)) , و رغم ضيقي فقد وجدت في هذه المسرحية شيئا من الفكاهة , وتدخلت في الأمر و حاولت إقناع الرجل بان المستقبل للتعليم الصناعي و الفني و إن العالم المتحضر ينحو في التعليم نحو ذلك , ولم يتنازل الرجل , وحسم المفتش الأمر بان كتب أمام اسم الولد ((يقبل بالمدرسة الصناعية )) , و أمر الفراش بان ينادي علي الذي يلي الولد في الكشف , وخرج الرجل ثائرا وهو يحتج بملء صوته وطرق أذني قوله ((علي الطلاق ده ظلم الولد ما كبير)) .. وفرغنا أخيرا من المهمة و اخبرنا التلاميذ المقبولين بان يأتوا بعد غد للمدرسة و أن يحضر كل طالب فراشه معه لاننا نعطي الواحد منهم بطانيتين فقط إلى جانب السرير بالطبع و يشترك كل اثنين في دولاب صغير للملابس .
و كان المدرس الذي تعين للمدرسة شابا في العشرينات من عمره و تخرج حديثا من الثانوي و كان عثمان المدرس الجديد شابا نشطا مجدا طموحا و كان لي نعم السند في إدارة المدرسة و الداخلية , ولقد ابتعث بعد عدة سنوات الي الجامعة الامريكية ببيروت ونال الدكتوراة , وشغل فيما بعد رئاسة قسم التدريب بوزارة التربية والتعليم , و أما المتعهد محمد مصطفي فقد كان رجلا أمينا حلو الطوية طيب العشرة و كان يورد أجود الأصناف من كل صنف من الغذاءات وربما تزيد الكمية عن المطلوب , ولم أصادف بعد ذلك في المدارس العديدة الداخلية التي عملت بها متعهدا في مثل أمانته و نزاهته .. و سارت الدراسة منسابة كزورق يتهادى في مياه رائقة , وعاهدت نفسي أن أجعل من هذه المدرسة مدرسة نموذجية , وبذلت فيها خلاصة ما تعلمته من معرفة وأساليب تربية , وقد زرعت فيهم روح المسئولية وحب الحفاظ على ممتلكات المدرسة كأنها خاصتهم , ودربتهم على النظام فكان التلاميذ في الفصول عند المذاكرة مساءً لا تسمع لهم صوت وأن كانوا بلا رقيب من مدرس , وقد ألغيت الجلد واستعضت عنه بالكلمة الطيبة والنصيحة , ولا أذكر أننا جلدنا أحد التلاميذ إلا في حالات نادرة استعصت على النصيحة ..
وانقضى العام وبدأنا عاماً دراسياً جديداً , وصارت المدرسة فصلين , واستقبلنا تلاميذاً جدداً , وانضم إلينا مدرسان جديدان , أحدهما شيخ من خريجي المعهد العلمي بأمدرمان وهو الشيخ صديق العجب وهو من أهل أمدرمان ومن قدامى المعلمين في التعليم الأهلي والذين انضموا إلى وزارة التربية والتعليم مثلى , والآخر الأستاذ عبد الحليم من أبناء الخرطوم بحري .
وقبل نهاية العام الأول للدراسة اكتمل بناء المدرسة والداخلية وهى بناء فخم وبها داخلية كبيرة وأربع منازل للمدرسين ومنزل لناظر المدرسة .
وانتقلنا إلى مبنى المدرسة الجديد والداخلية والمنازل , وأصر المتعهد أن يذبح بنفسه كبشاً كبيراً أمام باب منزل الناظر والذي سأسكنه وجعلني أقفز فوق دم الذبيحة وهذه عادة سودانية لمنع الحسد وإبعاد الشيطان , والمنزل ويصنفونه بالطراز المتوسط Middle Type وهو مكون من غرفتين وحمام وبرندة وصالون وبرنده في واجهة المنزل ومطبخ ومخزن وتحيط بالبرندات نملية من السلك وللمنزل حوش كبير ويقع في نهايته مرحاض . وموقع المدرسة في الطرف الشرقي من البلدة ويفصلها عنه ما يشبه الوادي وقيل أنه كان يلوح لهم نور مصباح في ذلك الموقع وأن من يريد أن يعرف كنهه ويتبعه فأن النور يبتعد كل مرة ويحمل الشخص بعيداً إلى أن يتوه , ومن هنا كان إصرار المتعهد على ذبح خروف كرامة ..
ربما ليبعد الشيطان أو يرضيه , أو ربما قربان لله ليبعد عنا كيد الشيطان وهو الأرجح وكان المنزل قريباً ومواجهاً للمدرسة بينما منازل المدرسين على مسافة منها . وكان العمل جار في تسوية مشروع المناقل وتوزيع الحواشات ( القطع الزراعية ) على المزارعين , فخصصنا منزلاً لمفتش المشروع وجزءاً من مباني الداخلية الكبيرة ليكون مكتب للمفتش وموظفي المشروع , وخصصنا منزلاً للمدرسين العزابة ومنزلاً لشيخ العجب المتزوج الوحيد , ومنزلاً آخر بصفة مؤقتة لضابط التعليم الذي عين حديثاً وهو المسؤول عن المدارس الأولية في المنطقة . وعندما كانت المدرسة في أول طور إلى للبناء , أتاني في المنزل رئيس العمال Forman , وقال لي أن ضميره يؤرقه وأنه يريد أن يخلي مسئوليته أمام الله , واخبرني أن أساسات المدرسة معظمها رمال وأن كمية الأسمنت بها قليلة , والمفروض أن البناء ( بالمونة الحرة ) وأن تكون خلطة الأسمنت بنسبة عالية , وقال لي أنك إذا مررت إصبعك على أي جدار لتساقط الرمل من بين الطوب , وقل لي أن سلك النملية ومفصلات الأبواب والشبابيك والشناكل من اردأ الأنواع . وقال لي أنه مستعد أن يشهد بذلك , وذهبت معه وأخذت أجري إصبعي على الجدران فلا يثبت الأسمنت وينزل الرمل .. إذاً صح ما قاله الرجل , وإزاء ذلك كتبت تقريرا بالأمر موجها إلى وكيل وزارة التربية و التعليم , ووكيل وزارة الري التي تقوم بالتنفيذ , و بصورة إلى مفتش التعليم و تكونت لجنة من مهندسي الري للتحقيق في الأمر , ولما كان المهندس المشرف علي بناء المدرسة زميلا لهم , ابعدوا عنه الاتهام بالتلاعب في مواد البناء و عزوها إلى العمال الذين عملوا الخلطة و المشرف عليهم , أي الصقوا التهمة بالمشرف الأمين المسكين ! و لما عدت من العطلة الصيفية علمت أن عاصفة ترابية عنيفة قد هبت علي المناقل و انهار حائطان من بيوت المدرسين و قام المقاول بإعادة بنائهما .. و جاء عام ثالث علي المدرسة و اكتسبت شهرة واسعة بين مدارس الجزيرة و المناقل وطلب كثير من الآباء تحويل أبناءهم إليها , وتقدم لي والد أحد التلاميذ الدارسين بمدرسة المدينة عرب المتوسطة بطلب لتحويل أبنه إلى مدرستنا وكان أبنه بالصف الثالث وكان لدى مكان قد شغر في ذلك الصف , وأخرجت فايل النظار من الخزنة لأعرف الإجراء المتبع في هذا الشأن فوجدت أنه يمكن أن يتم تحويل التلاميذ من مدرسة إلى أخرى على أن يكتب ناظر المدرسة المحول إليه التلميذ لناظر المدرسة المحول منها ليرسل إليه أوراقه , وقبلت التلميذ وكتبت إلى ناظر مدرسة المدينة عرب بذلك , وجاءني رد منه يسألني أن كنت قد تلقيت تصديقاً من الوزارة بذلك وأن أرسل إليه صورة من التصديق وبعث بصورة من الخطاب إلى الوزارة . إذا الموضوع فيه تصديق من الوزارة وأنا لا أدرى ‍! فإذن معلومة الفايل قديمة !
ولقد كانت أمور التعليم محصورة في مركزية قاتلة في الوزارة في الخرطوم وأي أمر ضئيل يحتاج إلى تصديق من الوزارة في ذلك الوقت ..
ورددت على ناظر مدرسة المدينة عرب بأنني قبلت التلميذ بناء على ما جاء في هذا الصدد في فايل النظار , وعلمت فيما بعد أن ذلك التلميذ كان زهرة المدرسة في ذكائه وتفوقه , وبعد حين حمل إلى البريد رسالة رسمية من الوزارة يخبرني فيها المسؤول أن أبعث إليه برقم وتاريخ موافقة الوزارة على تحويل التلميذ .
وأسقط في يدي وعزمت أن أسكت عن الرد حتى يصلنا نائب مفتش التعليم ومعه مفتش من مدني بعد أيام وكانوا قد أخطروني بزيارتهم , وكان المسئول في الوزارة الذي وقع على الخطاب المرسل إلى مكروه من الجميع , وعندما حضر نائب المفتش عرضت عليه الأمر فقال لي (( ده ابن .. وذكر أسم حيوان , سيبك منه )) , وعملت بنصيحته ولم أرد وانتهى الأمر عند ذلك الحد . وباكتمال المدرسة ثلاثة فصول نقل إلينا مدرس جديد ارفع في درجته الوظيفية من بقية المدرسين مما يؤهله ليكون نائباً للناظر وبذلك ارتفعت هيئة التدريس إلى أربعة مدرسين إضافة إلى الناظر والمدرس الوافد الجديد واسمه صلاح من أبناء أمدرمان أيضاً , ولعله كان مكتوباً على أبناء العاصمة المثلثة ( الخرطوم وأمدرمان والخرطوم بحري ) أن يخدموا ويتنقلوا في أقاليم السودان المختلفة وذلك لتمركز معظم المدارس والمتعلمين في العاصمة في ذلك الوقت .
وكانت مجموعة المدرسين العاملين معي جيدة ولكن يميزها فروق في الطباع ككل البشر , فالشيخ العجب وهو أكبرنا سناً كان رجلاً ودوداً طيب القلب نشطاً خدوماً وقد عرض على أن يكون مسئولاً عن الطابور الصباحي ومخزن الغذاءات وكتابة إيصالات المصروفات الدراسية للتلاميذ فقد كانت الدراسة بمصروفات في ذلك الوقت , وقد أزاح عني حملاً ثقيلاً بذلك وكان خطه جميلاً على غير عادة خط الشيوخ , وكان له نشاط خارجي وهو إلقاءه دروس في الدين بعد صلاة العصر في جامع البلدة , فهو أنصاري عريق وقد كان قبل مجيئه إماماً لجامع الأنصار بحي ودنوباوي بأمدرمان , ويميزه طول في بنية متينة وله صوت جمهوري ( استريو ) وكان يلبس جلباباً واسعاً وعمامة وكان الجيب الأيمن لجلابيته مائلاً دائماً ينوء بما يحمله داخله وهو جزلان ( محفظة نقود ) ضخم أشبه بالكيس في حجمه وتجد في هذا الجزلان ابتداءً من النقود إلى بكرة الخيط والإبرة وطوابع البريد فهو مستودع جامع شامل .
وكان له ثلاث زوجات , معه واحدة واثنتان في داره في أمدرمان وكل أسبوعين يبدل الزوجة فيأخذ من كانت معه إلى أمدرمان ويجئ ومعه أخرى , وقد كانت له حيلة ظريفة للذهاب إلى أمدرمان وهي رحلة تستغرق ثمانية ساعات باللوري في سكة غير ممهدة , وفي ذلك الوقت كانت مركزية الوزارة طاغية وقد أتانا منشور منها لكل المدارس في السودان يحظر سفر المدرسين من الأماكن عملهم إلا بإذن مسبق من الوزارة , وكان شيخ العجب يأتي إلى مكتبي منزعجاً ويقول لي : ( جنابك جاني خبر أنه الأولاد عيانين جداً ولا بد من حضوري فعاوزك تديني إذن أسافر بعد الحصة الثانية يوم الخميس وحأكون بكرة إن شاء الله في المناقل في الساعة عشرة ليلاً ) وارد عليه قائلاً ( يا شيخ العجب إنت عارف منشور الوزارة فبالله ما تدخلني في إحراج ) ويرد في صوته الجهوري في شبه اعتذار ( والله لا يمكن أسبب ليك أي إحراج وما في زول يعرف أي حاجة وما بتأخر دقيقة ) , وفعلاً يسافر ويرجع في الميعاد الذي حدده تقريباً , وعلمت أن سفر مولانا من أجل إستبدال زوجة .. ( وصريتها ) له , وفي المرة القادمة عندما مثل أمامي طالباً الإذن للسفر بحجة مرض العيال جابهته بقولي ( بطّل الحركات دى وقول لي ماشي تغير المره ( المرأة ) وأطلق ضحكة داويه وقال لي ( عرفتها ! ) .. وكنت قد نهيته بمناداتي بجنابك و أني أفضل كلمة أستاذ وقلت له أنني لست ضابط جيش أحمل على كتفي نجوم , أحتج قائلً ( لا يمكن لازم نديك حقك كامل ) وأصر على كلمة جنابك .. وسألته عن كيفية معاملته لزوجاته الثلاث اللاتي يسكن معاً في بيت واحد , فأجابني ( ما في مشكلة ) فقد وزع الأعمال المنزلية بينهن فواحدة عليها الطهي والثانية عليها عواسة الكسرة والثالثة عليها النظافة وأنه يعطيهم مصروف بالتساوي , والشيخ له موارد مالية أخرى من كد يده فهو سمسار وحداد وبائع كتب خاصة كتيب راتب المهدي وهذا يبيعه أحد أولاده في قطار الغرب وكثير من ركابه من طائفة الأنصار .
ألا رحم الله الشيخ العجب رحمة واسعة ..
ونجيء إلى الأستاذ ( ع ) وهو بدين الجثة وكثير الأكل طول النهار والليل ولا يخلو جيبه من الفول أو التمر أو أي شيء يؤكل , وتبعاً لذلك فإنه كثير الذهاب إلى المرحاض فهو كالدجاج يأكل باستمرار ويزرق باستمرار . وهو طيب القلب ضحوك ولا يغضب مهما سخر منه الزملاء أو تعمدوا إغاظته . وكان يسكن في حجرة لوحده , ومن عادته التحدث بصوت عال مع نفسه عندما يكون وحيداً في الحجرة موصداً بابها عليه , ومن لا يعرفه يظن أن بالحجرة شخصان يتحدثان إلى بعضهما , ومن الغريب أن وزنه يزيد في رمضان لأنه لا يفتر من الأكل منذ الإفطار حتى السحور ! ومن غريب ما حدث ذات رمضان أننا كنا مدعوين إلى إفطار رمضاني عند أحد كبار التجار وكعادة السودانيين كان هناك الكثير من أصناف الأكل والعصائر والشربات كما نسميها ( المويات ) , وأخذ الأستاذ يعب من الأشربة ويلتهم الأطعمة حتى وقع إلى جانبه مغشياً عليه , وأصابنا هلع وخشينا أن يموت وصببنا الماء على رأسه ووجهه , وبعد قليل أفاق وفتح عينيه , وبدأ يأكل من جديد , ومنعناه بالقوة من تناول المزيد من الأكل , وكان لا بد من أن نغادر فهو الحل الوحيد لنبعده عن الأكل .. أما المدرس الآخر فلديه شيء من ( العوارة ) , ويهتم بهندامه بشكل مبالغ فيه ويمسح شعره بالدهان ويدهن بشرته بالكريمات , ويحلق شاربه , وشعر صدره ! ولكن ليس به تخنث ولعله شب وسط جمع من الإناث ..
وأهل المناقل كرماء وخاصة مع الأغراب وكانوا يظهرون لنا احتراماً وتقديراً وكانوا يتبارون في دعوتنا إلى منازلهم للغذاء ويذبحون ذبائح من الضأن للمناسبة , وتتوالى هذه الولائم خاصة في رمضان والعيدين , وكان عمدة المنطقة الشيخ محمد عبد الباقي رجلاً سمح السمت كريماً طيب النفس أبيض الأخلاق كثيابه البيضاء الناصعة المكونة من قميص ( عراقي ) وسروال وثوب ومركوب وكذلك أخوه ونائبه في نفس الوقت إبراهيم يلبس نفس اللباس الأبيض النظيف كالثلج ..
وكان العمدة يدعونا إلى داره من حين لآخر للغداء ويخدمنا بنفسه وكانت مائدته عامرة دائماً بأطايب الطعام , وكانت صواني الأكل توضع فوق مفارش على أرض الصالون الواسع المغطاة بالسجاد , وبعد الأكل يجلس المدعوون على الكراسي الوثيرة المحاطة بالصالون من جوانبه وتدور عليهم كاسات الشاي وفناجين القهوة وتتشقق ( الونسة ) السودانية , وفي إحدى هذه الأحاديث قال أحدهم أن الرجل إذا فترت همته الجنسية لا يستطيع أن يرفع إبهام قدمه , وانتقل الحديث إلى موضوع آخر , ولكن لحظت أن مهندس المجلس الريفي كبير السن وكذلك رئيس الحسابات يحاولان خفية تحريك إبهامي قدميهما ! وألجمت نفسي من الضحك دون جدوى وانفجرت ضاحكاً _ وكانت الكلفة مرفوعة بين الجميع _ وقلت عمى فلان وفلان _ المهندس ورئيس الحسابات _ باين عليهم انتهوا جنسياً أو كادوا لأن كل واحد منهما يحاول رفع إبهام قدمه , وثارت عاصفة من الضحك من الحاضرين وهما يحاولان بحرارة دفع التهمة عنهما ..
ومهندس المجلس الريفي ليست بينه وبين الهندسة صلة لأنه كان منجد عربات وربما صلته الوحيدة بالهندسة هي المتر الذي يقيس به قماش التجنيد ولصلته الحبيبة بضابط المجلس ولكونهما جيران في الحي وضعه في هذه الوظيفة , وضابط المجلس نفسه كان كاتباً في زريبة العيش ولكن ابن عمه كان عضواً في المجلس العسكري العالي لإنقلاب عبود وأراد المجلس أن يمد مواسير الماء في المنازل , وأخذ المهندس يعد لهذا العمل الكبير , ووجد أن خط المواسير يمر عبر دار أحد المواطنين ولا بد من خرق جداري الرجل لتمرير الماسورة , ولحسن الحظ كان بالبلدة شاب من أهلها يدرس الهندسة بالمعهد الفني بالخرطوم , وقامت مشاجرة بين صاحب المنزل والمهندس وكان الشاب حاضراً , فأخذ المهندس جانباً و هدأ من هيجانه وقال له أن الأمر بسيط وما عليك إلا أن تعمل زاوية قائمة وتمد الماسورة حول الحائط , فرد الباشمهندس قائلاً (( أنا الزاوية قايمة والكلام الفارغ بتاع الكتب ده ما بعرفه , حأقد الحيطة وبعني حأقد الحيطة )) وقد كان !
وكان يسكن جاراً بالحائط لإبراهيم سليمان والذي كنت أسكن في داره قبل أن أرتحل إلى داري الحكومية , السيد فوزي معتمد مشروع المناقل وهو مسئول عن توزيع الحواشات ( قطع الأراضي الزراعية ) على المزارعين , وهو يسكن منزلاً مؤجراً ولكن زوده بكل وسائل الراحة وجلب له مولد كهربائي فكان المنزل الوحيد الذي يضاء بالكهرباء , وكان رجلاً حاتمياً في كرمه ولا يخلو منزله ليلاً من ضيوفه المقربين من مفتشي الغيط وكبار المفتشين في المشروع و له ثلاجة خاصة في ديوانه و له طباخ خاص يعد له العشاء اليومي المكون من الدجاج الصغير المشوي و اللحوم , و يجلس في المساء في باحة أمام الصالون علي طاولة مستديرة تحف بها المقاعد و فوق الغطاء النظيف أكواب من الزجاج و بجواره وضعت ترابيزة عليها الراديو و بجانبه ترمس كبير مملوء بالثلج و كرتونة مليئة بزجاجات الشري من نوعية جيدة و أمامه صناديق السجاير و طفايات السجاير , و يتوافد أصدقاؤه منذ الثامنة مساء و تستمر السهرة حتى الحادية عشرة ليلا و بعد العشاء الشهي ينفض السمار و يركبون سياراتهم عائدين إلى ديارهم , ولا يقل عدد الحضور عن ثلاثة في كل ليلة , و السيد فوزي شخصية ساحرة في أواخر الخمسينات من عمره , وقبل الجلوس إلى مجلسه العامر يلاحقه في داره أصحاب الحاجات و كانت لديه مقدرة فائقة علي حل المشاكل و ترضية الناس , ولكن كان لا يستقبل أحدا له حاجة عندما يجلس جلسة المزاج و عرف عنه ذلك فكان لا أحد يعكر عليه صفو جلسته المزاجية ..
و كانت المدرسة تقع في طرف البلدة و يقع سكني مع إبراهيم في الطرف الآخر و ذلك قبل الانتقال إلى منزل الناظر قرب المدرسة و كنت اقطع هذه المسافة مشيا , ولم يقلقني شئ سوي الكلاب المنتشرة ليلا عند عودتي من المدرسة , وقد تسلحت بعصا و بطارية Torch تنير لي الطريق الذي كان ممتدا بجوار المقابر , فقد كانت الكلاب تنبحني و تجري ورائي في حركة هجومية و لقد علمني أحد المدرسين حركة تخيف الكلاب و تبعدهم عني و هي ان اجلس فجأة و أقوم منتصبا بسرعة , و لقد جربتها فكانت الكلاب تتوقف و تنبح في مكانها ..
و علي ذكر الكلاب فقد احضر لي خفير المدرسة جروا جميل الشكل فروته سوداء لامعة كزيتونه سوداء , ورغم حبي من أليف الحيوانات للقطط فاني أخذت الجرو و أطلقت عليه اسم شين وهو اسم لفيلم مشهور و لبطل الفيلم في نفس الوقت من أفلام رعاة البقر الكابوي الأمريكية , وكان بطل الفيلم يرتدي ملابس سوداء من قمة رأسه حتى قدميه , و كبر الجرو بدرجة مدهشة , و صار ينبح بقوة و يشب علي حائط المنزل إذا سمع أية حركة في الشارع قرب المنزل , وسبب لي إزعاجا و اقلق منامي , فرددته إلى الخفير و أبقاه معه في المدرسة , فكان الكلب يحرس و الخفير يغط في النوم , وكنت من حين لآخر أتفقد الحارس في الليل ووجدته نائما علي عنقريب صغير (هبابي) و هززته لاوقظه فقام مفزوعا لما رآني و قال لي ((جنابك أنا صاحي)) , والكلب يهز ذيله مرحبا بي , و صار شين صديقا لكل تلاميذ المدرسة و يلاعبونه ورغم شراسته عند قيامه بواجبه الوظيفي في الحراسة فانه كان وديعا مع التلاميذ , ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان فقد عضه كلب مسعور و بدأت تظهر عليه أعراض السعار , واتصلت بالشرطة لتقوم بإعدامه , و توسل إلى التلاميذ لابقيه و لكن شرحت لهم خطورة دائه عليهم و علي اقرب الناس إليه و انه سيموت في النهاية بعد أن يعقر كثيرا من الناس وسوف يكون مصيرهم إلى الموت مثله , وكان يوما حزينا لنا جميعا يوم إعدام شين و شعرنا بأننا فقدنا عزيزا غاليا ..
كانت المناقل حينذاك مدينة اقرب إلى القرية الكبيرة منها إلى المدينة و كانت معظم بيوتها من الطين و قطاطي من القش وبضعة بيوت من الطوب الأحمر لكبار التجار و القلائل من الموظفين الذين يعملون بمدينة مدني عاصمة المديرية , ولم يكن بها كهرباء و الماء ينقل الي البيوت بالخرج علي ظهور الحمير من (الدونكي) أي فنطاز الماء الكبير في طرف البلدة و الذي تضخ فيه الماء من بئر عميقة إلى صف من الحنفيات ..
و كان السوق صغيرا و لكنه عامر بالبضائع و كان هناك تجار كبار واكن أحدهم لا يعترف بالبنوك ويضع كل نقوده في خزينة ارتفاعها بطول جدار الدكان تقريباً ويحشر فيها الأوراق النقدية حشراً وهذا التاجر وحده أشترى أثنى عشر لورياً جديداً من ماركة بدفورد والتي كانت تسمى ( السفنجة ) , وهذا التاجر نفسه قابلته ذات مرة حاملاً حزمة من القصب على صدره بالثوب والعراقي إلى الزريبة التي يضع فيها أغنامه .. وتجار المناقل يتاجرون أساساً بالذرة ولكل واحد منهم مطامير كبيرة لتخزين الذرة , والمطمورة عبارة عن حفرة واسعة في باطن الأرض يدفن فيها الذرة ويحفظ لوقت الحاجة ويحتفظ بجودته لعدة سنوات , كما أن لديهم حواشات يزرعونها , ولكن معظم سكان المناقل من المزارعين . وكان بالبلدة مكتب بريد ومستوصف طبي يديره مساعد طبيب وكانت هناك نقطة للبوليس يديرها ( شاويش ) رقيب بالبوليس , وكانت هناك مدرسة أولية للبنات وأخرى للبنات ومدرسة صغرى للبنين , وكان بالسوق فرن ومطعم يملكهما إبراهيم سليمان وهناك بار لبيع الخمور . وكان حكمدار النقطة ( الرقيب ) يسهر معنا أحياناً في نهاية الأسبوع وكان يرسل سيارة النقطة اللاندروفر الجديدة مع السائق إلى مدني ليأتي من هناك من مكان معين عرقي التمر الممتاز ! أما ضابط المجلس الريفي فقد كان يكتفي بزجاجة واحدة من البيرة .. وهو رجل داهية ولقد علمت بعد أن انتقلت من المناقل أنه حوكم بالسجن في أمور تتعلق باختلاس المال العام والرشوة وإدارة أعمال المجلس , وكان يثور حوله كثير من الدخان والشبهات تكشف أخيراً عن نار ألقت به في غياهب السجن .. وأذكر أنه جاء إلى المدينة فريق من المراجعين من ديوان المراجع العام مكون من رئيس وعضوين وذلك لمراجعة حسابات الوحدات الحكومية وكان هذا دأب ديوان المراجع العام سنوياً فأنه يبعث المراجعين إلى جميع أنحاء السودان لمراجعة الحسابات , ولم يستثنوني أنا صاحب الوحدة الصغيرة المكونة من فصل دراسي واحد , فقد راجعوا دفاتر إيصالات المصروفات المدرسية رقم 15 ومقابلتها بدفتر تسجيل الإيصالات رقم 67 , وكذلك مراجعة دفاتر صرف المواد الغذائية من المخزن والمتبقي منها , ومراجعة دفتر النثرية والمتبقي منها .. ومنذ حضور المراجعين ضرب ضابط المجلس حولهم حصاراً محكماً وبقي معهم كظلهم ليلاً ونهاراً وحلف بالأيمانات المغلظة أن تكون ضيافتهم على المجلس فكان يذبح لهم يومياً , وكان رئيسهم يتعاطى بنت الحان فوفر له الشراب كل ليلة , ومكثوا خمسة أيام في البلدة أولم الضابط وليمة عشاء فخمة وأحضر مغنيين من مدني , وخرج الضابط من المراجعة سليماً ! وللحق كان مراجعو ديوان المراجع العام عندما خبرتهم في أماكن عديدة أمناء عفيفين لا يجاملون في الحق ..
ومن مآثر الضابط أنه أقام ملعباً للتنس أفدنا منه في التريض وخاصة الذين تقدموا في السن ولا يقدرون على مزاولة رياضات الشباب كلعب كرة القدم والسلة ..
وحصل حدث سعيد في حياتي فقد تزوجت وفي اليوم الثالث لزواجي ويداي وقدمي مخضبات بالحنة السوداء سافرت وعروسي وأمها بالبص السريع إلى مدني , وأخذت عربة تاكسي إلى مكتب التعليم وقابلت مفتش التعليم وطلبت منه أن يمدني بسيارة من سيارات المكتب لتنقلني إلى المناقل وأشار على باقتضاب أن أذهب لنائبه في هذا الأمر , وخرجت من عنده وفي نفسي شيء من الاستياء , وذهبت إلى نائب المفتش الأستاذ محي الدين دياب _ رحمه الله رحمة واسعة _ وكان رجلاً في قمة الذوق والرقة وكرم الخلق وهنأني بالزواج وقام معي على الفور وصرفنا التاكسي وأخذنا في سيارته إلى منزله وكان قبلها قد أمر كبير السائقين ليجهز عربة للسفر إلى المناقل وليوافينا السائق في داره بعد ثلاث ساعات , ووصلنا إلى داره وكانت زوجته عند الجيران ( تمشط ) شعرها فاستدعاها وقفل راجعاً وهي معه , ورحبت بنا بحرارة , وسقتنا عصيراً بارداً ثم أعدت لنا طعام الغذاء , وبعد أن فرغنا من تناول الطعام و شراب الشاي حضرت العربة فودعونا حتى باب الدار , وتأثرت بفيض من المشاعر الممتنة وقلت في نفسي شتان ما بين المفتش ونائبه !
وفي نهاية الثالث للمدرسة وأنتقل التلاميذ للصف الرابع ومن ثم تكتمل المدرسة , وكان المقرر حسب قوانين الخدمة المدنية أن يترقى ناظر المدرسة ذات الداخلية إلى الدرجة DS وهي درجة عالية في السلم الوظيفي , ولكن حدث ما أتوقعه فقد صدر كشف التنقلات ووجدت نفسي منقولاً ومنتدباً ناظراً لمدرسة حي الضباط الأهلية بأمدرمان المعروفة بمدرسة إبراهيم سوميت بعد موت صاحبها ونظرها ..
وهي مدرسة ذات نهر واحد أي بأربعة فصول ودرجتها الوظيفية هي نفس درجتي الحالية الآن ! والمرحوم إبراهيم سوميت صاحب تلك المدرسة قام بعمل مجيد فقد تخرج من مدرسته كبار السن الذين فاتهم قطار التعليم وصاروا موظفين في الحكومة وكانت المدرسة تعمل نهاراً وليلاً مما أتاح الفرصة للعاملين بالألتحاق لتلقي التعليم .. ولكن كان معظم المدرسين بها غير مدربين أو مؤهلين تربوياً حسب معايير وزارة التربية والتعليم .. هذا بينما حازت مدرسة المناقل شهرة واسعة كمدرسة نموذجية , وامتلأت نفسي غيظاً وغضباً فقد جوزيت عند عملي جزاء سنمار , وحرمت من مدرستي التي بذلت فيها عصارة تجاربي وغاية جهدي وكنت أحبها كما يحب الوالد أبنه البكر أول ما يرزق به .. أليست هذه المدرسة هي التي أنشأتها وفق تصور خاص ؟ ألم يثمر ذلك التصور وطاب أكله ؟! ولماذا أحرم من الترقية وقد استوفيت أشراطها ومنها اكتمال المدرسية ؟! وشعرت بأني ظلمت , وأحساس الظلم لو تعلمون أليم بل ألمه شديد ! وأذنت شمس بقائي في المناقل بالمغيب , وغادرتها كسير القلب حزين النفس فقد أحببت ناس المناقل الطيبين وأحببت المدرسة كأنها فلذة من كبدي , وأحببت زملائي الذين عملوا معي وكنا أخوة في أسرة واحدة جمعنا الود والاحترام آصرة واحدة , وعلى كثرة ما عملت بعدئذ في مدارس شتى شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً في سوداننا الحبيب تظل مدرسة المناقل تحتل في قلبي مكاناً عالياً , وربما رددت مع الشاعر
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب إلا للحبيب الأول
أو الآخر القائل
خلقت ألوفاً لو رجعت إلى الصبا
لودعت شيبي موجع القلب باكياً