الجبنة ..تراثنا.. ركن من هويتنا..فى فانكوفر

على ممر القوادم من نسمات تنحدر من اعالى الهضبة الحبشية يحتضن النيل الازرق قرانا عبر التارخ ....يصونها بالموجود..
كانت امهاتنا يتنادين اليها فى تشوق ولهفة ..ويتربصن فى انتظار زمنها بفارغ الصبر.. ..كنا ونحن صغارا نتلبد لعلنا نصيب قعر فنجان..
جبنة الحرم بت ود التوم...البعض يسميها البركة...وهو الاسم الذى يطلق عادة على الفنجان الاخير ..واحيانا يكون التالت...
جبنة الحرم بت التوم ...او بركة الحرم بت التوم ..كانت جلسة ……. spiritual طقوسها...قلوة البن الحبشى....بخور..فناجين تدور فى ترتيب واولويات...
فما بين البكرى والتنى...مسافة زمنية كافية لازاحة استرس الخدمة المنزلية والهموم البيتية المتكررة...
تتخللها رميات ودع ...كنا ننظر اليها بمثابة خزعبلات ..او بدع حسب ثقافتنا الدينية التى هى فى حد ّذاتها اصبحت عبئا على تراثنا السودانى...
الودع كان مجرد استراحة للامل تبشر بالقادم من السفر او بقرب ..وصول المصاريف او زيارة عزيز طال الاشتياق اليه..
الودع استراحة تفسح مجالا للامل ...فرح قادم ..زواج او صفاح...وربما اشارة لعلاقات الناس بالدولة ...سيد عمامة الظلم...او العلاقة بالطرق الصوفية..
سيد عمامة الصلح...الودع زى برنامج بانوراما محلية فى اذاعة ..FM Shaw Talk......يختلط فيه الحدث اليومى بالمرتجى ..يجمع ما بين التسلية والتورية..

وعندما وصلنا مرحلة الثانوية ..كانت الثقافة الدينية قد كدرت بالكامل ما يجمعنا بهذا التراث العميق ..فحاولنا اسقاط ذلك الركن من تراثنا بدعوى انه لمة نميمة
وقطيعة ومضيعة زمن ..وكنا نضيع من الزمن اضعافه فى الجامع لنسمع دروس التجويد...ولكنه الاستبداد بالعقيدة...ووهم اتباع الحق الذى يجب كل التراث..

لقد صمدت الجبنة واثبتت صمديتها فى تراثنا .
وزحفت الحكمة على الاستبداد العقائدى فينا ..فتلاشى الهرج الدينى وانكشح ..غافلا الى مهده فى صحراء تهامة...
واستمرت الحرم بت ود التوم رمزا فلسفيا يصون ويحفظ ذلك الوطن الصغير .ونتعلم منه ما لم تجد به قريحة واضعى مناهج التربية فى حكومات السودان المتعاقبة ..
تعلمنا الحب المطلق ...والسلام المطلق ....ليس على هيئة مواثيق او شرائع وانما واقعا عمليا يوميا ..ياتى على هيئة تعليقات مختصرة بلغة سودانية بسيطة لكنها محكمة..

واستمرت الجبنة ... البركة.....واستمرت القلوة ..والبخور....وجلسة المحبة التى تجمع من فى الفريق فى توادد وامل تجاه القادم من الايام مهما حلكت معطيات الواقع..

بكرى ..تنى....تلتاوى او بركة...و.استمر ذلك الكميونتى شو live community Shaw....يبعث الامل والفكاهة...ويبث استراحة..يومية وفى معظم الاحيان مرتين او ثلاث فى اليوم....
واستمرت تلك اللغة السودانية الخاصة والمتميزة ..لغة الودع تغور فى وجدان اهلنا فتنسج الوطن الصغير وتغزله كونا كاملا .. فى اعماق تتحسس الاتى و تستحث روح الماضى ..
لتكون حاضرة .....

ثم اتى دورنا ليشملنا قطار الرحيل....
فناخذ ما نستطيع من مدارس الدين ..مدارس الفلسفة ..ممارسات الشعوب ...مواثيق الامم...ووثائق بنى ادم فى كيفية التعايش فيما بينهم فى سلام..
تتنوع المراجع والمصادر...وتتسارع روح البحث وتلهف الالمام بالمزيد وبالجديد....
فتخرج مدرسة الحرم بت ود التوم هى الاكثر نضجا ...الاجدر حكمة...الانقى حبا...الاشمل تسامحا فى واقعها وفى لغتها ومردودها...فى حدود ذلك الكون الصغير..
فعندما كنا نتفرج على برامج التلفزيون السودانى ..كان التلفزيون وكما هو حاله الان يعرض الصراع العربى الاسرائيلى من خلال الصياغة الخبرية بشكل يجعلنا
ننحاز بوجداننا لطرف او اخر مهللين لمقتل فرد من هنا او فئة من هناك...فتنظر الينا الحرم بت ود التوم فى حزن وشفقة يا اولادى ما تقولوا ..كدى..ما تسوو كدى..
الروح عزيزة عن خالقها..
الروح عزيزة عن خالقها...
كنا نسمعها تخرج من فمها بكل حزن واسى ..عند سماع كل خبر سىء ياتى به التلفزيون.. لم نكن وقتها نهتم بما تقول ...فهى ليس لها من التعليم الرسمى ادنى الحظوظ..ولا حتى التعليم البلدى ..الخلاوى..
الروح عزيزة عن خالقها ....تخرج من فمها ..وهى تدير قهوتها ..وتؤانس من حولها ..لم نكن نهتم ..فآلة الدولة الاعلامية اكبر اثرا من كلمات الحرم بت ود التوم..
تدور الايام والاحداث وتتوالى رحلة بحثى عن الجديد والمفيد ..فلا اجد ابدع وابلغ ..وافيد من كلمات الحرم بت ود التوم...وهى تدير شؤون وطنها الصغير...
فأتساءل فى فلهمة عوجاء..اين مصدرها..من اين اتت بهذا الكلام الذى تؤمن به لدرجة لا تيأس من ترداده وتكراره دون ملل كلما احست فينا روح التوحش ..استجابة لاعلام اذاعة ام درمان.. بوق الدولة السودانية ولسان حال الصفوة من ابناء السودان .االمتنفذين منهم فى الحكومة او المتلقيين لبضاعة الحكومة الاعلامية والتعليمية والثقافية...

فانكوفر ..حاضرة بريتش كولومبيا ..اجمل بقاع المعمورة
موقع يتوهط بها على حواف جبال الساحل الغربى..وتتمدد نحو المحيط الباسيفيكى وجزره الجبلية..وتتمطى من ناحيتها الشمالية الشرقية سلسلة جبال الروكى
واوديتها تسوق الى الميتروبوليتان عددا من الانهار اعتصرها دفىء حرارة الجو من على القمم الثلجية المحيطة...يمكن تعداد رقم يتجاوز العشرة من البحيرات
التى تحاط بغابات طبيعية لا تتدخل فيا يد الانسان...
تمثل الغابات هنا 35% من النسبة العالمية للغابات المطيرة...
فلا عجب اذن اليوم المطير نطلق عليه يوما فضيا يثقل على بعض النفوس ...
واليوم المشمس ..ذهبيا تتحول فيه الحياة متعة فى ذات الفرد ومن حوله...
اليوم الفضى ...المطير .لا يطيب فيه الخروج خاصة عندما يصادف عطلة نهاية الاسبوع....
وهو يوم الجبنة عندنا....وبدلا من ظل نيمة او مظلة راكوبة تدير فيها الحرم بت ود التوم عالمها الصغير...ننحصر فى داخل شقة..
تطل بناحيتها الجنوبية على نهر فريزر ومن ناحيتها الشمالية بدايات تلاقى جبال الساحل والروكى....
Live Jabana Shaw.
يفتقد الحرم بت ود التوم...وبرغم البعد عنها الا ان دائرة البنة تتسع هنا وبدلا من ماء يتدفق من هضبة الحبشة عبر مجرى النيل الازرق ..تلتئم الحضرة للروح الحبشية فى كامل جسدها وتجسدها...ثم اكتشف ان البركة هى ايضا اسم الفنجان التالت ...
اليوم الفضى من شقة تطل بلكونتها جنوبا على نهر فريزر وشماليها يطل على مشهد تلاقى جبال الساحل مع الروكى...يوم حضرة الجبنة....
ليزا ....اعمل ليك قهوة حبشية اصيلة..؟
بتعمليها كيف..؟ دخلت المطبخ وبدأت فى تجهيزها....
هييييي... ما قلت قهوة حبشية ...لا انا ما عايز قهوة زى دى ...عايز بنة ..جبنة...
انت مالك عيز تصعب على الحياة...
اتصلت ب الزا فى مكان عملها ..حاتجى بعد ساعة....
وصل يوهنس..واخذ معه ليزا خارجا ...
بعد قليل كمية من المعدات والاجهزة تتوهط الشقة...
وصلت الزا ..انا حا اعمل الجبنة..ليزا ما بتعرف ..باغاظة...
ليزا ما تسمع كلاما اى بت اثيوبية امها بتعلما تعمل ليها بنة من عمر ست او سبع سنوات...وانا ما استثناء...
فرشت الزا بعناية تامة قطعة خضراء مطرزة...كناية بلون الارض الخضراء..
وحرقت البخور ليتصاعد خارجا فى اتجاه فريزر رفر...وقتها اعلنت سرا تؤامة النيل الازرق ونهر فريزر..
ودارت الجبنة كعادة دورتها فى حضرة الحرم بت ود التوم...ولكن فى مكان اخر ...اقدام جبال الروكى والساحل ونسمات فريزر ...
وتسرب البخور من تحت فتحات الباب ليملاء فضاء ما بين الشقق السكنية ..فلم نسمع احتجاجا ولم تتظاهر اجهزة انذار الحريق....
وتحول اليوم الفضى المطير الى بهجة داخلية وسعادة تملا كيان الجميع.....

جبنة فانكوفر ..مناسبة استرخاء من جهد وكثافة العمل الاسبوعى...
كميونتى صغير يناقش هموم افراده بدون اجندة مسبقة او تكلف ...
من مشاكل الكردت كاردز..والبحث عن فرص افضل ..حتى بعض تفاصيل الهموم الشخصية...
جبنتنا..البنة...اسرة صغيرةلا تكلف فيما بين افرادها..
.عمادها سماحة النفس..الاستماع.....طيبة الخاطر...مكافحة الكد ر والرهق النفسى...والتعاطف..

مع مقربة حلول الصيف حيث نكسب المزيد من الايام الذهبية ( المشمسة)..تم الاجماع على ان نخصص يوما فى ويسلر...Whistler....
فى هذه المدينة بالتحديد ستقام اولمبياد 2010 الشتوية....استمرارا لمنافسات عمرها اكثر من 2700 عام حين ابتدات عند الاغريق.
وكانوا يعتقدون ان الاله زيوس هو الذى يرعى هذه المنافسات..
الاله زيوس هو نفسه الذى ورد ذكره فى الالياذة بانه وصف اهل السودان فى ذلك التاريخ ..بانهم افضل من يقدم القرابين للالهة حيث يضحون بافضل مما عندهم من المواشى والانعام..ولذلك كان يزورهم ليحضر مهرجانات قرابينهم المتميزة...فى الارض التى لا تغيب عنها الشمس...
سوف ننتقل بالجبنة الى قمم جبال الساحل هناك ليوم او يومين لتزداد عمادتنا بالقلوة وتوابعهاو لربما تتعمد سماء الاولمبياد...
لا يهمنا كثيرا ان مر الاله زيوس من هناك واعجب بتلك الطقوس او ابغضها ..لان ذلك منا وفينا نعشقه بلا شروط او واجبات..