مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)

مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)


04-10-2007, 06:10 PM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=100&msg=1176225010&rn=0


Post: #1
Title: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-10-2007, 06:10 PM

لا يسعني الا ان ألبي رغبة الأخوة الأعزاء في هذا المنبر الذين ناشدوني ان أنشر مقتطفات من كتبي الثلاث , ولأبدأ بالكتاب الآول والذي سبق ان طلب الأديب البرنس قبل سنين مضت ان اعرض بعضاً منه في المنبر , وحال دون ذلك امر لا دخل لي فيه, ولكن يتوجب مني العذر له للأخ الزميل , علي كل حال .
وقد جرت احداث هذا الكتاب في عامي 1963 و 1964 بمدينة التونج في مديرية بحر الغزال آنذاك في جنوب السودان .
(1)

في حياة كل انسان منا لحظات واحداث صغيرة او كبيرة تظل ملتصقة بجدار الذاكرة لصوق الجلد بالبدن لا تنمحي ومنها ما يطيب له الخاطر من مسرة ومتعة في تذكره ومنها مايجلب الكدر والضيق وكأنها حدثت لتوها ومهما كان من اثر مفرح او أثر محزن تهيجه فانهاتحدث في المرء هزة وصحوة في الوجدان يحس معها بطعم الحياة المتغير بحلوه ومره وان الحياة قدر لا فكاك منه ولا مما كتب لك ان تلاقيه فانك ملاقيه مهما اتخذ المرء من حيطة وحذر ورتب وقدر فالأمر واقع واقع ولا يجدي بعد وقوعه ندم او تحسر ولا تنفع كلمة لو او اذا , والحصيلة ذكري مؤرقة في ذات الهنيهة فرحاً او حزناً ثم تكتسحها رياح النسيان وتطويها في عالم الغيب وتسير الحياة كالنهر في مجراه يظل سائراً مهما اعترضته من صخور وجنادل فيفيض بالخير للأرض والناس والحيوان وربما يعود فيضه عليهم بالخراب والدمار .. وهكذا الحياة يوم لك ويوم عليك .
وجاء أمر النقل لصاحبنا الي جنوب البلاد مديراً لأحد معاهدها التعليمية وجاءت مع النقل ترقية او ترفيع يفيد منه مادياًومعنوياً واجتماعياًًًًوماجت نفس صاحبنا بمشاعر شتي متباينة وبأمشاج من الأفكار تجاذبته ما بين الأقبال والصدود والرغبة والرهبة والتشوق والخشية , فانه كان يود منذ زمن بعيد ان يعمل في جنوب البلاد وربما كان لما سمعه من والده من حكايات عنه وكان قد عمل زماناً طويلاً هناك أثر في رغبته تلك وربما كان لما يعتمل في صدره من نفور من الظلم وحب البشر دون تمييز من عرق او لون او دين أثر أخر , وكان لا يعرف لشمالي علي جنوبي فضلاً وان الخالق لا يميز بين الناس بألوانهم ولكن بأعمالهم وتقواهم وان هذه الألوان نفسها باختلافها آية من آيات الله وانه لا يظلم احداً ولكن البشر يظلمون انفسهم وبعضهم بعضاً وربما كان لما سمعه عن تلك الانحاء من جمال ونماء وخضرة حباها به الخالق اثر ايضا . اذن كان صاحبنا بلا ُعقد عرقية , اما خشيته فكانت مما يسمعه من احاديث عن فوران تحت السطح ضد الشماليين ربما ينفجر بركانا لا يبقي ولا يذر كما حدث في الماضي في تمرد 1955 وان كان البركان حين ينفجر لا يعرف برا ولا فاجرا ولا صديقا و لا عدوا وتجرف حممه امامه كل شئ .. كل شئ . وفي ذلك التمرد ازهقت ارواح بريئةكان كل جرمها ان اصحابها شماليون وهكذا كان تمرد 1955 . ولم يكن صاحبنا يخاف الموت فهو مؤمن بان لكل اجل كتاب ولكن لايري داع ولا معني للموت دون سبب او قضية او كما يقول اخواننا الجنوبيون (موتوا سمبلا) او كما يقوله الشماليون (مات فطيس) .
وقال في نفسه مرددا الآية(قل لن يصيبنا الا ما كتب الله لنا) وتوكل علي الله وحزم امتعته واستقل الطائرة الي مدينة واو حاضرة مديرية بحر الغزال ومن هناك يواصل سفره بالعربة الي مدينة التونج حيث مقر عمله الجديد وهناك سيبدأ فصل جديد في كتاب حياته .



ونواصل

Post: #2
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: Raja
Date: 04-10-2007, 09:31 PM
Parent: #1

الفاضل أستاذ هلال..

مرحب بيك تاني في المنبر..
ومرحب بالكتابات والحكاوي الممتعة..

..

ومتابعين..

Post: #3
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: طلال عفيفي
Date: 04-10-2007, 09:35 PM
Parent: #2



شكراً أستاذ زاهر ..
هذه الحكايات تكمل لي البعد الغائب عني
جغراقياً وتاريخياً ..
حكايات ترمم صورة بلاد يريدون تمزيقها
وتحويلها إلى جهات ..

مودتي لك ولحكاياك


Post: #4
Title: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان) (1) (2)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-13-2007, 07:36 PM
Parent: #1

مقتطفات من كتاب (ايام التونج – ذكريات في جنوب السودان)
(2)

جاءه في مرقده صوت شقشقة عصافير مغردة اذهبت الكري بلطف عن عينيه المغمضتين فهب من نومه وفتح النافذة العريضة فاقتحم الضوء الذي كان منتظراً بالخارج الغرفة وولج معه الحان الطيور المغردة فأشاعت الحياة والنشاط في جو الحجرة , ووقع بصره اول ما وقع علي خميلة من الأشجار المورقة الفائقة الخضرة بها ورود مزهرة يتلألأ علي هاماتها واوراقها جميعاً بلورات شفافة من الندي و يهزها و كأنها من طرب نسيم واني فتميل من جانب الي آخر مبتهجة بنور النهار , وامتلأت روحه قبل جسده بفيض من النشاط واللذة الخفية , وشرع يكتشف المنزل الواسع الجميل وهو علي نمط جميع منازل الانجليز عندما كانوا يحكمون السودان يحتل مساحة واسعة من الارض وتحيط به حديقة غناء تبلغ الفدان , والحق ان هؤلاء الناس لهم ذوق رفيع في انشاء وتنسيق الحدائق ولا يخلو أي بيت منها وتضم انواع شتي من اشجار الظل والفواكه والأزاهير والورود , واكتشف فيما بعد ان بالمنزل نحو ثلاثين شجرة من المانجو , ذات الظل الظليل والثمار المترعة الي جانب اشجار الجوافة واللارنج والقشطة والتوت والباباي و الثلاث الأخيرات يراهم لأول مرة في حياته , والمنزل به حجرتان واسعتان للنوم ملحق بهما حمام وصالون للجلوس طويل وواسع المساحة وملحق بهذا البناء الرئيسي حجرة ثانية تفضي الي ممر مسقوف يقع في آخره المطبخ وله باب يفتح علي الخارح حيث هناك حجرة وقطية للنوم ويوجد جراج في واجهة المنزل , ويحيط بالمنزل من جميع جوانبه برندات يغطي جوانبها (نمليات) من السلك اتقاء البعوض والناموس والحشرات الطائرة , وللمنزل ثلاث مداخل رئيسية وعلي كل مدخل بابان واحد يليه الآخر مغطاة بالسلك وقاية من الناموس وهناك في الفناء خارج المنزل بئر ماء للشرب ولري الحديقة ويطلقون علي هذا المنزل بيت العميد – أي عميد مركز تدريب المعلمين – والبيت مبني علي مرتفع من الآرض كالهضبة يشرف علي (توج) وهو مساحة واسعة من الحشائش الطويلة داخل الماء والمنزل يقع بعيداً نسبياً من منازل المدرسين وتحوطه الأشجار والنباتات من جميع الجهات . قال صاحبنا في نفسه وهو منبهر ( هل كان الانجليز يعدون كل هذا العمار ويعيشون في كل هذا الترف يظنون انهم سيعيشون ابداً في هذا النعيم ؟) وهنا قفزت الي ذهنه النهاية المأساوية لمدرس الأحياء الانجليزي في مدرسة وادي سيدنا الثانوية واظن ان اسمه (مستر لَق Lege) فعندما سودنت وظائف الانجليز بسودانيين رجع الي بلده وسكن في عربة (كرافان Caravan) ولم يجد عملاً وساءت حاله وصارت الدنيا سوداء في عينيه وبلغ به اليأس مبلغه وفي لحظة بؤس ونحس أطلق النار علي اولاده وزوجته ثم علي نفسه وماتوا جميعاً !
وذهب صاحبنا الي مكتبه في الصباح الباكر وهو قريب من المنزل شأن كل المدارس والمعاهد في الأقاليم حيث تبني منازل المدرسين بجانب المدرسة او المعهد وهناك استقبله اول ما استقبله من العاملين كاتب المركز وهو شاب دينكاوي بشوش اسمه لوكا وَخبُر فيه فيما بعد المقدرة والكفاءة والنشاط , ثم توافد المدرسون لتحيته وكلهم من الشماليين عدا واحداً من ابناء الدينكا , ثم جاء العمال كالطباخين ومساعديهم والفراشين والخفراء وآخرين , وكان الكاتب يقوم بالترجمة من لغة الدينكا الي اللغة العربية و العكس , وما زال صاحبنا يذكر ان رئيس الطباخين عندما صافحه التفت الي الكاتب وقال له ( عميد فرفوري ) وصمت الكاتب لحظة وسأله العميد عما قاله الرجل فقال ( عميد صغير السن ) وابتسم صاحبنا فقد كان في الواحدة والثلاثين من عمره حينئذ ) , وبعد ان فرغ من استقبال العاملين خرج ليتفقد المركز او المعهد والذي سيكون تحت مسئوليته وصحبه نائبه الذي امضي بالمركز بضع سنوات , وأُنشئ المركز ليتعلم فيه المدرسات والمدرسون الجنوبيون اللغة العربية ويتدربون فيه ايضاً علي التدريس باللغة العربية في المرحلة الأولية وكانت مدة الدراسة اربع سنوات يوفد بعدها المدرس الي الشمال ليعمل في احد مدارسه لمدة سنتين ثم يرجع الي الجنوب , وكان يقوم بالتدريس بالمركز نخبة من نظار المدارس الأولية المتميزين من الشماليين ويحتل المعهد مساحة شاسعة من الأرض , وتضم ابنيته مبني الادارة وقاعات الدراسة وداخليات الطلبة المدرسين ومنازل هيئة التدريس وملحقة به مدرسة اولية بها داخلية لتدريب الطلبة المدرسين , وهناك مباني عديدة متنوعة وكان للمعهد عربة . وكان المعهد يستقبل المدرسين والمدرسات من مديريات الجنوب الثلاث ( أعالي النيل وبحر الغزال والأستوائية ) حيث يكون في المعهد اربع فرق في كل مرة . ولاحظ صاحبنا ان جل اعضاء هيئة التدريس من مديرية كردفان ولعل ذلك راجع الي قرب هذه المديرية من الجنوب , وكان يشعر بشئ من التهيب ازاء هذه المسئولية الكبيرة فقد كانت خبرته قبل ذلك لا تتعدي ادارة مدارس في المرحلة المتوسطة وهي متوسطة في حجمها من حيث اعداد التلاميذ الصبية والمدرسين , ولكن هنا الطلبة من المدرسين الراشدين ذوي الخبرات وعديد السنين في التدريس , وكذلك هيئة التدريس تضم نظار المدارس الأولية ذوي الخبرة والتجربة والسن . انهم جيش صغير من المدرسين والمتدربين والعاملين والتلاميذ , فهل سينجح صاحبنا في اجتياز التجربة الجديدة في سلام ؟ او بمعني آخر بنجاح ؟ قال : نعم , ولن يخيب ظن رؤسائه في الخرطوم الذين رقوه واختاروه لهذا المنصب , وقبل ذلك لن يخيب ظن نفسه لنفسه , فهو قد جاء الي هنا بيقين ثابت ووّطن نفسه علي ان يعطي من قدرته وطاقته اقصي ما يستطيع , الم يكن ايمانه دوما ان الوطن واحد وبنيه سواسية حيثما كان وجودهم شمالاً او جنوباً شرقاً او غرباً وربما انحاز شعوراً نحو الجنوب في اداء رسالته احساساً منه لما لحقه من ظلم اكثر من بقية القطر في عهد الاستعمار . وبهذا الفهم وهذا الايمان وهذا التصميم بدأ عمله في الجنوب . ولا يدري والا قفزت في خاطره او ذاكرته هذه الأبيات للمتنبي الذي يحبه كثيراً
علي قدر اهل العزم تأتي العزائم وتأتي علي قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم

هلال زاهر الساداتي

ونواصل

Post: #5
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-16-2007, 10:08 PM
Parent: #1

مقتطفات من كتاب ( ايام التونج – مذكرات في جنوب السودان)
(3)

نهر وامطار

تقع مدينة التونج الصغيرة علي ضفة نهر الجور وهو احد النهيرات الرافدة للنيل والبلدة نفسها عبارة عن هضبة يقع النهر علي حافتها ويحدها من جانب مستنقعات واحراش من الحشائش الطويلة تدعي ( التوج ) ويحفها من جوانبها الأخري غابة كثيفة من الأشجار والحشائش الطويلة ويطلقون عليها اسم (العقبة) , وتربة الأرض لا هي بالطينية ولا الرملية ولكنها مكونة من ذرات كبيرة كالحصباء مختلطة بما يشبه الرمل والتراب وتسمي هذه التربة (عزازة) ولذلك عندما تصب الأمطار لا يكون هناك طين او وحل يعيق السير ويلطخ الأحذية , ونسبة لعلو الأرض كالهضبة فان مياه الأمطار لا تكوّن بحيرات صغيرة وانما تجري وتصب في التوج . والأمطار هنا تهطل اشهر عديدة وبكميات عظيمة ولكنها لا تحول دون نشاط الناس في سعيهم للعيش وضربهم في الآرض من اجل الرزق . ويكاد المطر ينزل في مواعيد معلومة ففي الصباح يهطل رذاذاً ثم يتوقف ثم يصب وابلاً في منتصف النهار لمدة ساعة من الزمن ويتوقف كأن السماء أم رؤوم تطعم وليدها الأرض من ثديها في فترات وتشبعه , واما في الليل فان المطر يظل منهمراً في اسراف حتي توشك الأرض ان تقول كفي فقد بشمت وما تفني المياه ! ورحم الأرض طيب معطاء ينبت من كل زوج بهيج من الزرع ويخيل الي المرء انه اذا زرع احدهم عوداً جافاً اليوم لأصبح في الغداة اخضرأ مورقاً .
ان فضاء الأرض هنا كقطعة الفسيفساء بألوانها الزاهية من الأزاهر والورود البرية النضرة ذات الألوان الطيفية والأشجار الزاهية الخضرة تكاد تعانق عنان السماء وهناك فوق الشجر الطيور الصداحة من كل شكل ولون , فهناك الببغاوات الملونة والعصافير الصغيرة ذات الألوان الزاهية وكلها مغردة فتسمع الحان عذبة من شقشقة تؤلف فيما بينها سيمفونية لحنية خلابة للب تحرك الابداع في النفس الشاعرة وتملأ القلب بحب الحياة . وأما نهر الجور الصغير ففيه الرحمة وفيه العذاب ولكن لا بيده الأذي فهو يحتوي في باطنه ازواج من كل سمك شهي كالعجل والبياض والبلطي وتراه مناسباً مختالاً في جريانه , ولكن كدر شاطئيه نوع مؤذ من الذباب ينقل جرثومة لئيمة تسبب العمي للأنسان وسمي بعمي الجور لأنه أول ما اكتشفت هذه الذبابة اكتشفت علي ضفاف هذا النهر فسمي مرض العمي باسم هذا النهر الهادئ البرئ , وتري المصابين بهذا المرض اعينهم مفتوحة كالأصحاء ولكنها عمياء , والان هناك حملة دولية تشرف عليها منظمة الصحة العالمية لاستئصال هذا المرض اللعين وسموه عمي الأنهار , واظنه منتشر في اقطار اخري غير السودان . والماء في الجنوب هبة الله العظيمة من السماء للأرض فالأرض مبتلة من فوقها ومن تحتها , والمطر لا يعطل نشاط الانسان , وهناك اول شئ يقتنيه المرء الوافد من الشمال هو معطف واق من المطر
وبطارية Torch لينير بها الواحد طريقه في الليل او داخل المنزل اذا اضطر للقيام لبعض شأنه ليلاً , والمعطف الواقي من المطر والبطارية من الأساسيات التي لا غني عنها فالبلدة ليست بها كهرباء والظلام المكثف بالأشجار يكسو كل شئ , ولكي يتفادي الواحد ما يلاقيه من هوام الليل ومنها الزواحف كالثعابين وهذه منتشرة بكثرة هناك ومنها القاتل ذو السم الزعاف الذي ينقل الملدوغ الي القبر فوراً ولصاحبنا تجربة مخيفة مع الثعابين في طفولته تجعله يخاف منها الي الان وذلك عندما كان مع والديه في مدينة القضارف في شرق السودان حيث كان مقر عمل والده حينذاك , ولذلك في ذات يوم عندما رأي ثعباناً اخضراً ارقطاً متعلقاً بباب النملية المؤدي الي الملحق والمطبخ نادي بأعلي صوته علي الطباخ (يا سبت جيب عصاية وتعال بسرعة في دبيب هنا ) وحضر الطباخ جارياً ومعه عصا غليظة واشار له علي الثعبان ليقتله , وضحك سبت وقال ( يا جنابو دا بتاع خدار ساكت , ما يعمل حاجة) فأمره بقتله قائلاً ( بتاع خضار بتاع سجم اكتله بس ) . اما الخطر الاخر فهو الناموس المسبب للملاريا ولذلك نجد كل البيوت هنا محاطة بنملية من السلك وكذلك الابواب والشبابيك وتجد بابين مغطيان بالسلك في مدخل كل بيت يدخل الواحد من الباب الاول ويقفله ويسير في مدخل مغطي بالسلك من الجانبين الي الباب الثاني ويدخل منه ويقفله ومن ثم يدخل المنزل وذلك احترازاً من دخول الناموس الي المنزل , وهناك من يتخذون ناموسيات فوق الأسرة زيادة في الوقاية والملاريا هنا متوطنة وهناك جهود دولية بقيادة منظمة الصحة العالمية للقضاء عليها , وقد عقد مؤتمر دولي من رؤساء الدول المبتلاة بهذا الداء لمكافحته . وكان الموظفون الشماليون عندما ينقلون للعمل في الجنوب في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي يتعللون بشتي المعاذير لألغاء النقل وذلك بسبب تخوفهم من الاصابة بالملاريا وكان الواحد منهم يقول ( عاوزني امشي الجنوب عشان اموت هناك بالملاريا ) , ولكن جاء زمن ونحن في اواخر القرن العشرين وحتي الان في القرن الحادي والعشرين صارت فيه الملاريا متوطنة في الشمال , ليس ذلك وحسب بل صارت العاصمة القومية مباءة للملاريا وصار ضحاياه الذين لاقو ويلاقون حتفهم بالالاف ! لكن الله سلم فلم يصب صاحبنا ولا زوجه بالملاريا طيلة اقامتهم هناك لأنهما كانا يتعاطيان حبوباً في كل يوم حبتين للوقاية من الملاريا .
هلال زاهر الساداتي

ونواصل

Post: #6
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-19-2007, 08:50 PM
Parent: #1

مقتطفات من كتاب (ايام التونج – ذكريات في جنوب السودان)
(4)

حياة الناس

الناس هنا يعيشون عيشة البداءة والتخلف ويحيون علي الفطرة ومجموعة القبائل التي تعيش هنا اكبرها قبيلة الدينكا وهي اكبر القبائل عدداً ليس في الجنوب وحسب وانما في السودان قاطبة وهم يتمركزون في مديرية (ولاية) بحر الغزال ويوجدون بأعداد اقل في ولايتي اعالي النيل والاستوائية ونذكر منهم دينكا عالياب واتويت واقار وبور علي سبيل المثال وهم قوم طوال القامة رشيقو القوام يندر او يكاد ان تجد واحداً منهم بديناً او له كرش , ولون بشرتهم اسود يكاد يبرق سواده ويتميزون (بشلوخ) خمسة متوازية بطول الجبهة وبقلع الاسنان السفلي من فك الفم , وهم رعويون يرعون الابقار ويحبونها الي درجة تقترب من التقديس , وهم يلتقون في ذلك مع الهندوس في الهند , ولكن هنا تقاس مكانة المرء في المجتمع بما يملكه من ابقار وهي ثروة ثمينة يتباهي بها الفرد وهي الوسيلة لدفع المهر عند الزواج بدلاً من النقود , وحدّثت العميد اخته ان زميلة لها جنوبية تخرجت في الجامعة وتزوجها دينكاوي مثلها وهو دبلوماسي وكانا في بلاد الغربة في اوروبا , وسألتها ان كان قد دفع لها مهراً نقوداً , فنفت الزميلة ذلك وقالت انه ارسل لأهله ان يدفعوا مهرها ابقاراً لأهلها هم الان يحتفظون لها بهذه الابقار . وفيما بعد سأل العميد بعض الطلبة المتدربين عن المهر بالأبقار فقيل له انه يتفاوت من عشرين بقرة الي مئتين , وسأل ثانية الا يمكن للشاب ان يتزوج بأقل من عشرين بقرة , واجابه احدهم ( ممكن ولكن يعرس مرَة شينة ) ( امرأة قبيحة) وهنا قفز الي ذهن العميد بيت شعر يقول :
ومن يخطب الحسناء لم يغلها المهر
والدينكا قبيلة يتميزون بالشجاعة والعزة ويتميزون برح مرحة ومزاج طروب وميل الي الغناء والرقص ويخيل للواحد ان كل فرد في هذه القبيلة شاعر وراقص ومغن , فنجد الواحد منهم يرتجل قصيدته ارتجالاً ويلحنها ويغنيها ثم يرقص عليها وهو سائر في طريقه ويتوقف قليلا ليرقص رافعاً يديه الي اعلي ماداً صدره الي الأمام وضارباً الأرض بقدميه في قوة الواحدة تلو الاخري وكأنه سيخرقها , وشكل اليدين المرفوعة الي اعلي يحاكي شكل قرون ثوره وموضوع كل الاغاني هنا عن الثيران ووصفها والغزل فيها واطرائها , والعجيب ان الفتاة اذا ارادت ان تطري فتاها فانها تبدي اعجابها بثوره فتنشئ اغنية في جمال وقوة الثور كما أُخبرتْ .
وحصل ان ذهب العميد الي رومبيك في مهمة ولما عاد وجد ان السجين المضمون ويدعونه (دوّر براه) , وهؤلاء السجناء من هذا النوع غالباً ما تكون جريمتهم هي الشجار ويبعثون بهم الي العمل في بيوت كبار الموظفين نظير اجر زهيد شهرياً , استقبله (دور براه) بالغناء والرقص وطلب العميد من الطاهي ان يترجم له الاغنية من لغة الدينكا الي العربية وكان السجين يصف في اغنيته رحلة العميد الي رومبيك منذ ان وضع قدمه علي العربة عند الدار والي عودته سالماً .
وشئ آخر يتوقف عنده المرء كثيراً وهو ان هؤلاء القوم يمتازون باستقامة خلقية نادرة , فالأمانة والصدق عندهم سجية , والسرقة هنا منعدمة لأن لا احد يسرق , وليس هناك شذوذ جنسي , والناس هنا سواسية لا فضل لأحد علي الآخر , وأمر آخر توقف عنده كثيراً وصدمه وهو مرأي الناس عرايا كما ولدتهم امهاتهم عدا النساء المتزوجات الآئي يغطين موضع العفة منهن بفروة من جلد الضأن ويلبسنها حول خصورهن وهذا المنظر القبيح هو ميراث الحكم الاستعماري الانجليزي بعد خمسين سنة من حكمه للبلاد ! وتحضر العميد هنا مقابلة مع مفتش المركز الانجليزي بمركز رشاد في جبال النوبة وكانوا في رحلة دراسية قبل تخرجهم من كلية المعلمين الوسطي ببخت الرضا , فقد سأل المفتش لماذا لا يحاربون العُري في بعض مناطق جبال النوبة , وحدجه المفتش بنظرة فيها الاستهجان والغضب من السؤال وأجابه بأن أهل البلد يفضلون العُري .
وحادثة واقعية اخري حدثت في الجنوب ابان الحكم الاستعماري فقد رأي المفتش الانجليزي رجلاً جنوبياً برتدي جلابية واستدعاه وأمره ان يشتري علبة ثقاب ثم أمره ان يخلع الجلابية ويشعل فيها النار وقال له ( هل هذا اللباس لباس ابوك او جدك او اهلك ؟ انه لباس الجلابة ( الشماليين) , اياك ان تفعل هذا مرة اخري ) , وهذا الذي حدث يتمشي مع السياسة الاستعمارية التي رسموها لفصل الجنوب عن الشمال ومنع أي تأثير حضاري علي الجنوب وابقائهم علي بدائيتهم وتخلفهم وجهلهم حتي تسهل السيطرة عليهم , وكان من ذلك ان أصدر الانجليز قانون المناطق المقفولة وهذا القانون يمنع السفر او الذهاب الي الجنوب وبعض اماكن دارفور بالنسبة للشماليين الا بتصريح خاص ولمدة معينة وكان يتولي التجارة في الجنوب التجار الاغريق وكانت البعثات التبشيرية المسيحية تتولي أمر التعليم ويقوم بالتدريس القسس الاجانب او السودانيين القبط في جبال النوية بالذات .
ومما لفت نظر صاحبنا واثار تعجبه هو ان الرجل يتزين بالخرز (السُكسُك) عقوداً في عنقه وبالأساور في معصميه ورجليه ويطلي جسمه او بعضه بألوان مختلفة كما انه يطيل شعره ويصبغه بلون اصفر او احمر ويتففن في تصفيفه بينما المرأة تحلق شعر رأسها كله (قرعة) ولا تتزين مثل الرجل , وتذكر صاحبنا ما قرأه ذات مرة عن كاتب ولعله الجاحظ يصف فيه الذكر بأنه اكثر اتساقاً في البدن من الانثي وضرب مثلاً بذلك بالحيوانات فانك تجد الديك اجمل من الدجاجة والاسد اجمل من اللبوة ونجد طائر (ود ابرق) اكبر حجماً واجمل من (بت ابرق) وكذلك ذكر البلبل اجمل من انثاه , ولكنه يتحفظ عندما يأتي الأمر الي الانسان فان انثاه تتميز بالحسن عن الذكر ويتفوق عليها بقوة الجسد .
والقبيلة الثانية التي تسكن التونج هي قبيلة الجور وهذه القبيلة حباها الله بذوق فني ومهارة يدوية في نحت وتشكيل التماثيل من الخشب وفي اعمال النجارة بشكل عام , وهم ينحتون من الخشب تماثيل صغيرة للحيوانات المختلفة من خشب الأبنوس خاصة تكاد تنطق بالحياة ويقتني الشماليون والاجانب هذه الاناتيك ويزينون بها حجرات الاستقبال . ومن عجب ان رجال هذه القبيلة يمشطون شعورهم اي يرسلونها جدائل كما تفعل النساء في بعض انحاء السودان , واما النساء فيحلقن رؤوسهم بالموسي ويمسحونها بالزيت ومثلهم في ذلك مثل نساء الدينكا , ولكن النساء والرجال من الجور يسترون عوراتهم بقطع من القماش مع ابقاء بقية الجسم عارياً , وصدف ان كان هناك بائع سمك يمر كل يوم من امام منزل نائب العميد حاملاً عصا طويلة يتدلي منها كمية من السمك الطازج في طريقه الي السوق , وكانت زوجة نائب العميد التي وفدت حديثاً من الشمال تستدعيه لتشتري منه السمك وتتبسط معه شأن النساء مع بعضهن فقد خدعها شعره الممشط وحسبته امرأة , وعلمت بعدئذ انه رجل وان الرجال يمشطون شعورهم . وكان يعمل مع العميد طاه حضري من الجور وتوفي والده و أقام له كرامة في الاسبوع من وفاته , ونحن في الشمال نذبح خروفاً عندما يتم اسبوع علي الوفاة وتسمي كرامة . ودعي الطاه العميد لحضور السبوع ولبي الدعوة ووجد ان الحضور من اقارب ومعارف المتوفي وانهم اعدوا المريسة بكميات كبيرة وذبحوا ثوراً والجميع في انشراح وحبور وهم يعبون من الشراب عباً ثم بدأ الرقص صاخباً حاراً وكان الطاه ابن المتوفي اكثرهم نشاطاً في الرقص , وجاء عجب صاحبنا من ان المأتم انقلب الي عرس وان الحزن حل محله الفرح وكان يتوقع ان يري وجوهاً كابية وعيون دامعة وقلوب مفطورة حزناً والناس يعزون في الميت بوقار وحزن اصيل او مصطنع , اما ما شاهده فلا يدري له تفسيراً ولا يفهم له معني . وفي اليوم التالي سأل الطاه مبدياً تعجبه من ابتهاجهم واحتفالهم بوفاة والده فأجابه بأن هذا شئ طبيعي لديهم وأنهم يقصدون من ذلك تسلية المصاب عن مصيبته وابعاد الحزن والاسي عن نفسه والتنفيس عن كل ذلك بالرقص والغناء فهم لا يريدون ان يزيدوا همه وبلوته بالبكاء والعويل , ووجد صاحبنا كثيراً من الوجاهة في هذا المنطق وتذكر حديثاً للنبي (صلعم), في هذا الصدد يقول ما معناه انه لا يحق للمؤمن الحداد فوق ثلاث ليال . وهذا التصرف عند المأتم يعود لاختلاف العادات والتقاليد المنبثقة من اختلاف الثقافات الشعبية .

هلال زاهر الساداتي

ونواصل

Post: #7
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: عبد الحميد البرنس
Date: 04-20-2007, 02:18 AM
Parent: #6

Quote: الفاضل أستاذ هلال..

مرحب بيك تاني في المنبر..
ومرحب بالكتابات والحكاوي الممتعة..

..

ومتابعين..

Post: #8
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-21-2007, 11:08 AM
Parent: #1

الأخوة الأفاضل طلال عفيفي وعبدالحميد البرنس والآخت الفاضلة رجاء العباسي :
اجزل الشكر علي ترحيبكم الرقيق .

Post: #9
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: Muna Khugali
Date: 04-21-2007, 04:37 PM
Parent: #8

حقا كتابات ممتعه..
شكرا علي تلبيه طلبهم..

Post: #10
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 04-25-2007, 12:03 PM
Parent: #1

مقتطفات من كتاب ( أيام التونج – ذكريات في جنوب السودان )

(الهجوم)

و أخبرني العميد بأن نمط حياتهم أو الروتين اليومي لم يتغير فظلوا يلعبون التنس عصر كل يوم ثم يعودون في المساء إلى النادي , و في يوم بعد أن عاد من اللعب إلى المنزل ليغير ثيابه و يذهب إلى النادي أمطرت السماء رذاذاً فتكاسل و صرف النظر عن الذهاب و عزم أن يلزم المنزل و أن يقضي الليلة في القراءة و بخاصة أنه كان قد بدأ المطالعة في رواية مشوقة . و توقف المطر و أنجلت الغيوم عن سماء صافية الأديم و عن قمر كان بدراً فأضاءت الأرض بفيض من النور أحتضن الأرض في رفق و حنان و نشر ألويةً بيضاء من الجمال على الكون تبعث المسرة في النفوس و كان اليوم هو الأربعاء 19/8/1963 وفي تلك الليلة التي بزغ فيها البدر ناشراُ ضياءه الفضى اللامع على الأرض و سكن فيها الناس و الحيوان وكان المتسامرون في النادي يتناولون أحاديث مشققة , وكان اللاعبون منهمكين في ألعاب الورق و الشطرنج و آخرون جالسين في أسترخاء على المقاعد الوثيرة يستمعون إلى الراديو خرق السكون الساجي طقطقات الرصاص و هدير القذائف و كأن بركانً أنقلب رأساُ على عقب في الفضاء و صب جام حممه على الأرض وصار الناس يجرون لائذين بأي ملجا أو مكان ينجيهم من الموت الأعمى النازل عليهم و الذي لايفرق بين أمراة و رجل أو شيخ وطفل , و تشتت رواد النادي و جلهم قفز من صور النادي القصير و عموا عن بوابة الخروج , و جاء رجل جنوبي جارياً كلاعصار ماراً بمنطقة المعهد و التي تبعد عن منطقة السوق و مركز الشرطة حيث تركز الهجوم , و كان الرجل متجهاً إلى الغابة للاحتماء بها وصاح الناس به سائلين عن الخبر , فأجاب وهو يركض ( حصل كلام بتّال جوه البلد ) واستمر اطلاق النار عدة ساعات و كان قد بدأ في الساعة السابعة مساءً و كان هدف المهاجمين الإستيلاء على مركز الشرطة أولاً ولذلك ركزوا الهجوم عليه , وكان يقاومهم بالمدفع البرين الوحيد عريف ( امباشي ) من البوليس ولم يمكنهم من الإقتراب من المركز مع أنه اصيب في فخذه وكان معه بضعة جنود وأما الضابط الأول فإنه ركب عربة المركز اللاندروفر وأختفى , و أما الضابظ الآخر فقد كان بمنزله ولم يستطع الوصول إلى المركز , وكان المتمردون قد قطعوا أسلاك التليفون ليعزلوا التونج عن بقية المديرية وعن العاصمة واو لكن شاءت عناية الله أن يقطعوا الأسلاك الخطأ وهي الأسلاك الداخلية في المدينة و بقي السلك الموصل لواو سليماً , و لذلك كان الموجودون في مركز البوليس على أتصال دائم بواو و اخبروهم بالهجوم و ظلوا يوالونهم بتطورات الموقف أولاً بأول . وطمأن المسئولون في واو المدافعين بأن النجدة في طريقها إليهم وطلبوا منهم الثبات حتى تأتيهم النجدة .
وكان العميد في صالون منزله يقرأ عندما سمع أصوات مكتومة شبيهة بصوت قرع الجلد بعود جاف ( طق طق ) وسألته زوجته عن هذا الصوت فأجابها بأن الرعاة في حظيرة الأبقار التابعة للمعهد و القريبة من المنزل ربما يكونون يعالجون شيئاً يصدر منه هذا الصوت , ولكن الأصوات صارت أقرب إليهم وأكثر وضوحاً وعرف أنها أصوات رصاص و قطع الشك باليقين عندما مرت طلقتان تصفران بجانب النملية المحيطة بالدار , وأقترب إطلاق الرصاص أكثر وصار يتتابع كأنه من سلاح آلي , فهب العميد واقفل أبواب النمليات بالترابيس من الداخل و كذلك أبواب و نوافذ المنزل وأطفأ الرتينة في الصالون والمصباح في غرفة النوم والآخر الموجود في المطبخ , وطلب من زوجته أن تلزم السكوت و الهدوء ورقدوا على أرض الحجرة إتقاءً للطلقات إن خرقت النوافذ المطلة على النمليات , وطلبت منه زوجته أن يذهبا وينضما إلى المعلمين وذلك لأن منزلهم كان منعزلاً عن بقية بيوت المعلمين بنحو كيلو متر أو أكثر و الطريق بينهما تكتنفه الأشجار و الحشائش الطويلة , فقال لها إن أأمن مكان لهما الآن هو داخل المنزل وإن خرجا من المنزل كانا صيداً سهلاً لا سيما و أن المسافة بين منزلهم و منزل المدرسين ليست قصيرة , وأخبرها أن المتمردين لن يقتحموا المنزل المغلق خوفاً من أن يكون لديه سلاح , وقد بدا أن الذي يهاجم المنزل شخص واحد لأن إطلاق الرصاص كان يصدر من جهة واحدة ومتقطعاً , وقد صدق هذا الظن لاحقاً مما سيجيء ذكره , و حقيقةً لم يكن العميد يمتلك سلاحاً من أي نوع وحتى العكاز لم يكن بالدار , وسلم أمره لله وبالرغم من الخوف الشديد الذي أحسه ورغم وجيب قلبه متسارعاً ويضرب كل الطبل كان ذهنه صافياً وتفكيره منتظماً , وكان يفكر في شتى الإحتمالات وأوصله تفكيره إلى الخوف من التمثيل به أو الإعتداء على زوجته , ورغم إيمانه العميق أسلمه الموقف اليائس إلى أن الموت بيده أكرم من الموت بأيدي المتمردين ( بيدي لا بيد عمرو ) وكان لديه زجاجةُ مليئة بمبيد سام قاتل للحشرات , وقرر على أن يسقي زوجته أولاً ثم يشرب منه هو حتى لا يقعا في يد المتمردين .
عجيب أمر الإنسان يحتويه الخوف ولا يخاف أن يقتل نفسه , وربما يفسر هذا الفرق بين الخوف والجبن , فالجبان لايقدم على شيء فيه إيذاءُ به بأي شكلٍ من الأشكال . وبينما هو في خضم هذه الأفكار قل صوت الرصاص وتباعد شيئاً فشيئاً ثم صمت . وكان الوقت يقترب من منتصف الليل و ارجأ تنفيذ تدبيره وظل مترقباً إنبلاج الفجر وحلول النهار وفي الصبح سمع أصوات تناديه من خارج المنزل ( يا عميد يا عميد ) وقام ليستطلع المنادين وقالت له زوجته في إشفاق أن يتوقى الحذر وأن لا يخرج للمنادين فربما يكونون من المتمردين , ورد عليها بان أصوات المنادين هي أصوات شماليين و أنه سيتأكد من ذلك بفتح النافذة في فرجة صغيرة يرى منها , وفعلاً فتح النافذة الكبيرة بحذر ورأى جمعاً من مدرسي المعهد خارج المنزل , وفتح النافذة على مصراعيها ورد عليهم بلهفة وشوق وخرج من الدار وأحتضن الجميع وكل واحد منهم يكاد لايصدق أنه نجا ( وحمدل ) وحمد الله السلامه بعضهم لبعض وصحب زوجته لتنضم إلى عائلات المدرسين و من هناك ذهبوا جميعاً إلى منتصف البلد في منطقة السوق ومركز البوليس حيث تركز الهجوم , فوجدوا أفراداً من الجيش و الشرطة وعساكر السجون منتشرين في الطرق والأماكن المهمة في البلدة يحرسونها ومن هناك ذهبوا إلى المستشفى حيث يوجد جريحان من الشرطة ويوجد في المشرحة 6 من جنود الشرطة و 5 سجانه و 2 جلابة وجثتان للمتمردين , وكانت تلك حصيلة الليلة من القتلي و الجرحي , و عرفوا تفاصيل الهجوم في الليلة الفائتة عندما هجم المتمردون على مركز البوليس وأخذ الجنود الموجودين يتبادلون النيران معهم وبخاصةٍ ( الأمباشي ) العريف شرطة بمدفعه البرين بالرغم من أصابته بنشاب في فخذه فقد كان يصحب المتمردين المسلحين بالأسلحة النارية جماعة من حاملي الحراب والنشاب ( السهام ) و أستمر تبادل إطلاق النار إلى الثانية عشرة ليلاً عندما جاءت قوة النجدة من الجيش من مدينة واو و دحرت المتمردين الذين فروا تاركين وراءهم إثنين من القتلى ولم يحققوا هدفهم من الإستيلاء على المركز ومن ثم على مدينة التونج وقد طاردتهم قوة من الجيش ولكن لم تلحق بهم .

هلال زاهر الساداتي

ونواصل


















Post: #11
Title: Re: مقتطفات من كتاب (أيام التونج - ذكريات في جنوب السودان)
Author: هلال زاهر الساداتي
Date: 05-01-2007, 11:26 AM
Parent: #1

مقتطفات من كتاب ايام التونج (ذكريات في جنوب السودان)

ذيول الحادث

ويمضي العميد في روايته للاحداث قائلاً انه في اليوم التالي وهو الخميس 20/8/1964 كان هناك حداد عام والنفوس مثقلة بالحزن ولم يذهب الموظفون الي اعمالهم ولم يكن لدي احد (نفس) ليعمل , ولما كانت منطقة المعهد بعيدة عن البلد فقد طلب المدرسون من المفتش ان يعين حرسا من الجيش لبيوت المعلمين وعائلاتهم ولكنه قال ان القوة الموجودة لديه لا تفي بالغرض المطلوب وانه سيطلب قوة اضافية من واو لتقوم بالمهمة وقال لهم ان يتجمع المدرسون في الاستراحة الملحقة بمنزله وان تلتجئ النساء واطفال المدرسين في داره الواسعة وان يأتي كل واحد بفراشه ويفترشون ارض الحجرات في الاستراحة والمنزل مثلما يحدث في الحج في عرفات ومني , وهم سيكفلون لهم الحماية في هذا التجمع الي ان تصل القوة الاضافية من واو وبعدها يرجعون الي منازلهم وتوفر لهم الحراسة هناك . وقضينا الليلة في الاستراحة مفترشين المراتب علي ارضية حجرة واسعة ودار الحديث عن تجربة كل واحد من المدرسين في تلك الليلة الليلاء مما اصبح مادة للتفكه وللتسرية عن النفوس الممتلئة حزناً وغما , وقال ناظر المدرسة الوسطي للبنين انه كان يلعب لعبة الكنكان بورق اللعب عندما بدأ ضرب الرصاص واخذت الطلقات تمر في اجواء النادي القريب من مركز البوليس , فهب اللاعبون ورواد النادي وركضوا للخروج فمنهم من قفز فوق سياج النادي القصير ومنهم من تدافع للخروج من بوابة النادي والكل يبغي النجاة بجلده واللحاق بعائلته بمنزله ليدبر امر خلاصهم وقال انه رغم قصر قامته قفز من فوق السور وجري كالريح وهو ما يزال قابضا علي اوراق اللعب في يده وهو في جريه وقع منه كرت فانحني والتقطه واستأنف جريه حتي وصل منزله وهو قابض علي كروت اللعب , ثم جمع زوجته وبناته الاثنتين الصغيرتين والخادمة في حجرة الحمام وجلسوا علي الارض بعد ان اقفل باب الحجرة وقبلها اقفل باب المنزل وكل ابواب الحجرات الاخري وظلوا صامتين مرعوبين وقال انه بعد قليل احس بماء يسيل علي الارضية الاسمنتية وبلل جانب جلبابه واستغرب ان الحنفية مقفلة وكانت تجلس بقرب منه الخادمة واكتشف ان ما حسبه ماءا كان بولا .
وكان هناك ثلاثة مدرسين شبان صغار في المجلس واتاهم جارياً كالاعصار زميل لهم وروي لهم بين انفاسه اللاهثة وكلماته المتقطعة ما جري ويجري في البلد فاقتحموا كلهم الحمام ورقدوا في حوض الحمام المنخفض بعد ان اقفلوا الباب من الداخل .
( ايه حكاية الحمام دي في الاختباء) اما الذي فاق الاولين (اصحاب الحمام) في التخفي وكان يشبه الجنوبين لونا وشكلا فانه خلع ملابسه كلها وبقي عريانا كما ولدته امه ولم يكتف بذلك بل اقتحم اقرب منزل اليه وكان لاحد الكتبة الجنوبيين ووجده مخمورا في سريره ولكنه كان صاحيا فصاح به وطرده وطلب من زوجته ان تناوله الحربة وجري الاستاذ العريان الي الشارع واحتار ولم يجد مكانا يختبئ فيه ولم تطل حيرته فانه جري الي مرحاض احد البيوت ورفع غطاء الفتحة التي يدخلون منها جردل المرحاض وسحب الجردل الي الخارج ودخل من الفتحة واختبأ في مكان الجردل .
وذكر آخر انه قرأ الآيات المنجيات وآية الكرسي وسورة ياسين والمعوذتين واخذ يرددها بآلية مطردة حتي الصباح وهنا قاطعه مدرس مولانا كان راقدا في اخر الحجرة فانتفض قاعدا وقال بصوت عال وفي حرقة واسي (اخ آخ امبارح نسيت اقرأ سورة ياسين) واما الاستاذ .... المسيحي فقد قال انه اسكت العيال وامهم واقفلوا عليهم باب الحجرة بالمفتاح والترباس وكان لديه زجاجة شراب ووقف جانبا وراء الباب وفي يده اليمني عود الفندق وفي يده اليسري زجاجة (الشري) ويأخذ منها جرعة او اثنتين وهو متأهب ليهشم رأس من يقتحم الباب ويدخل الحجرة .
وأخر قال انه اقفل باب الحجرة عليهم وكان لديه بندقية خرطوش ووقف مستعدا ولكنه كان في قمة التوتر واخذ صغاره يبكون واخذ هو في حنق يكلم زوجته بصوت خفيض (سكتي العيال – اكتميهم – كممي خشومن – انت عايزة المتمردين يعرفوا محلنا) , ورجل آخر صديق للعميد وهو ملاحظ الغابات ويلقبونه بعوض كُتل فقد كانت له تجربة سابقة مع التمرد الاول في عام 1955 عندما كان في الاستوائية ونجا من الموت بأعجوبة وها هو التمرد يلحق به مرة ثانية في بحر الغزال ولكن كُتل احتاط لنفسه واحدث ثغرة في سقف مخزن منزله قرب الجدار ووضع سلماً علي الحائط يتسلقه عند الحاجة الي سقف المنزل وزود الثغرة بباب متين من الخشب يرفع من الداخل ويقفل من الخارج , وملاحظو الغابات يزودونهم في العادة ببندقية (اب عشرة) للدفاع عن انفسم لأنهم يعملون في مجاهل الغابات وربما يتعرضون للهجوم من الحيوانات المتوحشة . ولما وقع الهجوم علي البلدة اخذ كُتل بندقيته وارتقي سلمه واعتلي سطح المنزل وسد الثغرة واقفلها من الخارج ثم انبطح علي بطنه قابضاً علي البندقية ويشاهد من مكمنه كل شئ . وفيما بعد سأله العميد لماذا لم يطلق النار علي المتمردين فأجابه قائلاً : قايلني انا عوير , عايزني اضرب نار عشان يعرفوا مكاني ويصطادوني .
وقال العميد انه لم يكن يعرف عن يقين ان الحيوانات تخاف كبني البشر الا عندما حكي له التاجر الاغريقي قصة كلبه فقد كان لديه كلب ضخم شرس وكان يربطه بجنزير غليظ ولا يطلق سراحه الا بعد ان يخلدوا الي النوم وفي تلك الليلة ومع اصوات طلقات الرصاص الاولي نبح الكلب نباحاً شديداً واشتد هياجه وكأنه سيقطع الجنزير من الشد والوثب ولما اشتد ضرب الرصاص اخذ صوت الكلب يخفت ويخفت حتي صار وحوحة واخذ يزوم في صوته كالعويل او كالمتوسل طالبا الخلاص او الرحمة ووضع ذيله بين رجليه الخلفيتين وهذه عند الكلاب علامة الاستسلام .
اما ما حدث من نوادر داخل البلدة في تلك الليلة الليلاء فيكفي حادثان كان ابطالهما اثنان احدهما رقيب في البوليس واخر تاجر شاب وكان كلاهما طويلا عريضا وكان الرقيب ذو عضلات بارزة وكان (يكفكف) اكمام قميصه الي ما يقرب كتفيه ليظهر عضلاته المفتولة وكان دائم الحديث عن بطولاته وجسارته في القبض علي المجرمين وفي ليلة الهجوم كان في مركز البوليس يحمل مدفعا رشاشا صغيرا وكان يقف بالداخل بجانب باب المركز ويمد يديه بمدفعه الي الخارج ويطلق زخات من الرصاص وهو يصيح في كل مرة ( انا اخوك يا فاطنة ) ثم يتراجع الي الداخل وتجرأ واخرج رأسه من الباب وجاءت رصاصة اصابت غطاء رأسه (الكاب) واطاحت به بعيدا وهنا ركبت الرقيب هستيريا فأفرغ مدفعه في الهواء وزاد صياحه بأنه اخو فاطنة وبعدها رمي المدفع واطلق ساقيه للريح هارباً .
اما التاجر الشاب فقد ادخل جسمه الضخم تحت كرسي (عملها كيف ؟ الله اعلم ) ظاناً انه آمن في مخبأه ذاك وكان كلما سمع طلقة رصاص يمسك رجله ويصيح (آي) او ظهره ويصيح (أخ) او كتفه ويصيح (آي آي) الي ان سكت صوت الرصاص .
وكان في منطقة السجن بعض السجّانين منبطحين علي الارض وممسكين ببنادقهم وما يشعرون الا بواحد واقف علي رؤوسهم وبيده حربة فسألوه بأصوات عالية مضطربة (انت منو يا زول) فأجابهم (انا زول بتاء اقبة) انا زول بتاع عقبة اي الغابة وبدأ الجنود في اطلاق النار عشوائيا ولم يصيبوه وجري ( زول العقبة) واختفي بين الحشائش والاشجار فقد كان يصحب المتمردين بعض حاملي الحراب والنشاب .

واكتفي بهذا القدر المقتطف من كتاب ايام التونج ذكريات في جنوب السودان وسوف انتقل الي الكتاب الثاني (الطباشيرة والكتاب والناس – مذكرات معلم قديم) .
اما التونج الجميلة فما قليتها ولن انساها فرغم مرارة ختام البقاء فيها والذكري الموجعة للاحداث الاليمة التي عشناها بآخرة فقد كان لنا فيها ايام عبقت بالصفاء وضمخت بالود وتوشحت بالبهجة وتجللت بالمسرة . فهل من لقاء جديد في احضان الحب والسلام ؟ أود ذلك فما يزال الامل حياً في الخاطر .

هلال زاهر الساداتي - القاهرة