الذوق والسوق

الذوق والسوق


05-30-2002, 08:03 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=1&msg=1022742208&rn=0


Post: #1
Title: الذوق والسوق
Author: Al-Masafaa
Date: 05-30-2002, 08:03 AM




الحاج وراق

أثارت عودة الفنان الكبير محمد وردي الي البلاد في اطار حملة اعلانية لشركة دال موجة من التعليقات الساخطة من عدد من الصحفيين ومن الشباب ومن «الحنابلة» السياسيين ويمكن تلخيص إعتراضهم في أنهم يربأون بالفن خصوصاً في قممه المضيئة كوردي ، ان يرتبط بالاعلان والتجارة وعلي عكس ما توحي به خفة التناول السائدة حالياً للقضية فانها ليست قضية بسيطة كما تبدو وانما قضية معقدة تستدعي التأمل والمناقشة .

انتقاد ارتباط الفنون بالتجارة انتقاد رائج الآن في الغرب كأحد ثمار حركة نقد واسعة وحذرية للحضارة الحديثة خصوصاً نظامها الإجتماعى القائم علي السوق الرأسمالى وهو نقد لتجربة تاريخية إستمرت لأكثر من خسمة قرون إيجابياتها ليست محل نزاع فقد أنجبت الفرد المحرر من الاغلال التقليدية الفرد القادر علي أن يفكر ويبدع وينهض وأمنت المجتمعات من المجاعات والأوبئة وأعطت الانسانية الديمقراطية التعددية والمضاد الحيوي وعنوان الحضارة الحديثة هو السوق العرضي للسلع واللافتات المضيئة بلمبات النيون ولكن ليس السوق كمحل للتبضع فحسب وانما كذلك كمفهوم شامل لحق الفرد في الاختيار الاختيار من مروحة هائلة من لاسلع والافكار والمشاريع السياسية والقيم وهنا تكمن جاذبية الحضارة الحديثة ومحدوديتها كذلك .

قيام الحضارة الحديثة علي السوق علي الحساب العقلاني البارد اختزال العالم الي لوحة رقمية تهمش كل ما لا يمكن حساب مقاديره الكمية فاختزال ثراء أبعاد الشخصية الانسانية في بعد واحد بعد الانسان المستهلك الذي يتكالب علي مراكمة السلع ومزيد من السلع ولكن للانسان جاجات واهتمامات لا يمكن تقدير «أثمانها» الكمية ولا يمكن عرضها في أى سوبر ماركت حاجات واهتمامات مثلث الحب والاخلاص والوفاء والالتزام وغيرها من لاقيم الكيفية والتي دونها تتحول الحياة الانسانية الي خواء بلا معني.

ولذا فمن مواقع ديمقراطية وانسانية فإن النقد الاجتماعى في الغرب ينتقد المظاهر السلبية لحضارة الاستهلاك كالفردية الانانية وتحول السعلة الي صنم مقدس وتهرؤ القيم الاجتماعية والاخلاقية وتسطيح وتنميط الآداب والفنون حين تتحول الي سلع للاستهلاك الشعبي الواسع .

ولأن عقلنا ما يزال حتي عند المثقفين عقل إتباع وتقليد لا عقل إبداع وتجديد فإننا نختطف المفاهيم من خارج سياقها الظرفي التاريخي فننتقد مع المنتقدين «حضارة الاستهلاك» غافلين عن الفرق النوعي بين تلك المجتمعات ومجتمعاتنا فهناك بعد رفاه الاستهلاك يتساءلوه بحق عن المعني بينما هنا يعاني غالب شعبنا سوء التغذية ولا يتساءلون عن معنى الحياة وانما عن شروط بقائها نفسها.

هذه أمراض الاستلاف البليد تماماً كما استلفنا «الجينز» في مواطنه الاصلي رمز من رموز التمرد علي الترف البرجوازي وهنا خارج سياقه ولالاته أحد مفردات التباهى و«المنجهة» .

والمجتمع الحديث أياً ما تكن إخفاقاته فهو خطوة متقدمة في التاريخ الانساني علي المجتمع التقليدي .. المجتمع الحديث وحتي إن لم يحرر أفراد تماماً فقد قشع الاوهام عن الاغلال التي تقيدهم ليروها كما هى في قبحها ودمامتها كى يتجرأوا ويتحركوا ولكن المجتمع التقليدي وبرغم دفئه فإنه يخفي الاغلال خلف الورود فالمجتمع التقليدى يقوم أساساً علي التغطية والاخفاء تغطية المصالح الاقتصادية خلف الشعارات العاطفية تغطية السلطة السياسية بالدين وتغطية المعايب الاجتماعية تحت «العنقريب» .

والافق المطروح لنا في السودان انما هو تخطي المجتمع التقليدي بنفاقه الزائف «وكلامه المغتغت وفاضي وخمج» ولكنه تخطي يستفيد من الخبرة الانسانية العالمية فلا يطرح الطفل مع ماء الغسيل أى يطرح السلبيات في ذات الوقت الذي يحافظ فيه علي الإيجابيات .

وواضعين في الاعتبار ظروفنا التاريخية فإن الخطر الاساسي الذي نواجهه ليس «تسليع» الفنون وإنما ضيق القاعدة الإجتماعية التي تصلها الفنون لتنعم بها .

وفي مجتمعاتنا التقليدية فإن إستقرار علاقة «سلعة نقد» و«عمل أجر» وما يتبع ذلك من إعلان وترويج يعد خطوة الي الامام .

والفنان محمد وردي فنان الحداثة بامتياز فهو الذي حول وضعية الفنان في البلاد من مادح او صائع الي فنان وقد فرض ذلك بإرساء مبدأ الأجر المجزى للفنان وبإرساء مبدأ التعامل اللائق والكريم مع الفنان الي تعامل «عطية المزين» السابق .

وآل داؤود عبد اللطيف رجال أعمال حديثين لهم دور في تحديث الاقتصاد وفي بناء السودان الحديث ولهم مصلحة ـ واعلان المصلحة المشروعة والاعتراف بها أفضل من منافقة تعفف الاستهبال ـ مصلحة في ترويج سلعتهم لذا وليس عيباً ولا كارثة اذا استفادوا من رمزية وردي في ذلك .

إن بلادنا تشتكي من الأنيميا ولذا فإن أولويتها الآن ليس التشكي من حضارة الاستهلاك