من قفشات محمد الريح

من قفشات محمد الريح


04-27-2002, 07:05 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=1&msg=1019887529&rn=0


Post: #1
Title: من قفشات محمد الريح
Author: Yaho_Zato
Date: 04-27-2002, 07:05 AM


الرومانسية السودانية.




رومانسيون نحن .... رومانتيكيون نحن .... أو رومانطيقيون نحن ... و فوق كل ذلك فنحن عاطفيون لدرجة بعيدة ... و قد تسللت لنا هذه العاطفية و هذه الرومانطيقية في التفكير عبر القرون و الازمان، و أنا مولع بقراءة التاريخ و فذلكته فذلكة علمية، فجدنا رومانطيق الأكبر قد حمل سيفه بيد و حمل لواء الرومانطيقية بيد أخرى، و قاد جيوشه إلى أمدرمانطيقا لينشر دعوته القائمة على إبراز الملامح الاساسية للحقيقة الرومانطيقية لعالم خلا من التمنطق، و تمركز في أمدرمانطيقا و يقال أن دار الإذاعة كانت أول مكان وضع فيه سيفه و وقف و قال خطبته الشهيرة:

يا أهالي أمدرمانطيقا ... من هنا تنطلق دعوتي لكم مبشرا بالرومانطيقية ديدنا في الحياة و نبراسا في الشعر و الغناء، و يقال أنه بعد أن إنتهى من خطبته هذه خر صريعا و دفن في نفس المكان الذي تنطلق منه الموجة المتوسطة و القصيرة و المحلية حاملة لواء الرومانطيقية إلى جميع أنحاء البلاد، و قد تسربت هذه الدعوة بطريقة الوراثة الى كل الشعراء الذين أتوا بعد ذلك حاملين لواء جدهم رومانطيق الأكبر و مبشرين بدعوته ...

و قد وقف أحد أحفاد رومانطيق في نفس المكان الذي سقط فيه جده الأكبر مستوحيا تعاليم جده و هو ممتلئ عاطفة جياشة و هو يقول:

أصحى من النوم ألقاك ......... شايلة مفتاح قلبي معاك

و المحبوبة المذكورة أيضا من حفيدات السيد رومانطيق، و نسبة لعاطفتها الشديدة نسيت و حملت معها مفتاح قلب الشاعر إياه و الذي لم يجد ما يفعله إلا أن ينام مرة أخرى حتى تعود المحبوبة أياها و معها المفتاح، و لا أجد هنا داعيا لإضاعة الزمن في تحديد ما إذا كان ذلك المفتاح هو مفتاح المعرفة أم مفتاح آخر و لكن يبدو أن تأثيره من الناحية العاطفية الرومانطيقية على الشاعر كان كبيرا.

و شاعر آخر من أحفاد السيد رومانطيق الأكبر .... فاضت نفسه شاعرية و شفافية و عاطفة و هو ينشد بالقرب من العربة المرسيدس و التي جاء بها السائق لأخذ المحبوب إلى المدرسة:

يا سواقو ليه شلتو ...... من البيت لمدرسته

و هذه مسألة في غاية الأهمية لأن السواق و هو العنصر المضاد في هذا الموقف العاطفي قد قام بعمل من شأنه أن يزيد التوتر العاطفي و ذلك بأخذ المحبوب للمدرسة.

فالكوارث العاطفية الرومانطيقية التي مرت بالشعراء جعلتهم فلاسفة و علماء، فالشاعر أبو العواطف الأكبر، و صنديد المعاطيف و جبروت الأعاطفة وقف ذات ليلة و هو يتأمل حال الكون و حال الدنيا فتوصل بحسه المرهف إلى حقيقة أزلية أصبحت قانونا ثابتا مثل قانون الجاذبية لنيوتن، فلو أن نيوتن كان يجلس تحت شجرة تفاح فوقعت تفاحة على رأسه و بكل هدوء و تمعن و روية تحسس نيوتن الورم الذي على رأسه و أخرج من تحته معادلة قانون الجاذبية .... فالسيد أبو العواطف الأكبر خرج علينا بقانون العاطفية ( على وزن قانون الجاذبية). و هذا القانون يقول :

إن بقت طابت و جات عديل .... تمشي زي ما كانت قبيل

و نحن نحمد الله و نشكره فهو جعل فينا من يتأمل حال الكون و يخرج علينا بقانون أزلي مثل هذا ... فهي إن بقت طابت و جات عديل فإنها حتما و شرطا تمشي زي ما كانت قبيل، و بما أن هذا الحدث هو قمة الفعل الدرامي فإن المشار إليه هنا قد يكون دجاجة أو بقرة أو حصانة (مؤنث حصان) أو إمرأة بعينها فليس هناك داعيا للتخصيص فهذا قانون كبير و يمكن تطبيقه على كل الكائنات و يمكن أيضا إدخال العربات كعنصر من العناصر التي هي إن طابت و جات عديل فإنها لا مندوحة ستمشي زي ما كانت قبيل، و يمكن صياغة هذا القانون في معادلة حسابية مثل:

أ س : أ ض ب
س.

قي حالة كون س ثابتا لا يتغير بتغير درحة الحرارة و الضغط الجوي، الى هذا الحد كانت عاطفتنا قوية، و رومانطيقيتنا علمية، و يبدو أن تأثير هذه العاطفة قد أصبح أمرا عاديا في حياتنا اليومية و تحول بقدرة قادر إلى عنصر آخر و هو عنصر المبالغة.

فأحاديثنا اليومية مليئة بمثل هذه المبالغات، فإذا أراد أحدنا أن يرسل زوجته الى داهية ما .... فهي في ستين داهية و لا تكفي داهية واحدة اذ لا بد أن تكون الداهيات ستين بالنمام و الكمال و لا يكفي أيضا أن يكون العدد تسعة و خمسين داهية.

و ادا أردنا أن ندلل على الحالة الكلبية لشخص ما فإننا نقول ابن ستين كلب بالرغم من أن هذا علميا مخالف لنظرية (توالد الذئاب عند معشر الكلاب) للعالم جرقاس البعشومي فالمبالغة العددية هنا ضرورية للتدليل على الحالة الكلبية للشخص المعني ... و الأمثلة كثيرة و متعددة على المبالغات اللفظية و التي هي نتاج طبيعي لتوقد الحس العاطفي الجياش : و لعل أقربها الى الأذهان الأغنية التي تقول كلماتها :

ستين اسمك و الشعر كالليل

و قد بدأت هذه العاطفة في التوقد و مرت بمراحل كثيرة، في مرحلة من المراحل كان الشاعر يقول :

نظرة من عينيك كفاية ...

و بمرور الزمن و تقدم العصر و تعقد الحياة و تطور وسائل التكنولوجيا الحديثة فإن نظرة من عينيها قطعا غير كافية، و الموضوع برمته أخذ شكلا جديدا :

لقيته واقف منتظر ..

و على النجيلة جلسنا و عن الهوى اتحادثنا ...

و في عهد الجلوس على النجيلة تصبح مسألة نظرة من عينيك هي أضعف الإحتمالات و لا تكفي أبدا و غير واردة ...
و في هذا الفلك المشحون بالعواطف المرهفة و الغير مرهفة دارت تجاربنا الشعرية و الغنائية و القصائدية و النثرية.

و قد إستمعت لبرنامج في الإذاعة تحدثت فيه بعض طالبات الجا معة عن مسائل جوهرية مثل الإختيار و المشاركة و الحب و يجب أن أذكر أن فكرة الموضوع قد إستوحيتها من إستماعي لكلمات الطالبات المذكورات، فهؤلاء الطالبات هن بالقطع و حتما حفيدات السيد رومانطيق الأكبر، و قد تحدثن عن مواضيع في غاية الأهمية و بأفكار غاية الجرأة، و لكن بأسلوب في غاية الهيافة اللفظية و الركاكة الإنشائية .... و أنا لا أدري لماذا يلجأ كتابنا الشباب إلى مثل هذا الأسلوب فالأفكار التي أوردتها الطالبات كانت جميلة و صائبة إلا أن الأسلوب كان ساذجا و قد شوه المعنى و قتل المستمع بسذاجته و ضحالته، و ضاعت الحجة في مثل هذا الأسلوب على الصفحات الأخيرة من جرائدنا، و لا أدري لماذا يتكلم الناس عن الحب بهذا الأسلوب :

الحب هو الواحة الوارفة للأحلام الخضراء المجدولة أزهارا و رياحين ، و هو التيار الدافق للكون المعطر بخفايا الأوهام التي تعطر دنيانا برياح النور الساطع خلف الأقمار الوضاءة.

و لا أفهم لماذا يكتب الناس شعرا بالعامية و كله من هذا النوع :

في ظلام الغربة جيتك ... و حنيت لشتلاتنا و جروفنا
و نوار الخريف فرهد ..... و ليمونا
و حبيتك لما أشم ريحة دعاشنا
و حليل ناس تمر أبونا

و قد أخذت معظم كتابات شبابنا و شاباتنا هذا الطابع الرومانطيقي العجيب، و امتلأت اعمدة الصحف و فاضت بكلمات مثل : يا غالي، و يا جروفنا، و نخيلاتنا، و طويراتنا، و خلافه.

و لماذا البكاء و النواح .... و الناس يقولوا علينا إيه.