حلم

حلم


03-19-2002, 10:18 AM


  » http://sudaneseonline.com/cgi-bin/sdb/2bb.cgi?seq=msg&board=1&msg=1016529496&rn=1


Post: #1
Title: حلم
Author: EMU إيمو
Date: 03-19-2002, 10:18 AM
Parent: #0

كانت ليلة خريفية ماطرة ، إلاّ إنها ليست ككل الليالي الزنجية ، التي تغمرنا بظلامها الدامس . وإنها تختلف في كل شيء، هدوء أولها الحذر من زخات المدافع غرب البنطون ، وصخب هزيعها الأخير ناموس وحشرات الليل . كل ذلك بالإضافة إلى توهج سماءها . لا بالقذائف بل بمكبرات الإنذار المربكة . التي تعوي كذئاب مجروحة ، في أودية سحيقة .

قبل تلك الليلة القريبة ، بزمن بعيد . راود الحلم محمد . الزواج . والزواج في أزمنة الحرب الصعبة . تفكير ساذج . إلاّ إنه رغم أيام الحرب الممتدة . والتي يبدو أنها لن تنتهي قرر محمد لا بد من الزواج . الفتاة تسكن ما بين المعسكر ومخرج الخوارج إلى غرب أبي ياي.أراد تكوين أسرة . متناسياً العهد الذي قطعه على نفسه في الأرض البعيدة . لا يهم ، ما قاله عبد الماجد البشير ( هل تريد أن تتزوج يا محمد وتصبح زوجتك أرملة ، بعد زواجك بأيام قليلة ؟ ألا تفكر في أمك الحنونة العجوز التي أخذت عهد مع أختها. أتريدها أن تتحمل أعباء جديدة ؟)

تذكر الجبهة- الخنادق- الملاجئ . الأيام المريرة التي عاشها هناك محارباً زاحفاً على بطنه أميالاً لا عد لها . الدخان ، القذائف ، والبارود الذي ملىء رئتيه ، وأصابه بالربو قبل أن يكمل الثلاثين من العمر . حادث نفسه ( كل شيء يهون . سوف أنسى كل ذلك عندما أبحر في عيني ، هدى . لقد إنتظرت هي أيضاً طويلاً . ولا يمكن لي أن أخذلها . سأضحي ، وقطعاً ستقبل هدى التضحية هي الأخرى

في ذلك اليوم ، كان العدو عنيفاً ، وصاخباً ، أرسل صواريخه ، قذائفه من بعيد بشرق البحر.

وفي ذلك اليوم الطويل بقي في خندق أمامي مكشوف تحيط به هالات الغبار الأسود والأبيض والأحمر طبقاً للقذيفة المتفجرة بقربة .

همس صارخاً ( هل ما زلت حياً يا عبد الماجد ؟ ) إلاّ إنه لم يجب ، التفت إلى ابراهيم فوجده ممدداً في الخندق ، يتنفس بصعوبة . أين ضحكات ابراهيم المجلجلة ، أين ( قفشاته ) التي لا تنتهي . أحس بحرقان يجري في داخله . فتش عن الماء . فوجد قربته قد نشفت . تحسس قربة الماء ، القريبة منه ، بعد أن زحف في الخندق الضيق . لم يجد ماءً . لم يجد سوى وجوه سوداء ضامرة . وسواعد قد كلت من إطلاق النار على عدو لا يُرى . أو أجساد منهمكة بعد أن هدها العطش و الجوع . ونفذت ذخيرتها .لماذا تقتحم الذكريات المريرة ، رأسه ، هذه الليلة . لقد أحب عبد الماجد البشير ، وصديق الطفولة إبراهيم ، وأصدقاء الدراسة حسن العابد ، وعبد الله المصطفى ، وعبد الخالق .. كل هؤلاء الذين أضحو زملاء الجبهة فيما بعد ، إلاّ أنه يتمنى لو ينساهم في هذه الليلة فقط . فهل يستطيع أن ينسى تلك المجموعة المميّزة المتناقضة المتاحبة .

ضحك عندما تصور عبد الخالق وعبد الله وهما يمشيان إلى جنب بعض . منظر غير متناسق . فعبد الخالق طويل حداً ، يمسك صغار العصافير من أعشاشها في أعلى الأشجار ، دونما تكلف .أما عبد الله فقامته قصيرة ملفته للنظر، حتى أنه لم يستطع أن يحصل على بدلة عسكرية ، تناسبه . فصاح حسن العابد بهما : ( لِمَ لا تعطي يا عبد الله نصف بدلتك لعبد الخالق . فتحلوا تلك المشكلة يا الله خلصونا) .

استرخى محمد على الكرسي . بعد أن أكمل لبس ملابسه ، داخلته مشاعر متناقضة . قال محدثاً نفسه ( تلك ليلة فريدة . أشتم بها رائحة الأرض التي أحببتها . رائحة الولادة والموت معاً . فلماذا هذا الخوف من الآتي . الذي لن
يأتي الآن . لا أدري ماذا أسمي هذا الشعور بالضآلة ، بالتلاشي . كيف إستولت عليّ هذه القشعريرة الخجولة . كنتُ قبل قليل أستطيع تحديد مقاصدي ، تفسير مشاعري إلاّ إن هذه القشعريرة فجأة ، إستولت عليّ دون إنذار مسبق فجعلتني خجلاً تارة ، ومرتبكاً تارة ، وتافهاً تارة أخرى . هل أدعها تفتك بي ، أم أقاومها . أتمرد عليها ) .

منادات أمه من خلف الباب أرجعته لحظه ، إلى عالم الواقع . فأجاب ( سآتي حالاً ) .

في هذه الليلة البعيدة عن الجبهة ، دوت صافرات الإنذار ، إنها غارة للعدو .
قبل الصافرة بقليل كان الأطفال ، والنساء بصخبهم المكبوت لشهور عديدة ، قد ملئ الزقاق الضيق ما بين مبنى المحافظة ومركز إصحاح البيئة وملىء بداية الليلة بأكثر من الضحكات والصياح . كان الكل يحاول رسم بداية جديدة ، لرواية لم تنته بعد فصولها . لذلك فقد حاول الأطفال والنساء وتحت رذاذ المطر الذي لم يعبأون به . أن يلونوا هذه الليلة بالألوان المفقودة في ذاكرتهم . أما الشباب فلم يكن له وجود ، لقد ظل بعيداً هناك . على الجبهة يشاغل العدو ، لإتمام هذه الليلة .

بعد الصافرة بقليل . شاهد الأطفال ، وأفواههم مشدوهه . وعيونهم قد اكتملت دائرة إتساعها . نيزك مروع مشتعل . يهوي. صاروخاً . لم يمهلهم كثيراً . لا وقت للتفكير ثم للتنفيذ والهرب . بل سقط مدوياً مفجراً الزقاق الصغير بأكمله . ثم خيّم الهدوء الشديد ، من جديد . وهدى هدأت بين الصغار.