|
|
 خمسون عاما علي وفاة الشيخ بابكر بدري جاهد بحكمة فوصفته بريطانيا بأنه تقدمي
|
ولان شخصية بابكر بدري كانت مثيرة للجدل من منطلق انها تمددت علي مساحة واسعة من الاحداث واخترقت جدار السكون الذي اطبق علي ساحة المجتمع السوداني التقليدي وتجاوزته بمواقف جريئة وحركة دؤوبة ، فان تناولها بالموضوعية والامانة العلمية يتطلب قدرا كافيا من المعلومات ومقدرة معقولة - علي التحليل . فالحديث عن الرجال - خاصة الذين يملأون حيزا مقدرا من تاريخ اي امة - لا ينبغي أن يلقي علي عواهنه مدحا او قدحا والا كان حديثا يفتقر الي امانة القول ومسؤولية الكلمة.
اعتبره البعض عميلا للانجليز!!
خمسون عاما علي وفاة الشيخ بابكر بدري جاهد بحكمة فوصفته بريطانيا بأنه تقدمي غير معهود
كان يقوم بدور الوسيط بين الحكومة والمواطنين
تركه اهالي تنبول في (قطية) مخلعة فقال (اعتبروني كافرا بصحبتي للكافرين)
ولد بابكر بدري في بداية الربع الاخير من فترة الحكم التركي للسودان وشهد كل الاحداث الكبري التي اظلت بلادنا علي مدي السنين التسعين التي عاشها .. صبيا ثم شابا فكهلا فشيخا . غير ان الذي يميزه علي من عاصروه من الشخصيات السودانية البارزة ، اهتمامه المدهش بتسجيل تاريخ حياته منذ ولادته وحتي قبيل وفاته بنحو اربعة اشهر.
جاء تاريخ حياة بابكر بدري في ثلاثة مجلدات متوسطة الحجم ظهر المجلد الاول منها في عام 1959م وظهر الثاني في عام 1960م اما المجلد الثالث والاخير فقد ظهر في عام 1961م.
ونسبة للقيمة التاريخية والوثائقية التي لا تقدر بثمن لسيرة حياة بابكر بدري فقد احتفي بها اساطين السياسة والفكر والزعامة الذين عاصروه امثال السيد عبدالرحمن المهدي والسير استيوارت سايمز (حاكم السودان العام خلال ثلاثينيات القرن الماضي والذي اتسمت سياسته بالاستنارة والاصلاح) والاديب المصري الشهير الدكتور محمد فريد ابو حديد وشاعر السودان الشهير عبدالله محمد عمر البنا وآخرين في الداخل والخارج.
ولان شخصية بابكر بدري كانت مثيرة للجدل من منطلق انها تمددت علي مساحة واسعة من الاحداث واخترقت جدار السكون الذي اطبق علي ساحة المجتمع السوداني التقليدي وتجاوزته بمواقف جريئة وحركة دؤوبة ، فان تناولها بالموضوعية والامانة العلمية يتطلب قدرا كافيا من المعلومات ومقدرة معقولة - علي التحليل . فالحديث عن الرجال - خاصة الذين يملأون حيزا مقدرا من تاريخ اي امة - لا ينبغي أن يلقي علي عواهنه مدحا او قدحا والا كان حديثا يفتقر الي امانة القول ومسؤولية الكلمة.
ويصعب علي المرء وهو يحلل سيرة ومواقف ومسيرة هذه الشخصية المثيرة للجدل - ان يستوعب كل تاريخها في مقال او -ربما- كتاب. غير ان انتقاء موضوع واحد بعينه من ذلك التاريخ يمكن ان يساعد علي التعرف علي شخصية بابكر بدري عن كثب ومن ثم الاقتراب من الاجابة علي بعض التساؤلات السالبة التي تثار حولها من حين لاخر.
يثير كثير من الناس - همسا احيانا- قضية موقف بابكر بدري من الحكم البريطاني في السودان وعلاقته بالحكام الانجليز ويقدحون تبعا لذلك في متانة التدين عنده ويذهب اخرون الي حد الاشارة - من طرف خفي- الي تعاونه مع المستعمر وارتمائه في احضانه والخضوع لتوجيهاته الي اخر ما يمكن ان يندرج تحت هذه الصفات وما ينبثق عنها من (منافع متبادلة) بالقول وبالعمل .
وقبل ان نلج هذا الموضوع الشائك في سيرة بابكر بدري ينبغي ان نقول ابتداءً ان الرجل قد حدد بوضوح تام طبيعة علاقته باجهزة الحكم والحكام - خلال حكم الانجليز للسودان- وابان رأيه في سياسات الحكومة - آنئذ- وعدد المبررات التي دفعته للتعامل مع اجهزتها المختلفة . ولانه كان يشعر بحساسية هذا الوضع بالنسبة له كمواطن ويدرك ما يتداوله الناس حوله من غمز مشوب بالازدراء لكل من يقترب من دائرة الحكم الاجنبي المحرمة ، فقد افاض في هذا الجانب بما يكفي لشرح الظروف والوقائع التي رأي حتمية التعاطي معها وبما يكفي لاعلان ثقته في الحصول علي حكم البراءة من كل ما يشين .
ومن يطالع الجزء الثاني من مذكرات هذه الشخصية المثيرة للجدل يجد مادة ثرة تجيب علي التساؤلات التي تثار حول الرجل. غير ان المدخل المناسب الذي يمكن ان نلج منه الي عالم بابكر بدري هو ان نتعرف في عجالة علي خلفية لاغني عنها تتعلق بجدلية الزمان والمكان. فبابكر بدري سوداني رباطابي انصاري حافظ لكتاب الله ومطلع علي قدر لا بأس به من كتب الفقه المعروفة في عهده وهو فوق كل ذلك كان مجاهدا في صفوف المهدية شهد موقعة (توشكي) مع عبدالرحمن النجومي واشترك مع جيش الخليفة في معركة (كرري) ولكنه نجا من المجزرة ودخل ام درمان مع من بقي من جيش المهدية متحرفا لقتال لكن الامر لم يجر - كما كان يظن- لصالح دولة المهدية . فبانسحاب الخليفة جنوبا تبين له ان السودان قد دخل في حقبة تاريخية جديدة وان الواقع السياسي الجديد قد تحكم في مصير البلاد واصبح حقيقة لا تجدي معها الامال والاحلام التي طالما افني شبابه ينتظر حدوثها . فوطن نفسه علي قبول الاوضاع المستجدة وقرر الا يقف متفرجا علي الاحداث وانما يكون من صانعيها . فما بين مدينتي رفاعة وام درمان وخلال حقبة من الزمان تزيد عن خمسين عاما (1898-1954م) ، اقتحم بابكر بدري المجهول بعقلية (براغماتية) وعزيمة ماضية من اجل ان يساهم في بناء سودان القرن العشرين. فعرف عند الكافة بأنه رائد التعليم الاهلي واعترف له جيله بالدور الذي اداه في مجال البناء والاصلاح العام.
ان السؤال المحوري الذي يثار حول هذه الشخصية الفذة هو كيف تسني لبابكر بدري ان يتجاوز الذهنية السودانية التقليدية المتوجسة من الغريب الدخيل المتحكم في مصير البلاد والعباد، وكيف انه لم يشأ ان ينأي بنفسه من مشاكل التعامل مع حكومة يقف الناس منها موقف المتفرج ان لم نقل موقف العداء والكراهية.
منذ بزوغ شمس الجمعة الثاني من سبتمبر 1898م (سقوط ام درمان) قرر بابكر بدري ان يكون في قلب الحدث. يقول - في سياق اول مقابلة للورد كتشنر مع اعيان المدينة وتجارها- عقب ذلك اليوم - (قال الباشا: لأي سبب العيش غالي؟ فقال محمد دبلوك «وكان صاحب سفن» لأن الحكومة احتكرت المراكب لنقل مهماتها من بربر . فقال اللورد : اذا كان السبب المراكب لكان الغلال يكون في مدني رخيصا .. فقلت :«وكنت اصغر المجتمعين سنا» لا ياسعادة الباشا، الحكومة هي التي تنهب العيش بمدني . فحقب يديه بظهره واسرع نحوي حتي وقف امامي وطأطأ قليلا لطوله وقصري حتي حازي وجهه وجهي وقال لي: الحكومة تنهب العيش؟ قلت نعم فقال لي كيف ذلك؟ فقلت لأنها تشتري بسعر ستين قرشا للاردب فقال : من هذا اليوم الحكومة لا تشتري الا بواسطة متعهدين) .. هذه اول مواجهة بين الحاكم الجديد وجماعة التجار كان بطلها شاب صغير هو بابكر بدري .
.. وفي اعقاب هذه الايام ، قرر بابكر بدري ان يكون معلما وان يكون له شرف افتتاح اول مدرسة اولية في مدينة (رفاعة) وبذلك اصبح موظفا بالحكومة وهذا وضع يبرر علاقته بمستويات الحكم المختلفة ابان الحقبة التاريخية التي نحن بصددها . فكانت علاقته المباشرة بكل مديري التعليم الانجليز ابتداء من السير كري وانتهاء بالمستر كروفود ثم كانت علاقته الحميمة بكل المفتشين الانجليز الذين تعاقبوا علي مدينة رفاعة منذ عهد المستر منكريف الذي قتل في الحلاوين عام 1908م اما علاقته بقصر الحاكم العام فقد اتسمت بالاحترام المتبادل وتناول الاحاديث المتعلقة بالشأن العام بل ان الحاكم العام لم يكن يتحفظ في ارسال سيارة القصر للمجئ ببابكر بدري لحضور الاحتفالات والمناسبات الرسمية . كان لبابكر بدري آراء منشورة في حكم الانجليز وفي اشخاص الحكام الذين جاءوا بهم . فكثير منهم في نظره (ديموقراطيون) وعادلون مجاملون لرعاياهم. وقد تأثر هو بمعاملة مفتش رفاعة (المستر ليتش) فكتب فيه شعرا فقال حين سافر هذا المفتش في اجازته السنوية وهو يودعه.
ياليتش سافر بالاجازة هانئا
وليبق في كنف الاله ايابك
هذا مدي الاشباح ترجع عنده
اما القلوب فانها ستصاحبك
ولا يكتفي بالاشادة بحكام الانجليز وانما يمدح بريطانيا علنا في احتفال اقيم بمدينةودمدني في 1918/11/11 بمناسبة انتصار الحلفاء علي دول المحور فقال :
بريطانيا العظمي ترينا العجائبا
فترسل شهبا من بنيها ثواقبا
يسيرون سير الشمس في فلك العلا
فيقتبس العافون منهم مواهبا
الم تر ان حلواً مكانا ينزلوا
به غيث رحات ويجلو مصائبا
وفي حديث له مع مستر سيجر مدير حلفا قال بابكر بدري (نحن لا نغبط الانجليزي علي نفوذه ولا علي نقوده مثلما نغبطه علي اخلاقه وادابه) .. ان الامثلة في هذا المقام عديدة ولكن المجال لا يتسع لها فمن اراد ان يستزيد فعليه بالمجلدات الثلاثة (تاريخ حياتي لبابكر بدري).
.. لقد وظف بابكر بدري علاقاته الواسعة باجهزة الدولة لخدمة اهله من ابناء الوطن حيثما حل وذلك من خلال النصح الذي يقدمه للحكام من حين لاخر ومن خلال الشفاعات والالتماسات التي يقدمها في القضايا العامة والخاصة. فمن النصائح المشهورة التي قدمها للحكام تلك التي خص بها المستر يودال عقب ثورة 1924م بقوله (ان السوداني يري نفسه قد وفي معكم كل الوفاء واخلص لكم كل الاخلاص، فان جهلتم ذلك او تجاهلتموه فربما تحصل حركة اخري يقودها كبار من السودان انا ما ادعي انهم سيغلبونكم ولكنهم سيسودون تاريخكم المجيد.) ومنها قوله (قال لي فريد بك : الانجليز بدأوا يشكون في اخلاصك لهم فقلت : ليكن ذلك فما قدرتهم ولا قدرتك انت غير توصلهم ما يقال فيهم. قل لهم اني لا احبهم . فقال لي: انا جاسوس ياشيخ بابكر؟ قلت له ما معني قولك هذا . قال : ناصحا لك . قلت : اذا اكدوا ذلك حتي شفهيا لا يقدر احدهم ان ينالني بسوء الا بالاحالة علي المعاش.) وهناك نصائح عديدة قدمها بابكر بدري علي مدي سنوات طوال - للحكومة في مجالات عديدة منها : رأيه في الادارة الاهلية وفي الضرائب وفي لفت نظر الحكام الي عادات الناس وتقاليدهم. وكان في كثير من الاحيان يتولي مسؤولية الوساطة بين الحكومة والمواطنين في القضايا التي تحتاج الي اقناع بسياسة ما او قرار.
اما شفاعاته والتماساته للحكومة في القضايا العامة والخاصة فقد امتدت في جانب القضايا العامة - الي حدود بعيدة . حيث كان يتوسط بين الحكومة ورعاياها (خاصة الموظفين والطلاب والتجار) وينزع فتيل الصراع بين الجهتين في مهارة وثقة لا تجدها الا عند شخص بصير . وفي جانب القضايا الخاصة نراه يدافع عن الحقوق الشخصية للموظفين (زيادة المرتبات - منح المعاشات الخ..) ومن ابرز اسهاماته في هذا الصدد منح معاشات لمعلمات لم يكن ينلنها كالرجال، وكذلك حل مشكلة ترقيات الموظفين ونقلهم وتثبيت امتيازاتهم.
لقد جرت هذه العلاقة علي بابكر بدري الكثير من المتاعب وهاك بعض الامثلة.
- عندما زار تنبول في صحبة مدير النيل الازرق ، نزل بقطية مخلعة لا تسع سريره السفري . قال (ولم يدعني احد من اصحابي حتي الامين عباس الي النزول بمنزله لاني في نظرهم : كافر بصحبتي للكافرين).
- لما سمع الشيخ ابراهيم عالم ببناء مدرسة (التميد) طلبني بحلته التي تبعد من التميد بنحو ثلاثة اميال وقال لي : يا بابكر تريد ان تخرب خلاوي القرآن بالمدرسة؟ قلت لا يا مولاي اشترط لك ان الولد الذي يقرأ القرآن لا نقبله بالمدرسة . فسر وقال والله هذا صلح الحديبية..
- عندما وسطه الانجليز لتهدئة طلبة المدرسة الحربية ابان ثورة 1924م وافق علي ذلك ثم قال (غير اني وصلت بيتي واجلت فكري فخطر ببالي ان هؤلاء الاولاد هم في ثورة فكرية قادتهم لهذا العمل الذي لم تزل بوادره مستمرة . فاذا ذهبت لهم وحدي فلا شك انهم يعتبرونني داعية للانجليز ولا انجو من سبهم لي علنا وربما ضربوني ليجعلوني عبرة لغيري حتي يظلوا في نجوة من وسائط خائني الوطن في رأيهم..)
لم يكن بابكر بدري يكترث كثيرا للاتهامات التي تتهمه بالعمالة للانجليز ولكنه كان حريصا الي ابعد مدي ان يتجنب الطعن في عقيدته او المساس باسلامه. وهناك مواقف عديدة وقفها ضد العديد من السياسات الاستعمارية ولم تلن له قناة حتي ابطلها ومنها:
- ان الحكومة قررت انتدابه عام 1921م لانشاء خلوة نظامية بام ضبان، فخشي الخليفة حسب الرسول من ان يؤثر ذلك علي الخلوة فتخلو من طلبة حفظ القرآن . وقد اثر ذلك علي بابكر بدري تأثيرا بليغا حكي عنه فقال (بعد ان نمت ايقظني من النوم صوت الحيران فخشع قلبي وقلت : لا يسعي في تغيير هذا المسجد الا من كتب الله له الشقاء ولا اكونه ابدا ، فاصبحت يتجاذبني امر تنفيذ امر المدير او تنفيذ غرضي علي الا اكون المغير لمسجد ولد بدر العتيق.) وفي الصباح قابل الخليفة حسب الرسول وقال له (ان الذي يسعي في اضعاف هذا المسجد فضلا عن تغييره الي مدرسة ليس هو ابن حلال ولا نصيب له في الدين الخالص، ولكنكم وافقوني علي ان ندفع تهمة التعصب الديني ونقفل باب سؤال الحكام عن سبب الرفض.) ثم اتفق معه علي طريقة حكيمة لابقاء الخلوة والمسجد ووظيفته القرآنية المتوارثة بالتحايل علي الانجليز واقناعهم بعدم جدوي اقامة خلوة نظامية في هذا الوسط القرآني الخالص.
- وفي موقف آخر قال (وصلني خبر من البنات اللائي يتمرن بالخرطوم ان المس بيولي طالبتهن بحفظ دروس من الانجيل . فسافرت في الحال للخرطوم طالبا ابطاله . فوضعني المستر كروفود والسيدة قرينته بينهما وحبذا لي تعليم البنت الانجيل فلم اوافقهما فقال لي سعادته : اما تعتقد ان الانجيل كتاب منزل؟ قلت : اعتقد ذلك واعتقد ان القرآن كتاب منزل فليحفظوهن من القرآن. فاصبحت وقابلت المستر سمسون نائب مدير المعارف فانكر عليهما وعلي المدرسة تحفيظ الانجيل لبنات مسلمات.) لم يكن يجامل قط في المسائل الديندة الحساسة المرتبطة بعادات السودانيين المحافظة وخاصة فيما يتعلق بالشرف ومنع الاختلاط بين الجنسين او اشاعة الفاحشة او السكوت علي بعض المستهترين من الحكام.
وبعد....
ان شخصية بابكر بدري كما شهد لها السير استيوارت سايمز كانت مشروعا تقدميا غير معهود اذ يقول (اني كرجل انجليزي لفخور بما انجزه البريطانيون في فترة نصف قرن من الوصاية علي السودان من تطوير للسودانيين وتنويرهم حتي وضعوا بذلك الاساس لدولة حديثة . وعندي ان الشيخ بابكر بدري كان مثالا لامعا لاؤلئك الافراد من السودانيين الذين ادركوا منذ البداية جانب الخير في اهداف السياسة البريطانية في السودان .. كان رحمة الله مسلما متدينا ووطنيا راسخ القدم.. شجاعا نزيها تام النزاهة وخادما لوطنه.) ونضيف نحن من عندنا .. وشخصيته مثيرة للجدل ايضا.
عبدالله حميدة - الخرطوم الجديدة
|
|
 
|
|
|
|
|
| |
tariq
Ibrahim Algrefwi
خضر عطا المنان
talha alsayed
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست