|
بدر الدين حامد الهاشمي يكتب في وداع الراحلة روزا بارك
|
ارتحلت عن دنيانا قبل أيام الأميركية الأفريقية روزا بارك عن عمر فاق التسعين. والسيدة بارك – لمن لا يعرف قدرها - من النساء اللواتي دخلن التاريخ من أشرف وأنبل أبوبه وأوسعها. غيرت مسار الحقوق المدنية لغير البيض في أمريكا – و إلى الأبد- لرفضها في مونتجمرى بولاية ألباما قبل نصف قرن أو يزيد التخلي عن مقعدها في الحافلة (البص) لرجل أبيض، وكان هذا هو ما يجب عليها كشخص ملون أن تفعله إبان أيام تلك العنصرية الفاشية. ذلك الفعل الشجاع أطلق مارد المطالبة بالمساواة في الحقوق المدنية من قمقمه و أدى فيما تلي من سنوات لتنامي حركة الحقوق المدنية. توج نصر المرأة السوداء – بعد جدل و صراع- بقرار من المحكمة العليا يمنع الفصل العنصري في الحافلات العامة، و كان ذلك في 21/12/1956. وتوالت الأحداث وأتى مارتن لوثر كنج ومسيرات السود إلى أن أذعن ليندون جونسون رئيس الولايات المتحدة آنذاك لمطلب المساواة في الحقوق المدنية في عام 1968.....و البقية معروفة.
أي شجاعة واحترام للذات أبدتها تلك المرأة الحديدة (الحقيقة) وهي تتحدى النظام الاجتماعي و السياسي و الثقافي لأعظم قوة طاغية في التاريخ! كانت في أسوأ حالاتها، فهي امرأة في مجتمع ذكوري شبه خالص، و هي سوداء في مجتمع يسيره و يسوده البيض وهى فقيرة في مجتمع لا يساوى من لا يملك سنتا فيه سنتا! رغم كل ذلك وجدت تلك المرأة العادية الشجاعة لتقول لا لإرث طويل من الاسترقاق و العسف و الظلم. كانت حالة فريدة في التاريخ أن تقوم امرأة من غمار الناس بفعل أجبر المجتمع الأبيض العنصري التفكير و الممارسة – ولو بعد حين- على احترامها، و صارت رمزا لكفاح أضعف شريحة – افتراضا- في المجتمع لتغيير وجه الحياة، ليس بالنضال "المخملي" من على البعد و في مأمن من التبعات، بل بالمواجهة و الصدام و الإقدام.
و على المستوى الشخصي لم ينقطع إعجابي الشديد بالمرأة الأمريكية السوداء وقوة شخصيتها منذ أن بدأت أشاهد كلاسيكيات الأفلام الأميركية القديمة- مثل ذهب مع الريح و غيره- و كان دور الأمريكية السوداء هو دوما دور الخادمة المخلصة الحانية على أطفال العائلة البيض. ولم يغب عنى أن ألاحظ أن الأمريكية السوداء - رغم حالة كونها خادم/ مسترقة – تؤدى دورها بعزة نفس و علو همة و كأنها سيدة الدار. نعم لقد استرقوا أجسادا و لكن ظلت أرواحهم وهمهم و عقولهم تناطح السماء. و يلاحظ ذلك – حتى في الحياة اليومية الآن- من قوة شخصية المرأة الأمريكية السوداء (و لا أقول طغيانها!) على الرجل الأسود الغلبان! و شاهدوا تمثيليات كوسبى الفكاهية..... و لهن في روزا بارك و أنجيلا ديفيز و كونداليسا رايس وغيرهن أسوة حسنة. ولعل أهل الدربة والدراية بمثل هذه الأمور من خبراء الاجتماع و علم النفس والسياسة يفسرون لنا سر قوة المرأة الأمريكية السوداء وصلابة شخصيتها مع أن لديها كل أسباب الفشل و القنوط والانكفاء.
إن كان من تنغيص و حسرة في أمر وضعية الأمريكان السود الحالية فهي أن أغلب الجيل الجديد من هؤلاء لم يرثوا الكثير من صلابة أسلافهم –كروزا بارك- و افترضوا – جهلا- أن ما ينعمون به من حرية و مساواة – على الأقل أمام القانون المكتوب- قد أتى جزافا هكذا، فشاع استسهال الحياة و صعابها دون تمييز و احتقر التعليم و اتخاذ الحرف والعمل على اكتساب الرزق الوفير بكل الوسائل الشريفة و غير الشريفة فشاعت الجريمة و انفرط الضابط الأخلاقي، و سعى الشباب – كما أنتقدهم و بمرارة الوالد الشفوق الممثل الفكاهى الأسود كوسبى- لميلهم إلى الأعمال التي لا تتطلب جهدا ذهنيا كبيرا (non-cerebral jobs ) مثل الغناء و الرياضة و الرقص و هجرهم للعلوم و الكتابة واتخاذ الحرف. و في نقد الرجل حق كثير و ظلم أيضا، فالسود رغم الضجة الكبرى المثارة حولهم فهم لا يمثلون أكثر من نحو 12% فقط من السكان، و نراهم اليوم في أعلى مراتب السلطة وأغلب الميادين، هذا مع علمي بأن هذا تبسيط قد لا يخلو من سذاجة.
نعود فنذكر بالخير المناضلة الأمير كية الأفريقية روزا بارك، و هي رمز لما يمكن لفرد من غمار الناس أن يفعله ضد الطغيان، دون حزب أو طائفة أو تجمع أو جبهة!
|
|
|
|
|
|