|
النشــــــــــــــــوق
|
الرعاة يجمعون خيامهم ، وبيوت الشعر تتحول إلى لفافات مكتنزة تلفّها الحبال المغزولة من الصوف . الزرائب أُغلقت على خوائها ، فجُعلت على مدخل كل زريبة سدادةً غليظة من أغصان الطلح هي بالمرصاد لكل من يهمُّ بالدخول . لم يترك الرعاة خلفهم إلا هذه الزرائب الخاوية ، وحفنة من ذكريات ، وانطلقوا باكرين يسوقون أمامهم مواشيهم التي أنهكها الجفاف هذا الموسم . فالصيف هذا العام كان قاسيا مجدبا ، لا ماء فيه ولا خضرة . وهم ينحدرون في اتجاه النهر ، يعلمون أن جزءا من القطيع لن يتمكن من اجتياز المسافة بسلام ، لكنهم ياملون أن ينحصر ذلك في أضيق حدوده . وفوق الجمال الضامرة نصبت الهوادج للنساء ، واعتلى الصبية والأطفال ظهور الحمير أو الثيران ، ومشى كل القادرين سيرا على الأقدام . الطريق أمامهم يبدو وكأنه يتمدد ، والنهر بينه وبينهم مسافة يقطعونها في يومين أو يزيد ، والقرى من حولهم تستعد للرحيل إن لم تكن قد رحلت من قبل. الضابط الإداري المتجول ينظر إلى موسم النشوق وكأنه موسم سياحة ونزهة . يركب العربة اللاندكروزر ويمشي خلف الرعاة الراحلين ، يراقبهم من بعد ، وهمّه منحصر في الضرائب والقطعان . وبين الرعاة والضابط الإداري مدّ وجذر ، وعلاقة يتشكّل فيها صيفُ آخر يمتص جزءاً مقدراً من ارتواء الخريف ، خاصة عندما يتأكد للرعاة أن الضابط الإداري مولعُ بالعدّ والإحصاء ، والرعاة لا يعدّون أولادهم ولا مواشيهم ويكرهون أن يعدّها أحد ، فيظل كل طرفٍ متربصاً بالآخر ساعيا لتفويت الفرصة عليه . الشمس ترتفع في السماء مستهدفة كبده ، والحر يدفع الرعاة إلى إقامة مقيل لهم بين الشجيرات التي نبتت على أطراف الوادي المتجه صوب النهر . هذه الشجيرات في هذا الموسم تمثّل ملاذاً للرعاة من حدة حرارة الشمس ، إلا أنها في نظر الضابط الإداري تشبه أشجار الزقّوم التي تنبت في جهنم طعاماً للكفار . وهناك قامت النساء بإعداد الطعام خليطاً من اللبن ودقيق الذرة مغلياً على نار هادئة لا تجد وقودا كافيا لإشعالها . وقِرَب الماء جادت بالسقيا ، ثم اتكأ البعض إلى جذوع الأشجار ، واستلقى آخرون على فرش مصنوعة من جلود المواشي ، أو صوفها ، والعربة اللاندكروزر تقف تحت ظل إحدى أشجار الطلح على مرأى منهم . أكثر القوم لا يهتم لمرأى هذه العربة التي تتابعهم ، فقد اعتادوا عليها ، وعرفوا تماما أهداف صاحبها ووسائله ورغباته التي يشتمّون خبثها . وتميل الشمس نحو مغيبها ، فيهمّ الرعاة بمواصلة المسير ، ويلاحظ الضابط الإداري حركة الرعاة لجمع ما تفرق من أواني وفُرش ، فيدير محرك العربة اللاندكروزر ، ليبدأ الجزء الثاني من رحلته الموسمية لمتابعة الرعاة ، لكن عجلات العربة تغوص في رمال الوادي ، فتخذله ، فيظل يضغط على محرك العربة ، لكن عجلات العربة تغوص أكثر داخل الرمل حتى تكاد تغيب . يتوقف الرعاة عن مسيرتهم ، ويتجه الشباب ناحية العربة اللاندكروزر يمدّون لصاحبها يد العون رغم كل محاولات الترصّد والمتابعة . الحفرة التي أحدثتها عجلات العربة عميقة جدا ، لكن الرعاة تمكنوا من إخراجها من ورطتها . ولسان الضابط الإداري يلهج بالشكر ، ثم ينطلق صوب النهر . لكنّ الرعاة يشدهم أمر آخر . تبدو الحفرة العميقة التي أحدثتها عجلات العربة رطبة في جوفها . تنادى القوم ، استخدموا أيديهم في إزاحة الرمل ، تعاونت النساء مع الرجال ، وفرح الأطفال بكومة الرمل على أطراف الحفرة ، والرطوبة تزداد كلما أخذ الرعاة كمية من الرمل في اتجاه العمق . والعربة اللاندكروزر تبتعد شيئا فشيئا حتى تغيب عن الأنظار . وآثار ماء يخرج من عمق الحفرة ، وإحساس بالوصول إلى النهر قبل انتهاء المسافة . النهر وعاء للماء ، وباطن الآرض وعاء آخر ، وربما أنه الوعاء الأوسع . وعند مغيب الشمس كان القوم قد ارتووا ، وشربت مواشيهم . بات الرعاة ليلتهم تلك إلى جانب الحفرة ، وفي الصباح بدأ وا ينصبون خيامهم ، وبيوت الشعر . واخضرت البقعة حين غاب الضابط الإداري ، وأقيمت حظائر الماشية على طراز جديد ، ولا رحيل ولا نشوق ..
|
|
|
|
|
|