تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-18-2025, 06:41 AM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
مدخل أرشيف النصف الأول للعام 2004م
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
01-28-2004, 08:58 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق

    الفهرس
    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    الغريمــان
    ـ عندما تتوقف الزعامة في منتصف الطريق 9
    ـ القديس القادم من الغرب 21
    ـ الغريمان 33

    الصــــــــــــــديقان
    ـ الصــديق الأول 43
    ـ الصــديق الثاني 30
    ـ الصــــداقة 30
    القديســـــــــــان

    ـ غلطة الشاطر 66
    ـ محمد أحمد المهدي .. هل هو المهدي المنتظر 81
    ـ القديسان وجهاً لوجه 95
    مأساة الختام
    ـ الخليفة عبد الله: طاغية أم قديس 135
    ـ صراع الثقافات 147







    مدخل إلى الكتاب
    إذا كانت المهدية هي بداية تكوين السودان (القومي)، فإن الحكم (التركي ـ المصري) كان بداية تكوين السودان (العصري).
    ومع أطراف هاتين البدايتين ونهاياتهما برزت أربع شخصيات محورية في السودان، هي الزبير باشا رحمة، الجنرال غردون، الإمام محمد أحمد المهدي، الخليفة عبد الله محمد آدم تورشين. وقد تشابكت العلاقات بين هذه الشخصيات في اتجاهات تراوحت بين الود والعداء، تشابكاً مختلف الملامح، كانت حصيلته سقوط دولة (التحديث) وقيام دولة (جمع الشمل الوطني)، ثم سقوط هذه الأخيرة أيضاً.
    ومن خلال هذا التشابك برز التلاحم والصراع والتحدي، وتمحورت قضايا المجتمع الوطنية والدينية والأخلاقية، وترسبت تراكمات التاريخ بخلفياتها وجذورها وتأثرها وتأثيرها وحساسياتها، وأطلت الحروب والانتصارات والهزائم، واختلطت العواطف والتناقضات والتطلعات بالآمال والأوهام.
    تلاحقت كل تلك الأحداث الدرامية لترسم لوحة متكاملة الظلال والألوان، برزت من خلالها درامية الثورة باندفاعها وفيضانها واكتساحها، ثم واقعية إدارة الدولة بعد هبوط درجة حرارة الثورة، وما كان يؤدي إليه كل ذلك من تقاتل على السلطة، ومؤامرات ومآسي، كانت تساهم مع مغيب شمس كل يوم، في توسيع الأخدود الفاصل الذي حفرته الأطماع والتناقضات والتطلعات بين أهل السودان.
    هذه اللوحة بتكامل ظلالها وألوانها، تحدد أبعاد ملحمة ظلت أحداثها تتحرك عشرات السنين من دون أن يخمد لها أوار.
    هل يفلح هذا الكتاب الصغير في عرض هذه اللوحة دون أن يقع في مطب إعطاء دروس في التاريخ؟
    هذا ما أرجوه .


    أحمد محمد شاموق








                  

01-28-2004, 09:02 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    عندما تتوقف الزعامة في منتصف الطريق
    قصة تجارة الرقيق الأسود في السودان قصة مؤلمة لا شك في ذلك، وقد بقيت هذه التجارة لعشرات السنين أشبه بالتراجيديا الحزينة، اختلط فيها الجشع بالقسوة والعنف بالدماء، ولكن فيما يبدو لم يكن هناك مفر من أن تنتقل هذه التجارة إلى السودان بعد أن عاثت بواسطة الأوروبيين أبشع فساد في جنوب وغرب ووسط أفريقيا منذ القرن الرابع عشر وحتى القرن السادس عشر الميلادي.
    ولذلك فإن الصورة التي صورها بها الأوروبيون في السودان لم تكن تساوي شيئاً بالمقارنة بما أحدثه الأوروبيون في أفريقيا من تدمير. ولعل التفسير الأكثر قبولا لحملة أوروبا الضارية على تجارة الرقيق في السودان هو أنها كانت محاولة للترفيه عن ذلك الضمير (المطاط) المثقل بأوزار الرق عبر القرون، ثم محاولة تنقية العنصر الأوروبي من أوحال تلك التجارة وإلقاء اللوم أولا وأخيرا على الشعوب المتخلفة.
    مهما يكن من شئ فإن تجارة الرقيق في السودان كانت ضاربة بجذورها في القدم، تماما كتجارة الرقيق في معظم أنحاء العالم، فقد كان السود يستجلبون من السودان وأفريقيا عن طريق الأسر أو البيع أو الخطف، وكانوا يستعملون كجنود في الجيوش أو خدم في المنازل أو عمال في الحقول.
    كانت مصر أول دولة لها علاقة بتجارة الرقيق في السودان، ثم حذا اليونانيون ومن بعدهم الرومان ومن بعدهم العرب حذو المصريين في هذا المضمار، حتى إذا تتابعت الهجرات العربية للسودان وهيمنوا على سهوله ومناطقه الوسطى، وجد السود أنفسهم مضطرين للهروب والاعتصام بالجبال الحصينة والمناطق النائية الصعبة الاقتحام في الجنوب والغرب.
    ولكن لعنة الرق لاحقت أولئك المساكين الهاربين، إذ ظل القنص الفردي والأسر في الحرب يشكلان السببين الأساسيين للاسترقاق، إلا أن مرور السنين وظهور الحاجة الملحة للرقيق طورا الوسائل الفردية لاستجلاب الرقيق إلى حملات جماعية منظمة تديرها شركات مسلحة بعد أن شاع استعمال البارود والسلاح الناري مع الغزو التركي للسودان عام 1821م.
    وهكذا ازدهرت تجارة الرقيق طوال القرن التاسع عشر في السودان، وأصبح لها أسواق وأسماء ومصطلحات، وأصبح للرقيق أنواع وأثمان.
    فعرفت أسواق فشودة والأبيض والقلابات، وهذه الأسواق الثلاثة كان يجمع فيها الرقيق المستجلب من دار فور وجبال النوبة وبحر الغزال والسودان الاستوائي وإثيوبيا، وكان النخاسون (1) يشترون من هذه الأسواق ويبيعون في أسواق أخرى في الخرطوم والمسلمية وود مدني وسنار والقضارف وكسلا وبربر وشندي، ثم كانوا يرسلون ما يزيد عن الحاجة إلى الحجاز ومصر، ومن الحجاز ومصر انتشر هؤلاء السود في الشام وتركيا وإيران ودول المشرق العربي الأخرى.
    وتعتبر شركة العقاد التجارية أكبر شركة تعمل في حقل الرقيق في السودان، وصاحب الشركة محمد أحمد العقاد (ت 1870م)، تاجر مصري من بيت العقاد المشهور في أسوان، وهي شركة كان هدفها تحسين وزيادة التعامل التجاري بين مصر والسودان، إلا أنها سرعان ما انحدرت إلى ميدان قنص الرقيق والتجارة فيه في السنوات العشرين التي سبقت انفجار الثورة المهدية، وكان سن الفيل والعاج والأبنوس وريش النعام والجلود وغيرها هي التجارة الأقل التي تتعاطاها الشركة إذا ما قورنت بتجارة الرقيق.
    وبجانب اسم العقاد ظهرت أسماء أخرى مثل علي أبو عموري، وهو أيضا تاجر مصري، وهو الذي شب الزبير باشا في مدرسته التجارية. وإذا كان الزبير باشا هو أكثر السودانيين شهرة في ميدان تجارة الرقيق، إلا أن الميدان امتلأ بعشرات الأسماء التي لمعت في ميدان تجارة الرقيق مثل عثمان دقنة والنور بك محمد عنقرة وعبد الرحمن النجومي ومحمد بك خالد زقل وحمدان أبو عنجة ومحمد باشا إمام الخبير وأخيه علي وإلياس أمبرير .. وغيرهم.
    وقد أطلقت الأسماء لتصنيف هؤلاء التجار، فأولئك الذين كانوا يغزون على النيل الأزرق أطلق عليهم اسم (البحارة)، والذين تخصصوا في غزو الجبال كجبال النوبة وجبال فازوغلي أطلق عليهم اسم (النهاضة).
    وتتفاوت أثمان الرقيق باختلاف أجناسهم وأعمارهم وبيئاتهم وأنواعهم، ذكورا أم إناثا، وبُعدهم عن منبتهم الأصلي.
    ويلازم تجارة الرقيق أحياناً عملية الخصي وهي تتم بالنسبة لأولئك الذين يكون موقع عملهم داخل البيوت وسط النساء.
    وقد كانت تجارة الرقيق مدرسة حربية تخرج منها معظم قادة السودان العسكريين والإداريين طوال فترة المهدية وما قبلها بقليل، فإنشاء الزرائب، وحراستها، والصدام بين القبائل المحلية، والاقتتال بين التجار أنفسهم، ثم المواجهة أحيانا مع الحكومة .. كلها كانت تقتضي التاجر أن يكون قائدا حربيا جريئا وإلا انسحق تحت أقدام الآخرين.
    وقيل يومها أن إقليم أعالي النيل الأبيض كان يمد السودان بنحو خمسين ألفا من الرقيق في العام بينما ارتفع عدد العاملين في هذه التجارة إلى نحو خمسة عشر ألفا.
    أما علاقة الدول الأوروبية بتجارة الرقيق في السودان فترجع في الأصل إلى علاقة الدول الأوروبية بتجارة الرقيق نفسها، ذلك أن الدول الأوروبية بعد أن غاصت في أوحال الرق وباعت نحو ستة ملايين أفريقي في أمريكا وجنت من ذلك الأموال الطائلة، تنبه ضميرها في أواخر القرن الثامن عشر لبشاعة هذا النوع من التجارة، وكانت إنجلترا أول من حمل لواء الدعوة لتحريم تجارة الرقيق، فألفت جمعية لهذا الغرض في لندن عام 1787م، وتتابعت الدول الأوروبية واحدة إثر الأخرى في الإقرار بهذا المبدأ حتى انتهى بها المطاف لتوقيع اتفاقية بروكسل في 2 يوليو عام 1790م حرمت بمقتضاها تلك التجارة.
    أما مصر التي ارتبط اسمها كثيراً بتجارة الرقيق في السودان، بالترويج أولا ثم بالمنع، فقد كان جلب الرقيق إليها لتغذية جيش محمد علي باشا من الأهداف الرئيسية لغزو السودان عام 1821م، وظل العمل نشطا لتحقيق هذا الهدف فاستجلبوا أعدادا كبيرة لمصر، حتى إذا جاء عام 1836م أعلن محمد علي باشا وهو في غمرة إعجابه بأوروبا وسعيه لتقليدها .. أعلن إبطال تجارة الرقيق، ولكنه كان إعلاناً ينقصه التنفيذ.
    ومرت عهود الولاة إبراهيم وعباس ومحمد سعيد والحال كما هو بالنسبة لتجارة الرقيق في مصر والسودان، حتى إذا جاء عهد الخديوي إسماعيل (63-1879م) بدأ منع تجارة الرقيق يأخذ شكله الجدي مما أضطر التجار الأوروبيين لبيع زرائبهم للسودانيين وأعقب ذلك احتلال الحكومة لمديرية فشودة التي كانت من أكبر أسواق تجميع الرقيق عام 1865م، وهذا الإجراء سد طريق النيل الأبيض أمام التجار وأصحاب الزرائب في بحر الغزال والاستوائية.
    ولكن الأمر انتكس مرة أخرى بعد هذا التطور الإيجابي، فحاجة الخديوي إسماعيل للمزيد من الضرائب والعبيد مدعومة بصداقة خاصة بينة وبين محمد أحمد العقاد دفعه لعقد اتفاق استثنائي مع شركة العقاد التجارية في عام 1868م يعطي الشركة الحق في صيد الرقيق في مساحة قدرها تسعين ألف ميل مربع مقابل ثلاثة آلاف جنية كل أربعة أعوام، فأقامت الشركة بمقتضى ذلك عشرات الزرائب في بحر الغزال.
    ثم تطور الأمر مرة أخرى بصورة إيجابية إذ رأت الحكومة أنه لا يمكن منع تجارة الرقيق في بحر الغزال والاستوائية إلا باحتلال هاتين المديريتين، فعين الخديوي إسماعيل السير صامويل بيكر على رأس حملة من ألف وسبعمائة جندي لغزو السودان الاستوائي مع تخويله الحق بإيقاف تجارة الرقيق وتأسيس نقاط عسكرية قوية على طول الطريق بين غندكرو والبحيرات في أواسط أفريقيا.
    * * *
    في خضم ذلك الجو المتحرك الصاخب عاش الزبير باشا رحمة منصور الجميعابي، واستطاع أن يبني مجده الخاص بقوته الذاتية تدعمه شخصيته القوية، وطموحه الصاعد إلى عنان السماء.
    كان يكني نفسه بـ(الجميعابي العباسي)، ولد في 17 محرم 1346هـ الموافق 8 يوليو 1831م، في قرية قداسي القريبة من الجيلي في شمال الخرطوم. وسلك الطريق الذي يسلكه ذوو اليسار من الشبان في عمره، فدخل الخلوة (الكتاب)، وتعلم القراءة والكتابة، وحفظ القرآن الكريم، ودرس الفقه على المذهب المالكي وهو مذهب التعبد الشائع في السودان.
    تزوج الزبير في فترة مبكرة ثم دخل مدرسة التجارة وهي مدرسة تتيح لداخلها فرص الثراء والقوة والمجد، وسافر إلى منطقة بحر الغزال وهناك التحق بشركة علي أبو عموري وكان ميدان تجارتها العاج والأبنوس وريش النعام ومنتجات محلية أخرى بالإضافة إلى تجارة الرقيق، وبسرعة فائقة أثبت الزبير جدارته في الميدان حتى أنه وهو في السادسة والعشرين رفض عرضاً من علي أبو عموري ليدير تجارته بالمناصفة في الربح.
    في عام 1857م أصبح للزبير تجارته الخاصة وتحركت سفينته في اتجاه التيار، فتزايدت ثروته وشهرته، وبرزت مواهبه التنظيمية وقدراته الحربية وشجاعته، وبعد نحو عشر سنوات أي عام 1866م أصبح الزبير أقوى تجار بحر الغزال.
    في هذه الفترة بدأت مرحلة أخرى في حياة الزبير إذ أخذ يتحول في بطء وهدوء شديد استغرق نحو عشر سنوات من التجارة إلى السلطة، فبدأ يشتري الرقيق الأشداء ويضمهم إلى جيشه ويدربهم وأصبح معاونوه من أبرز القادة العسكريين في المنطقة، وأنشأ قرية صغيرة سماها (ديم زبير) وجعلها مقرا لحكمة، وهناك عاش كسلطان صغير فكان يقوم بغزوات صغيرة محدودة يخضع فيها القبائل والممالك المحلية، وأخذ سلطانه ينبسط شيئاً فشيئا على بقاع أوسع.
    وقد حرص الزبير منذ تلك السنوات الباكرة على أن يترك من حوله يحسون بفارق هذا التحول : من (كبير تجار) إقليم بحر الغزال إلى (السلطان الجديد) لبحر الغزال، فبسط حمايته ونظامه ونفوذه على مقاطعات داخل المديرية وعلى التجار، فكان عليهم في المقابل أن يدفعوا له ضرائب الحماية. وفي عام 1866م عقد اتفاقا مع قبيلة الرزيقات في جنوب دار فور ليسمحوا لتجارته بالمرور إلى الأسواق المجاورة عبر أراضي القبيلة.
    كانت هذه الخطوة هي بداية الطريق لبسط نفوذه على الجيران الأبعدين بعد الأقربين.
    ويبدو أن الزبير أحس بتنامي قوة جيشه وزيادة ثروته وتعاظم نفوذه، بالإضافة لإحساسه ببعد الشقة بينه وبين الخرطوم فتباطأ في دفع الضرائب.
    كان ذلك في عام 1869م.
    وهذا في الواقع كان إنذارا للخديوي إسماعيل ولحكومة الخرطوم، فالخديوي في هذه الفترة كان محاصرا بمندوبي الحكومات الأوروبية المطالبة بسداد أقساط ديونها وكانت الضرائب التجارية في جنوب السودان على قلتها تمثل دخلاً لا يستغني عنه، هذا بالإضافة لسقوط هيبة الخديوي وسط مجتمع التجار، وإذا أضفنا لذلك حرص الخديوي إسماعيل على تبني بعض الأفكار التقدمية تشبهاً بالدول الأوروبية وإرضاء لها بإرسال حملات إلى بحر الغزال والسودان الاستوائي لمحاربة الرقيق، فتحرك السير صامويل بيكر إلى السودان الاستوائي في أبريل 1869م، وتحرك الشيخ محمد البلالي لبحر الغزال عام 1872م.
    والشيخ محمد البلالي من رجال الباقرمي وقد استقر في الخرطوم فترة بعد عودته من الحجاز قبل أن يسافر إلى مصر، وفي القاهرة استطاع أن يقابل الخديوي ويطلب منه إذنا بتعدين النحاس من حفرة النحاس، وهي منطقة في جنوب دار فور متاخمة لبحر الغزال.
    وعاد الشيخ البلالي إلى الخرطوم يحمل إذن الخديوي بالإضافة لتكليفين آخرين هما فرض السيطرة الإدارية على مديرية بحر الغزال ثم القضاء على تجار الرقيق فيها.
    توجه الشيخ البلالي إلى المديرية على رأس قوة من نحو ألف ومائتي جندي من عساكر (الباشبوزق) والنظامية والخطرية مع فرمان خديوي خاص بتعيينه مديرا على بحر الغزال. واستطاع أن يفرض سيطرته على جزء من المديرية بعد معركة مباغته ويعلن نفسه مديرا، لكن بعض التجار المتضررين لجأوا إلى الزبير مستنجدين، وبسرعة جمع الزبير صفوفه واستطاع أن يوقع بالشيخ البلالي ويقتله.
    بعد الواقعة دانت كل المديرية للزبير، وأصبحت (إتاواتها) وضرائبها تصب في خزينته. لكن الزبير على ما يبدو كان يحسب حساباته بصورة أخرى تظهر فيها هذه المعركة وكأنها فرضت عليه فرضا، ولذلك قرر ألا يدخل في احتكاك آخر مع الحكومة، بل وقرر أن يصلح الخطأ الأول، فأعلن اعتذاره عما حدث وامتثاله وخضوعه لسلطة الخرطوم والقاهرة، فعفا عنه الخديوي وأنعم عليه برتبة حكمدار مع لقب (باشا)، وعينه مديرا على بحر الغزال.
    * * *
    تنتهي هنا مرحلة من حياة الزبير ظهرت فيها شخصيته بكل أبعادها : الطموح الوهاج الذي لا تحده حدود .. المقدرة الإدارية .. القيادة العسكرية .. وموهبة تحريك الرجال واكتساب ثقتهم وولائهم.
    كان الزبير مغامرا شجاعا ذكيا، وقد استطاع أن يفرض طاعته العمياء على رجاله، وكما قال نعوم شقير )فإن قريته الصغيرة (ديم زبير) أصبحت أشبه بعاصمة مملكة تحت التكوين( (2).
    كان يعيش حياة الملوك، فأحاط نفسه بأبهة ونظام وتقاليد ملوكية تشبه لحد كبير أبهة وتقاليد السلاطين في ذلك العهد، وساعده في الظهور بذلك المظهر الثراء العريض الذي كان يتمتع به .
    كانت تجارته في منتوجات المنطقة الاستوائية وفي الرقيق، تدر عليه آلاف الجنيهات كل عام. وقد وصفه ووصف عاصمته الرحالة الطبيب شواينفورث بقوله: (أحاط الزبير نفسه بحاشية لا تقل في مظهرها عن حاشيات الأمراء. وكان مقره الخاص مؤلف من عدد من الأكواخ المربعة المتينة البنيان، ويحيط بها سياج من نباتات عالية، وتضم في نطاقها إدارات الحكم المتباينة التي يقف الحراس المسلحون أمامها ليل نهار. ويقود إليه الضيوف عبيد في ثياب ثمينة يقدمون لهم المرطبات والقهوة، وكان يضاعف من أبهة هذه القاعات الرسمية وجود بعض أسود مغلولة، كما هو متوقع، بسلاسل ضخمة ومتينة للغاية) (3).
    * * *
    أما المرحلة الثانية من حياة الزبير باشا فنجد أنها ارتبطت بالتوسع (الملوكي)، وقد كان سائرا في تنظيم حكمه بنحو سلطاني، ولم يكن يبدو أبدا وكأنه مجرد حكمدار يمكن أن يذهب بفرمان خديوي كما جاء بفرمان.
    وكان الزبير باشا يتوسع في بناء جيشه الخاص، ويصرف عليه من خزانته الخاصة. كانت كل القرائن تشير إلى أن شهيته قد انفتحت للسلطان، ولم يكن يلوح في الأفق ما يشير إلى أنه سيوقف هذه الشهية عند حد.
    وتطورت الأحداث عام 1874م.
    فقد نقضت قبيلة الرزيقات عهدها معه عندما هاجمت مجموعة منها قافلة من قوافله التجارية، فزحف عليهم ودخل معهم في عدة مناوشات اقتحم بعدها عاصمتهم شكا (نيالا) في أغسطس 1874م، فهرب اثنان من زعمائهم إلى الفاشر يطلبون الحماية من سلطان الفور، فكتب الزبير باشا إلى السلطان إبراهيم محمد حسين يطلب تسليمهم، ولكن السلطان طلب منه في رده أن يخرج من المدينة ومن منطقة الرزيقات بحجة أنها أرض تابعة لمملكته.
    على أثر هذا الرد تصاعدت موجة التحدي إذ رد الزبير بأنه سيخلي المدينة ولكن بشرط واحد هو أن يعلن سلطان الفور خضوعه للخديوي.
    كانت هذه الشروط التعجيزية من الجانبين تعني الحرب.
    ولم ينتظر الزبير رد السلطان إبراهيم بل كتب إلى الحكمدار في الخرطوم وهو إسماعيل باشا أيوب بنيته في مهاجمة الفور، ولم يكن من إسماعيل باشا إلا أن جمع على عجل ما استطاع جمعه من رجال واتجه إلى دار فور.
    * * *
    كانت مصر في واقع الأمر تتوق إلى فتح دار فور منذ أمد بعيد، فمحمد بك الدفتردار قائد الفرع الصحراوي لحملة غزو السودان عام 1821م كان يخطط للسيطرة على كل غرب السودان، وبدأ خطوته الأولى بالصدام مع المقدوم مسلم، حاكم إقليم كردفان في يوليو 1821م وقتله ودخل عاصمته بارا، ثم دخل الأبيض ومنها سيطر على كردفان، ولكن قبل أن يتقدم إلى الفاشر بلغته أنباء مقتل إسماعيل باشا حرقا في شندي عاصمة الجعليين، فترك الغرب وقفل راجعا إلى الشمال ليواجه ما استجد في الوضع.
    وظل الصمت في أغلب الأحيان هو الذي يغلف علاقات الفور بمصر، ومن خلال هذا الصمت كانت تبرز بعض علامات الود كتلك الصداقة التي ربطت بين السلطان محمد حسين المهدي والوالي محمد سعيد باشا.
    إلا أنه من المؤكد أن الدولة الخديوية في مصر كانت تواقة لإكمال وجودها في السودان بأكمله، لكن لم يظهر من بين الإداريين المصريين في السودان حكمدار مقتدر وطموح مثل أحمد باشا أبو ودان ليحقق الرغبة الخديوية، إلا أن ظهور الزبير باشا المفاجئ في الساحة السياسية وزحفه المظفر أحدث تغييرا دراماتيكيا في الصورة.
    في حسابات الخرطوم أن فتح دار فور لن يكلف الخزانة المصرية شيئا يذكر، وخزانة الخديوي خاوية بدرجة لا تسمح بأي تكاليف إضافية. ومن جانب آخر كان الخوف ماثلا من أن يحول الزبير الفتح لحسابه الخاص، وفي هذا يكمن الخطر، وهو ما تستطيع مصر أن تتقبله بأي درجة من الدرجات. فالزبير رجل طموح ومقتدر، وإذا امتلك دار فور بالإضافة إلى بحر الغزال فإنه يكون قد امتلك أرضا تزيد مساحتها عن نصف مساحة السودان آنذاك.
    إذن .. كيف تجد الخرطوم معادلة تقطف بها ثمار جهد لم يكلفها شيئا ؟ لنعد إلى سياق الأحداث مرة أخرى.
    * * *
    عندما كان الحكمدار إسماعيل باشا أيوب في طريقه إلى دار فور كان الزبير قد حسم الأمر، فقد التحم جيشه مع جيش السلطان إبراهيم محمد حسين في معركة منواشي في 24 أكتوبر وهزمه وقتل السلطان في المعركة، وبعد أيام دخل الزبير باشا مدينة الفاشر وختم آخر أيام مملكة الفور.
    وهكذا .. عندما وصل الحكمدار إسماعيل باشا أيوب إلى دار فور كان كل شئ قد انتهى.
    ظهرت منذ اللحظات الأولى بوادر الصدام بين الرجلين، كانت نقاط الخلاف أكثر من أن تحصى، وكان الموقف حرجاً، فالرئيس (الحكمدار) لم يكن يحمل أي سمه من سمات التميز، غير أنه تدرج في الرتب العسكرية تدرجا طبيعيا حتى وصل إلى رتبة الحكمدار، بينما المرؤوس كان زعيما وقائدا صنع نفسه وبنى مجده وهيأ ظروفه حتى أصبحت له شخصيته المميزة وانتصاراته ولمعان اسمه الذي غطى كل سماء السودان.
    كان إسماعيل باشا بحسبه الرئيس الأعلى يريد أن يبسط سلطته بفرض الإدارة التركية بكل نقاط ضعفها من فساد وبطش وقسوة وضرائب باهظة.
    ولكن الزبير كان له رأي آخر، فهو الذي فتح المديرية، وفتحها بجيشه الخاص وصرف عليها من خزانته الخاصة، ولذلك كان يرى أنه لا يطلب شيئا شاذا إذا طالب بحقه في إدارتها، وهو كان سيديرها بالطريقة التي تتناسب مع الروح والتقاليد والعادات الموروثة.
    وبدأت الاحتكاكات : اعترض الزبير على الضرائب التي فرضتها الحكومة، الحكمدار بدأ يلوح بالاتهام، وكانت كلمة الحكمدار هي العليا وإرادته هي النافذة فضلا عن أنها هي التي تصل القاهرة وتجد فيها الأذن الصاغية.
    من الجانب الآخر لم يكن الزبير راغبا في اللجوء إلى القوة لحسم الموقف خاصة وقد أحس بأن الشكوك تحولت إلى همس عن نواياه لتكوين دولة مستقلة تتكون من دار فور وبحر الغزال.
    وعندما تأزمت العلاقات بين الزبير والحكمدار وبلغت حدا لا رجوع منه، طلب الزبير أن يسمح له بالتوجه إلى مصر لعرض رأيه على الحضرة الخديوية.
    * * *
    وصل الزبير باشا إلى القاهرة في يونيو 1875م، وكان وصوله في موكب سلطاني مهيب، فقد كان في ركابه ألف من فرسانه، وحمل إلى الخديوي هدية تتكون من مائة حصان، ومائة وخمس وستون قنطارا من سن الفيل، وأربعة أسود، وأربعة نمور، وستة عشر ببغاء.
    وإذا كان الزبير باشا قد أراد أن يكشف عن حجم قوته وثرائه في بلاده بهذا المظهر الملوكي الفخم، فإن الخديوي تصرف من جانبه وكأنه يقول للزبير (هذا هو حجمك ووزنك الحقيقي عندي) .. إذ لم يقابله إلا بعد انقضاء أكثر من شهر على وصوله القاهرة.
    وكان الخديوي إسماعيل حذرا جدا من احتمال عودة رجل في قوة وطموح الزبير باشا إلى السودان، كانت مغامرة غير مأمونة النتائج أن يعود القائد المنتصر إلى أرض انتصاره.
    وهكذا أدخل الزبير باشا القفص وهو في أوج قوته، مباشرة بعد أن سلم الخديوي مفتاح مديرية تبلغ مساحتها مائة وأربعون ألف ميل مربع، ويسكنها نحو مليون نسمة.
    وهكذا أيضا كتب الزبير بيده الفصل قبل الأخير من قصته، فقد تقبل الوضع بروح السمع والطاعة ما دام الأمر قد صدر من الحضرة الخديوية.









    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) النخاسون اسم يطلق على صائدي الرقيق والمتاجرين فيه.
    (2) جغرافية وتاريخ السودان، نعوم شقير، ص 750.
    (3) النيل الأبيض، ألان مورهيد، ص 190.
    (4) حكمدار السودان (39-1843م)، استولى على مدينة كسلا وضمها مع الإقليم الشرقي إلى الأملاك الخديوية عام 1840م.
                  

01-28-2004, 09:04 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    القديس القادم من الغرب
    ولد تشارلس جورج غردون في 28 يناير عام 1832م، أي بعد مولد غريمه بعامين، وهو الابن التاسع من بين أحد عشر طفلا في الأسرة. عاش طفولة عادية، وتدرج في تعليمه حتى التحق بالأكاديمية العسكرية عام 1848م، وبعد أربع سنوات تخرج ضابطا في الجيش البريطاني مع تخصص في الهندسة العسكرية.
    في أعوام (54-1856م) اشترك غردون متطوعا في حرب القرم المشهورة، وهذه الحرب شنها التحالف (البريطاني- الفرنسي- التركي) مع بعض القوى الأوروبية الأخرى ضد الإمبراطورية الروسية القيصرية، ودارت رحاها داخل الأراضي الروسية. وقد اعتبرت هذه الحرب مدرسة حقيقية تخرج منها عدد من الضباط الذين عملوا في السودان فيما بعد مثل رومولو جيسي والجنرال هيكس ومساداليه وريتشارد بيرتون. وأصيب غردون في الحرب وكوفئ على خدماته بثلاث ميداليات من الجيش البريطاني والفرنسي والتركي، وبعد نهاية الحرب عين في اللجنة الدولية لتخطيط الحدود (التركية- الروسية) في بساربيا وأرمينيا.
    وقضى السنوات الأربعة التالية (60-1864م) في الصين، في الجزء الأول منها كان متطوعاً مع القوات (الأنجلو ـ فرنسية) التي كانت تحارب القوات الوطنية الصينية لفرض سيطرتها الاستعمارية على تلك البقاع. بعد نهاية الحرب وسقوط بكين في أيدي القوات الغازية بقي غردون في الصين لمراقبة تنفيذ اتفاقيات السلام، ولكن الثورة الوطنية اندلعت مرة أخرى في جنوب الصين، في منطقة شنغهاي، عام 1863م، فعين غردون في مارس من نفس العام قائدا للقوات (الأنجلو- فرنسية).
    وفي هذه الحرب أظهر غردون مقدرة شخصية في القيادة والتنظيم وفي وضع الخطط العسكرية، وعلى إثر انتصاره الكبير عام 1864م رقي إلى رتبة (تيتو) وهي أعلى رتبة في الجيش الصيني، وتعادل رتبة مارشال في الجيوش الغربية، ومنح جائزة مالية ضخمة ولكنة رفضها، وأسبغت عليه ملكة بريطانيا لقبا رفيعا.
    وهكذا .. عندما رجع غردون إلى وطنه وجد نفسه بطلا قوميا مرموقا لدى الشعب البريطاني، وترجمت الصحافة الإنجليزية هذه الشهرة في لقب (غردون الصيني) الذي أشتهر به لسنوات عديدة.
    قضى غردون السنوات التالية في وظائف عادية لا تكاد تجذب الاهتمام دون أن يهتم بالشهرة والصورة التي رسمها له الإعلام البريطاني. في أكتوبر عام 1871م سافر إلى منطقة الدانوب ليمثل بريطانيا في بعثة عالمية لبحث مسألة الدانوب. وفي عام 1872م زار القسطنطينية في عطلة عادية، وهناك قابل نوبار باشا وزير خارجية مصر. كانت حكومة مصر في هذه الفترة تبحث عن خلف للسير صامويل بيكر في إدارة السودان الاستوائي. فسنوات بيكر الأربعة التي قضاها في السودان تنتهي في أبريل عام 1873م، وقد أعجب نوبار باشا بالجنرال غردون، وكانت شهرة غردون المدوية وتجاربه الناجحة في العمل في المناطق الشبيهة بالسودان هو ما تراءى لنوبار باشا وهو يلتقي به في القسطنطينية، ولذلك عرض عليه العمل في الخدمة الخديوية، فقبل غردون ولكنه اشترط قبوله بقبول الحكومة البريطانية.
    * * *
    إذا كنا حتى الآن نعبر حياة غردون عبورا أفقيا تاريخيا فلنتجه الآن إلى غردون الشخص، ونحاول أن نعبر شخصيته إلى العمق.
    من هو الجنرال غردون ؟
    من ناحية عامة يمكننا أن نقول أنه جندي بريطاني عاش في العهد الفكتوري المعروف، وهو عهد تميز بملامح معينة صبغته الروح الاستعمارية التي وصلت عنفوانها في هذه المرحلة من تاريخ بريطانيا، صبغته بشئ من التعصب القومي والغطرسة والإحساس بأن لبريطانيا رسالة حضارية يجب أن تؤديها وسط الشعوب المتخلفة في آسيا وأفريقيا، والواقع أن هذه الرسالة لم تتمخض في النهاية إلا عن استعمار معظم مناطق آسيا وأفريقيا وقهر الحركات الاستقلالية فيها تماما كما حدث في السودان ومصر والصومال والجزائر وليبيا والهند والصين.
    بصفة عامة، إذن يمكننا أن نقول أن الجنرال غردون جندي بريطاني تشبعت حياته بروح هذه الفترة، ولكن هذا التعريف العام لا يفي بتحديد أبعاد شخصيته الغريبة.
    وصف الجنرال غردون بأنه كان نحيفا ولكن تركيبته الجسمانية كانت قوية، لم يكن مظهره الخارجي يتميز إلا بعينين زرقاوين حادتين نفاذتين. وهو يمتلك طاقة وحيوية لا تنضب. كان متحركا لا يعرف الراحة والاسترخاء إلا إذا وصل إلى هدفه، ولكنه بمجرد أن يصل إلى الهدف يتملكه سأم عام من عمله، وغالبا ما يغادره إلى عمل آخر.
    كان خصما عنيدا إذا خاصم، وهو لا يتنازل عن خصومته إلا إذا سقط خصمه أمامه مستسلما للهزيمة أو مضرجا في دمائه.
    وكان مؤمنا بالله إيمانا عميقا، وكان محبا للإنجيل حبا يصل إلى حد التعصب، وهو متصوف، مثالي في سلوكه، مترفعا عن الصغائر.
    ولكنه رغم كل ذلك كان شاذا غريب الأطوار، حتى أن بعضا ممن عايشوه وصفوه بصفات قد لا تكون فيه بكاملها، ولكن ملامحها كانت متمثلة فيه، وقد أجمل بلنت هذه الصفات في جملة قصيرة، قال: (لقد رآه البعض مجنونا، وظنه البعض سكيرا، وأعتبره البعض متهوساً دينيا) (1).
    وكان شجاعا وعنيدا، بل كان مندفعا ومتهورا ومنساقا وراء انفعالاته، وكان يبدي رأيه خاصة في الأفراد العاملين معه أو في مرؤوسيه بصراحة لا يشوبها شئ من التحفظ.
    وكان عرضه لنوبات من الثورات الجامحة التي كثيرا ما كانت غير معقولة.
    وكان يتخذ قرارات سريعة بلا تروي هي أقرب إلى الانطباعات منها إلى القرارات المدروسة، ولهذا كان نادرا ما يصمد طويلا على رأي، ولم يكن هذا التسرع يترك له الفرصة ليحكم بروية وسلامة على الأشخاص والمواقف.
    ومن نافلة القول بعد هذا أن نقول أن تلك الصفات ترسم صورة رجل متعجل عديم الصبر.
    ولكن بعد ذلك تبقى له في شخصيته تلك الجوانب التي جذبت إليه كل مرؤوسيه خاصة أولئك المرؤوسين الذين ينحدرون من الطبقات العامة والبسيطة، فقد كان ودودا معتدلا في حياته الشخصية، وله جاذبية خاصة ونفور أصيل من المظالم.
    لم يتزوج غردون طيلة حياته، ويبدو أنه كان مستمتعا بتلك العزوبية، أو على الأقل كان قانعا بحظه في هذا الجانب، إذ لم تعرف له مغامرات نسائية، ولم يكن الجنس يشكل أحد مشاغل حياته.
    من مجمل تلك الصفات : الترفع عن الصغائر، البعد عن النساء، التعلق بالإنجيل، الالتزام بالسلوك الذي كان يظنه أقرب إلى سلوك (الإنسان الإنجيلي)، البعد عن مغريات المال، الزهد في حياة المجتمع الأوروبي، التعلق بالمثل العليا .. كان بهذه الصورة أقرب إلى قديس جاء يغزو الشرق بسيف الإنجيل والمدنية.
    على أن هذه الصفات كلها تبدو من على البعد شيئا مبهما وغير محدد، ولكنها تأخذ أبعادها الواقعية عندما يفسرها سلوكه في الفترة التالية من حياته.
    * * *
    في أوائل عام 1874م وصل الجنرال غردون إلى القاهرة، وفي القاهرة اتخذ خطوة بهرت الجميع عندما خفض راتبه السنوي، وهو الراتب الذي كان يتقاضاه السير صامويل بيكر من عشرة آلاف جنية إلى ألفين. وسافر إلى الخرطوم ومنها على النيل الأبيض إلى غندكرو العاصمة الإدارية للسودان الاستوائي، وهناك قضى عامين ونصف في عمل عنيف وشاق وحركة متواصلة لتحقيق أغراض عديدة، وفي ذلك الجو الاستوائي الكثيف الرطوبة العالي الحرارة تساقط مساعدوه الأوروبيون والأمريكيون واحداً إثر الآخر بسبب الأمراض الاستوائية ولم يبق معه إلاّ مساعد واحد، إيطالي الجنسية اسمه رومولو جيسي.
    كانت سياسته التي دأب على تنفيذها في السودان الاستوائي هي عين ما اتفق عليه مع الخديوي إسماعيل، وقد تطابقت نظرة الرجلين للوضع في جنوب السودان مما ساعد على حسن التفاهم بينهما. فكلاهما كان يرى ضرورة محاربة تجارة الرقيق، وأن الطريق الأمثل لذلك هو إقامة حكومة قوية مع إيجاد العمل البديل لتجار الرقيق حتى ينصرفوا عن هذه التجارة.
    وإذا كان الجنرال غردون قد فشل في إيجاد العمل البديل لتجارة الرقيق، وفشل في ربط السودان الاستوائي بمنطقة وسط أفريقيا تجاريا، إلا أنه نجح نجاحا كبيرا في شل تجارة الرقيق على النيل الأبيض، وضايق التجار في الطرق البرية الأخرى، بل واستطاع وهو يتعقبهم أن يمد حدود السودان الجنوبية إلى مشارف بحيرة ألبرت في الجنوب الغربي، وبحيرة فكتوريا في الجنوب الشرقي، وعلى هذا الامتداد أقام ثلاث محطات عسكرية على طول النهر جنوباً حتى بحيرة فكتوريا، وقوى روابط الود مع الملك (أمتيسا) ملك يوغندا بواسطة الدكتور الألماني المسلم أمين باشا، هذا بجانب كسبه لثقة القبائل المحلية.
    كل هذه الإجراءات ساعدت على تقييد حركة تجارة الرقيق وشلت نشاطات التجار في المنطقة.
    ولعله عندما فكر في ترك العمل والسفر إلى لندن كان يخالجه شعور بأنه أدى مهمته بنجاح، وما على من يخلفه إلا أن يترسم خطاه.
    كان غردون، وعام 1876م يسير إلى نهاياته، قد أدركه إرهاق شديد، فالجو الاستوائي، والأمراض، وضغط العمل الإداري .. قد هد قوته، بالإضافة إلى قلقه الطبيعي وعدم استقراره النفسي، ثم شعوره بأن مهمته تكاد تسير في حلقة مفرغة رغم ما حققه فيها من نجاح، إذ أنه من العبث أن تكون مهمته الأولى في السودان الاستوائي محاربة هذه التجارة وتجفيف منابعها، بينما تكاد أن تكون هذه التجارة عملا شرعيا في السودان الشمالي.
    في الواقع لم تعد هذه التجارة عملا مشروعا في السودان الشمالي في هذا الوقت، ولكن تهاون الإداريين في محاربتها هو الذي ترك مثل هذا الانطباع عند الجنرال غردون، لأن كثيرا منهم كان متورطا فيها بصورة أو بأخرى.
    * * *
    في القاهرة وهو في طريق عودته إلى لندن التقى الجنرال غردون بالخديوي إسماعيل وتناقشا في أمر السودان : إدارته، تجارة الرقيق، وكل ما يهم أمر السودان، وعرض غردون كل آرائه مؤملا أن يستفيد منها من يأتي بعده، ولكن الخديوي إسماعيل كان يعرف طباع غردون، فاستغل صداقته الشخصية وعرض عليه حكمدارية عموم السودان، وبسلطات واسعة لم تعط لحكمدار قبله، وبتفويض لأن يعمل ما يشاء، فقد رأى فيه الخديوي الرجل الذي يملأ المنصب فعلا، والذي يمكن أن يريحه من هموم السودان، فهو محصن ضد الفساد والرشوة التي كانت طابعا لمعظم موظفيه في السودان، بجانب أنه رأى فيه العسكري الوحيد الذي يستطيع أن يخضع السودان كله لسلطة القاهرة .. وأخيرا فهو أقدر من أي حكمدار آخر على تسليم كل ما يصل إلى يديه من ضرائب لخزينته الفارغة دوما.
    وتردد الجنرال غردون قليلا قبل أن يبدي موافقته، ذلك أنه عندما غادر السودان الاستوائي كان مصمما على ألا يعود مرة أخرى، ولكن إغراء المنصب، والنكهة الإصلاحية المتضمنة في العرض تغلبا في النهاية.
    وقبل أن يغادر القاهرة إلى لندن كان (صديقه) الخديوي إسماعيل قد انتزع منه الموافقة المبدئية.
    * * *
    عند عودته إلى بريطانيا أستقبل الجنرال غردون استقبالا حارا دعم صورته (الصينية) السابقة.
    كانت الصحافة البريطانية قد أفاضت في وصف مغامراته في خط الاستواء، فأضافت لوهج شخصيته (الصينية) وهجا (أفريقيا استوائيا)، وهو في هذا كان على عكس السير صامويل بيكر تماما، فبيكر ما أن وصل إلى بريطانيا حتى تناول أقرب مساعديه رحلته الأفريقية بالتجريح، ووصفه بالقسوة واللا إنسانية، فضلا عن أن بيكر لم يكن أكثر من إداري ناجح عاد بعد رحلة عمل ليجد نحو أربعين ألفا من الجنيهات الإسترلينية قد تكدست في حسابه في أحد بنوك لندن.
    ولكن الجنرال غردون بشجاعته، وتحمله، وترفعه، وإنسانيته رسم تلك الصورة التي أفلح في أن يقدمها عن نفسه للرأي العام البريطاني وأن يبهر بها ذلك المجتمع.
    وتزاحمت عروض العمل حوله، ولكنه ظل يستمتع بذلك الوهج صامتا، إلا أن ذلك الصمت سرعان ما انقطع ببرقية جاءته من (صديقه المحب) إسماعيل .. هكذا كان توقيع البرقية.
    كانت البرقية عبارة عن شحنة نفسيه عبأت بذكاء شديد ومعرفة بشخصية الجنرال غردون. كانت كلماتها تقول (لا أريد أن أصدق أن شيئا يقنع غردون بالرجوع عن كلمته بعد أن يعطيها كسيد مهذب) (2).
    * * *
    عاد الجنرال غردون إلى القاهرة في أبريل عام 1877م، وهناك حدد شروط عمله، وهي تحمل تلك النكهة (الغردونية) إذا جاز أن نسميها بذلك، فخفض راتبه السنوي من ستة آلاف جنية وهو راتب الحكمدار، إلى ثلاثة آلاف، ولكنه تمسك بالشروط الإدارية والخلقية، كأن يعين حكمدارا عاما على كل السودان، وأن يخول من الصلاحيات ما يمكنه من القضاء على تجارة الرقيق.
    ولم يتردد الخديوي إسماعيل بالطبع، فالشروط كانت شروطه هو قبل أن يطالب بها غردون، وهو الذي عرضها على غردون، بل أنه أوصاه أن (استعمل كل السلطات التي منحتك، واتخذ كل خطوة تراها، عاقب، أنقل، أفصل من تشاء كما يحلو لك) (3)، ولم يكن غردون في حاجة إلى مثل تلك الوصية، فقد كانت هيمنته الإدارية تكاد تقترب من حد الشره.
    وهكذا قدر لغردون أن يمد سلطانه من الخرطوم في رقعة تمتد مع امتداد النيل ألف ميل شمالا، وألف وخمسمائة ميل جنوبا، ومن جهة الشرق امتدت أربعمائة ميل حتى سواحل البحر الأحمر، وسبعمائة وخمسين ميلاً إلى حدود دار فور الغربية.
    * * *
    هذه الفترة من حياة غردون يطلق عليها بعض المؤرخين اسم (الحكمدارية الأولى). وإذا كان هذا العنوان ينطبق عليها على وجه العموم، فإن عنواني (حكمدارية الرحلات) و(حكمدارية التقصي) كانا أيضا ينطبقان عليها. فالجنرال غردون حكم السودان خلال هاتين السنتين من فوق ظهر بعيره، وعلى ظهر هذا البعير ومع قلة المساعدين والحراس والخدم استطاع أن يمشط السودان طولا وعرضا.
    من القاهرة سافر إلى الحبشة (إثيوبيا) لتوطيد قاعدة الصداقة بين إدارته وملك الحبشة يوحنا، ولكنه لم ينجح في الوصول معه إلى اتفاق كامل، ومن الحبشة سافر إلى الخرطوم عن طريق كسلا وسنار.
    وفي الخرطوم قام بإجراءات سريعة وحاسمة حسنت وجه الحكم لتكون مدخلا لشخصيته وأسلوبه في الإدارة، فألغى الضرب في السجون، وخفض الضرائب، ووضع على باب السراي صندوقا للشكاوى، وعزل من ساءت سيرته وضعفت مقدرة أدائه من الموظفين وضباط الجيش.
    وكانت متابعته الدقيقة وحزمة الشديد هو الذي علم الموظفين أن هنالك شيئا جديدا لم تعرفه الخرطوم من قبل اسمه الإدارة النزيهة.
    وكانت أولى رحلاته بعد ذلك إلى دار فور.
    في دار فور كان السلطان هارون الرشيد يرفع راية الثورة لاسترداد عرش آبائه سلاطين الفور، وقد استطاع في عام 1877م أن يحاصر حاميات الحكومة في كلكل ودارة والفاشر. ثم تصاعدت هواجس الخرطوم من أن تكون قد بدأت إرهاصات تحالف بين سلطان الفور وسليمان الزبير الذي كان قد خلف أباه في قيادة جيشه. وكانت الخرطوم، وغردون بصفة خاصة، تخشى أن يثور سليمان بسبب احتجاز والده الزبير باشا في مصر.
    في طريقه لدار فور كتب غردون باشا لسليمان الزبير أن يتجه إلى الفاشر لملاقاته هناك. وفي دار فور استطاع غردون أن يفك الحصار عن بعض المدن قبل أن يلتقي بسليمان الزبير في داره، وأفلح في أن يهدئ من مخاوف سليمان، فمنحه لقب (بك)، وسماه مديرا على بحر الغزال، ولكنه انتزع منه أجزاء من جيشه، فجعل ألفين تحت قيادة النور بك محمد عنقرة، وألفا تحت قيادة السعيد بك محمد، وترك ألفا تحت قيادة سليمان.
    بعد أربعة أسابيع كان غردون باشا في الخرطوم، وبقي فيها أسبوعا ليغادرها إلى الشمال، فزار بربر ومروي ودنقلا، وقبل أن يصل إلى وادي حلفا سمع بتحرك الأحداث في الحدود الشرقية، فسافر إلى (كرن) حيث سوى الأمور مع حكومة الحبشة.
    وفي يناير 1878م أبرق له الخديوي إسماعيل ليحضر إلى مصر ليكلفه برئاسة اللجنة الدولية التي أوكل إليها التحقيق في الوضع المالي لمصر، واستخدمت اللجنة كلمة (دولية) تمويهاً إذ أنها كانت لجنة أوروبية تتكون من الدول الدائنة لمصر. كان الخديوي يثق في الجنرال غردون أكثر من ثقته في أي أوروبي آخر، وكان يأمل أن تساعده سمعة غردون الحسنة في العالم على تسوية الأزمة، ولكن لم يكن لغردون معرفة كافية في الأمور المالية، كما أنه لم يكن يألف أعمال تلك اللجان، وهو يعرف أنه لو ترأس تلك اللجنة لترأس مجموعة من الذئاب تتربص بصديقة إسماعيل، وكان يعرف أن الذئاب متفقة على التهام الضحية، وهو لا يريد أن يمثل دور الشاهد المغفل في اللجنة، ولذلك اشترط لكي يبقى في رئاستها ألا يكون الدائنون أعضاء فيها، وعندما لم يتحقق هذا الشرط رفض غردون الاشتراك فيها.
    وعاد إلى الخرطوم ليقضي الشهور التسعة التالية بلا تجوال، استقر ليعيد تنظيم الإدارة في الخرطوم ويواصل حرب تجارة الرقيق.
    * * *
    أحدث غردون باشا تغييرا كبيرا في إدارة السودان، فدوره الخاص أداه بكفاءة عالية. كان مظهره يوحي بالثقة، وقد مكنته قوة شخصيته من فرض إرادته، واستطاع أن يصبغ منصب الحكمدارية بصبغة جديدة، فبساطته الشديدة، وكرمه، وحسن استقباله لزواره، وحسمه في قضاء الأمور، وإصلاحه لكل اعوجاج .. كلها أعطت المنصب طعما جديدا.
    أما بالنسبة لنوابه ومساعديه فإن الأعوام الثلاثة التي قضاها في السودان نزعت منه أي مقدار من الثقة كان يمكن أن يوفره لتركي، ولذا فعندما عاد إلى الخرطوم عن طريق الشرق عبر مقاطعات (هرر) و(زيلعة)، وجد محمد رءوف باشا مديرا على هرر فعزله، وكان قد عزله قبل أربعة سنوات من غندكرو في السودان الاستوائي.
    واستبدل بالأتراك بعض السودانيين، فظهرت بعض الوجوه في الإدارة وفي الحياة العامة، مثل محمد باشا إمام الخبير، وأخيه علي، ومحمد بك خالد زقل، والنور بك محمد عنقرة، وإلياس باشا أم برير.
    ثم بدأ يعزل السودانيين أو يخفض رتبهم، ويستبدلهم ببعض الأوروبيين، فعين طبيبا ألمانيا كان قد أسلم في تركيا واتخذ اسم أمين مديرا على السودان الاستوائي عام 1879م، وأعجب بمهندس تلغراف ألماني اسمه جقلر، فحوله إلى الإدارة وجعله نائباً له في الحكمدارية، واستعان بضابط نمساوي اسمه رودولف سلاطين، وعينه عام 1878م مفتشا ماليا لحكومة السودان، ولم يكن سلاطين قد بلغ الواحد والعشرين من عمره، وفي العام التالي عينه مديرا على داره في جنوب دار فور، وعين شابا بريطانيا اسمه فرانك ميلر ليبتون (ليبتون باشا)، كان يعمل بحارا ثم تاجرا متجولا، عينه نائبا لمدير السودان الاستوائي، وعرض إدارة إقليم دار فور على الرحالة البريطاني المشهور ريتشارد بيرتون، إلا أن بيرتون رفض العمل تحت إدارة غردون، فأسند المنصب إلى الفرنسي مساداليه. ولعل أخطر مساعديه وأهمهم كان رومولو جيسي، وهو ضابط ورحال ومغامر إيطالي تعرّف عليه غردون أثناء حرب القرم في روسيا (54-1856م)، وعندما سافر إلى السودان مستكشفا فيما بعد عينه غردون مساعدا له في السودان الاستوائي، ثم تخاصما فغادر جيسي لكنه عاد معه مرة أخرى عام 1877م فعينه مديرا على بحر الغزال.
    * * *
    كانت محاربة تجارة الرقيق هاجس غردون الأكبر، وقد انطلق في هذا المجال من إعلان وقعته بريطانيا ومصر في 4 أغسطس عام 1877م، تعهدت فيه مصر بقفل أسواق الرقيق مع السماح ببيع الرقيق بين العائلات في مصر حتى عام 1884م، وفي السودان حتى عام 1889م ومن ثم يحرم البيع بعد ذلك.
    نشط غردون في نشر هذه الوثيقة في أنحاء السودان، وعين جقلر باشا مفتشا عاما للإشراف على منع تجارة الرقيق في السودان، وجعل في كل مديرية موظفا كبيرا يشرف على ذلك. وعلى إثر ذلك بدأت مطاردات مضنية بين غردون وتجار الرقيق، فأغلق الطرق البرية والنيلية، واستطاع في النهاية أن يحقق نجاحا كبيرا في شل حركة هذه التجارة، فضبط أربعة عشر قافلة لتجار الرقيق عام 1878م، وثلاث وستون قافلة عام 1879م، وكان شديد القسوة في معاقبة التجار لدرجة أن جعل عقوبة من يقبض عليه متلبسا أن يحاكم بتهمتي السرقة والقتل، ولذلك فقد أنزل بهم عقوبات رادعة تبدأ بمصادرة الرقيق، وتستمر بالجلد والإذلال، وتنتهي أحيانا بالإعدام. وكان يعلق على ذلك بقوله (إنني أوجه ضربات مميتة لتجار الرقيق، وأنني الآن أنشئ نوعا من حكومة الإرهاب على تجار الرقيق) (4).
    * * *
    بجانب هذا كان غردون باشا يوجه اهتماما خاصا لمالية السودان، فعندما رأى الأوروبيين يشددون قبضتهم على الخديوي إسماعيل اقترح عليه فصل مالية السودان عن مالية مصر، ووافق الخديوي. ثم اقترح أن تفصل ميزانيات الشرق (الساحل الصومالي والحبشي) عن ميزانية حكمدارية السودان لأنها كانت في الواقع عبأ عليه، واستمر في ضغط المصروفات فأوقف الخط الحديدي المتجه من وادي حلفا جنوبا، وكان قد قطع نحو خمسين ميلا على النيل.
    لكن كل شئ توقف فجأة، ذلك أن هواجس الجنرال غردون كانت تتزايد باستمرار حول موقف سليمان الزبير، ولم يهدئ هذه الهواجس انشغال غردون بتنظيم الإدارة والمالية ومحاربة تجارة الرقيق. وإذا كان سليمان الزبير قد أظهر الطاعة وتقبل قرار غردون بتوزيع جيشه على بعض القادة، فإن هذا التقبل والصمت من جانب سليمان كان شيئا مثيرا لغردون، فقابله بحذر شديد، إذ كانت عقيدة غردون التي لم تتغير أبدا هي أن سليمان هو ابن الزبير باشا (أكبر تاجر رقيق تعرفه القارة الأفريقية)، رغم المنصب الحكومي الكبير الذي يتقلده، كما أنه لن ينسى أن والده يقبع أسيرا في القاهرة.
    هذه الهواجس الأساسية كانت تغذي كل يوم بكلمة من هنا ووشاية من هناك، وكانت تتضخم وتتضخم حتى جاءه الخبر اليقين من إدريس (ود) أبتر.
    من هو إدريس ود أبتر هذا ؟
    إدريس ود أبتر هو أحد التجار الدناقلة في إقليم بحر الغزال، التحق بخدمة الزبير باشا في فترة مبكرة، وتدرج في المناصب حتى عينه الزبير وكيلا عنه في إقليم بحر الغزال عندما غزا مملكة الفور عام 1874م. وقضى إدريس ود أبتر نحو أربعة سنوات قبل أن يعين غردون باشا سليمان الزبير مديرا لبحر الغزال في أغسطس عام 1877م، وجعل إدريس نائبا له. وعند وصوله لبحر الغزال شرع سليمان يحقق فيما أشيع عن إدريس من فساد مالي واستبداد بالإدارة، فأوقفه عن العمل، وشكل مجلسا قضائياً لمحاكمته، ولكن إدريس تمكن من الهرب إلى الخرطوم واستطاع أن يملأ الفراغ في هواجس غردون، وأن ينقل له فكرة لم تكن بعيدة عن تفكيره، وهي أن سليمان يخطط للاستقلال بإقليم بحر الغزال بحجة أن الإقليم أرض أبيه.
    كان غردون يرى، وهو يعتمد على أسس غير ثابتة وتقوم على الشك وسوء الظن كما يقول ثيوبولد، كان يرى أن تحركات سليمان هذه كانت موجهة من قبل أبيه الزبير باشا في القاهرة. وكان هاجسه الأكبر أن يحدث تنسيق بين ثورة السلطان هارون الرشيد في دار فور وبين سليمان الزبير ويشتعل السودان كله خلفهما.
    وتصرف غردون على هذا الأساس فعين إدريس أبتر مديرا لبحر الغزال وجعل سليمان نائبا له، وأعان إدريس بقوات إضافية تساعده على فرض سيطرته فيما لو رفض سليمان الانصياع للقرار.
    ورفض سليمان هذا التعديل الإداري، واعتبر أن المقصود إهانته وإذلاله، فإدريس أبتر كان يعمل عند والده حتى ترقى إلى هذه المناصب العليا، ولذلك فليس من المعقول أن يعمل تحت قيادة أحد موظفي والده، ثم أحد موظفيه.
    ووقع الصدام، وانتصر سليمان، وقتل عثمان أبتر شقيق إدريس، وفر إدريس إلى الخرطوم مرة أخرى.
    وانفجرت كل مخاوف غردون وتصاعدت إلى السطح مرة واحدة. الآن تأكدت شكوكه بأنه مادام سليمان الزبير على قيد الحياة فلن يذوق السودان طعم الهدوء، فسير جيسي باشا على رأس ألفين من الجنود، وجعل للحملة هدف واحد محدد هو رأس سليمان الزبير.
    * * *
    في هذه الفترة كانت الأوضاع في القاهرة تتحرك بصورة مغايرة، فقد أصدر السلطان العثماني فرمانا بعزل الخديوي إسماعيل من حكم مصر، وتعيين الأمير توفيق واليا بدلا عنه.
    أحس غردون بأصابع القوى الأجنبية وراء فرمان السلطان العثماني حتى قبل أن تأتيه المعلومات، وعرف أن خليفة إسماعيل الخديوي توفيق لن تكون له إرادة مستقلة، وسيكون أداة سهله في أيدي القوى الأجنبية، وكان شديد الخلاف مع طبقة الباشوات في مصر، بالإضافة لعدائه القديم مع رجال الدبلوماسية الأوروبيين الذين يتحكمون في مصر بعد غياب الخديوي إسماعيل.
    من جانب آخر كانت شمس السودان اللاسعة وجفاف الصحراء التي عبرها عدة مرات، قد أنهكه، صحيح أنه لم يصب بأمراض تقعده عن العمل، ولكن جسمه كان قد وصل حده النهائي من الإرهاق.
    وهكذا ..
    عندما وصل إلى القاهرة في أول يناير عام 1880م وقدم استقالته، لم يأسف أحد على ذهابه، لا الخديوي الجديد ولا باشواته، ولا حتى أولئك الأوروبيين الذين جاءوا ينهشون أظافرهم في أشلاء مصر.
















    ــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) ألان مورهيد، النيل الأبيض، ص 200.
    (2) ألان مورهيد، النيل الأبيض، ص 189.
    (3) المرجع نفسه، ص 194.
    (4) ألان مورهيد، المرجع نفسه، ص 194.
    (5) المرجع السابق نفسه، ص 24.
                  

01-28-2004, 09:04 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    الغريمـــــــان

    بلغت الخصومة بين الجنرال غردون والزبير باشا ذروتها بعد مقتل سليمان الزبير في يوليو عام 1879م، فقد أعتقل غردون أهل الزبير وأقاربه وزج بهم في السجون وصادر ممتلكاتهم، واتهم الزبير بأنه كان يوجه ابنه سليمان ويشجعه على الثورة، وشكل له محكمة حكمت عليه غيابياً بالإعدام، ولما كان الزبير في القاهرة فقد أرسل غردون الحكم إلى مصر وطالب بإنقاذه.
    ولعل هذا الصدام القدري بين الجنرال غردون والزبير هو الذي عرف العالم الأوروبي بالزبير، فأصبح عندما يذكر اسمه يحاط بالألقاب التي تتبرع بها مختلف الجهات، أطلقوا عليه (الوجه القبيح في أفريقيا)، ووصفه ونستون تشرشل بـ(الوغد)، وقالت عنه الصحافة البريطانية أنه (أكبر تاجر رقيق يعرفه العالم).
    ولكن بعد هذا كله بقيت صفحة أخيرة في صراع غردون مع شبح الزبير، جديرة بالتأمل وهي لا تعكس، فيما روى لنا التاريخ، تغييراً في شخصية الزبير أو تغييراً في شخصية غردون، بقدر ما تعكس الطبيعة القلقة غير المستقرة لشخصية الجنرال غردون، هذا التكوين القلق يجعله يتخذ القرار ثم يتخذ القرار المضاد له بعد ساعات، ذلك لأن قراراته كانت تعتمد في الغالب على الحدس والانطباع والهاجس الوقتي، وما كان يسميه (شعوراً ذاتياً)، كان بالنسبة له أشبه بالإيحاء الذي لا يخيب.
    سنكمل في الصفحات التالية المرحلة الأخيرة في ملحمة الصراع بين الرجلين.
    * * *
    بعد أن تصاعد خطر الثورة المهدية عقب مقتل الجنرال وليم هيكس وإبادة جيشه في غابة شيكان في نوفمبر عام 1883م، وافقت الحكومة البريطانية على إرسال الجنرال غردون إلى السودان ليقوم بمهمة محددة هي استقصاء الوضع عامة في ظل اندلاع الثورة العارمة، وفي طريقه إلى مصر، عبر البحر الأبيض المتوسط تذكر غردون عدوه اللدود الزبير باشا، كان الزبير قد قضى حتى الآن نحو عشر سنوات (ضيفاً) في القاهرة، فأبرق غردون إلى اللورد غرانفيل وزير خارجية بريطانيا يقترح تشديد الرقابة على الزبير وإذا أمكن نقله إلى قبرص، إذ خشي أن يكون الزبير على علاقة بالمهدي في السودان.
    ولكن تغير كل شئ عندما التقيا بعد أيام وجهاً لوجه.
    كان اللقاء قد تم مصادفة في منزل شريف باشا، أحد رؤساء مجلس النظار السابقين في مصر، كان لقاءاً غريباً ومثيراً رغم أنه لم تجر فيه أي مفاوضات أو نقاش، ولكنه فعل في غردون فعل السحر، إذ حرك فيه كل قواه الانطباعية والعاطفية والاستطلاعية والتنبؤية دفعة واحدة، وعاد بذهنه إلى الوراء ليجوب آفاقاً من الماضي ويغوص في أعماق هذا الرجل الضئيل يبحث عن شئ أحسه بشفافية بالغة.
    هذا الرجل الذي نبع من الوهم معتمداً على قوته، والذي استطاع خلال عشر سنوات أن يجمع حوله عدداً من المحاربين، وأن يكون نواة لمملكة تساوي مساحتها نصف مساحة الممتلكات الخديوية في أفريقيا السوداء …
    هذا الرجل من مثله من قادة السودان؟
    من يملك قوته الذاتية؟
    من يملك بريق اسمه ولمعانه؟
    من يملك مقدرته الإدارية؟
    من يملك تأثيره .. هيمنته .. سحره؟
    عبد الشكور؟
    لا .. فعبد الشكور فاته قطار الزمن بأجيال، هو رمز من الماضي ليس غير .
    حسين باشا خليفة العبادي؟
    لا .. فحسين باشا إداري قدير، نعم، ولكن الزعامة شئ آخر، والمهدي لا يهزمه الإداريين وإنما يصارعه الزعماء والقادة فقط.
    أبناء السلاطين السابقين؟
    ولكن هل لأبناء السلاطين السابقين وجود حقيقي وتأثير في السودان؟ وهل بقي من سلطان آبائهم أثر يذكر؟
    لماذا لا يصحب معه الزبير إلى السودان؟
    فالزبير هو القائد العسكري، وهو الإداري، وهو الزعيم القادر على الإمساك بخيوط الإدارة بعد سيطرته على السودان، ثم هو الموثوق به لدى مصر أكثر من أي سوداني آخر.
    هذا الحوار الداخلي استمر لثوان قبل أن ينتبه غردون إلى مضيفه ويتبادل معه الآراء حول قضية السودان، وبعد هذا اللقاء طلب غردون باشا من السير إفلن بيرنج تدبير لقاء خاص مع الزبير، وتم تدبير اللقاء.
    كان الحاضرون هم السير إفلن بيرنج ونوبار باشا رئيس مجلس النظار المصري ومرافق غردون الكولونيل إستيورت.
    في بداية اللقاء كان التوتر يسود كل شئ، وبدأت المواجهة أليمة، ولكنها حارة، كان كل من الرجلين (يحملق) في الآخر في ذهول للحظات قبل أن تمتد يد الجنرال غردون إلى الزبير مصافحاً، ويرفض الزبير مصافحة اليد الممدودة إليه، كيف يصافح اليد التي تخضبت بدماء إبنه؟ اليد التي لم تحترم نفيه وسجنه وغربته، فحكمت بإعدامه.
    كان كلاهما متحفزاً كالنمر، وبدأ المشهد يحمل طابعاً درامياً، جرى شئ من العتاب، ولكن كل واحد منهما كان مستميتاً في الدفاع عن موقفه، هذا مبرراً مواقفه السابقة، وذلك مدافعاً عن نفسه ومتهماً خصمه في نفس الوقت، الجنرال غردون قال أنه وجد رسالة عند سليمان، بعد مقتله، من أبيه يحرضه على الثورة، والزبير أنكر أنه حرض ابنه على الثورة بأي صورة من الصور، ولذلك لم يثمر اللقاء تراجعاً من أي منهما، واختتم الزبير اللقاء بقمة درامية عندما انسحب من القاعة رافضاً التفاهم مع غردون.
    ولكن رغم ذلك ازداد شعور غردون الغامض بأن الزبير هو رجل الموقف المنشود الذي يمكن أن يسلمه السودان ليستطيع مواجهة المهدي.
    رأى الجنرال غردون في الزبير قوة غير محدودة مع حضور شخصي وتأثير قوي على السودانيين، وتصور أن المهدي سيظهر أمامه وكأنه تلميذ مبتدئ في ميدان الصراع، رأى فيه الرجل القادر على تكوين النواة التي يمكن أن يتجمع حولها خصوم المهدي ليشكلوا ثورة ضد الثورة.
    ولكن باقي الحاضرين، بيرنج ونوبار واستيورت، رأوا أن الأخدود المحفور بين الرجلين أوسع وأعمق من أن يدفن بهذه البساطة.
    إلاّ أن غردون باشا، رغم كل شئ قرر رسمياً أن يطلب الاستعانة بالزبير، ولكن ظهر منذ اللحظة الأولى أن دون ذلك جبال من الشكوك والمخاوف والأحقاد، والخلفيات السوداء، ورفضت بريطانيا الاقتراح، وتخوفت منه مصر، وراوغ السير إفلن بيرنج، والسير إفلن بيرنج دبلوماسي محترف، وهو الذي يملك توجيه دفة تفكير حكومته والحكومة المصرية، وهو رجل موضوعي، ودبلوماسي حصيف، يزن الأمور بميزان دقيق، ولم يكن من السهل عليه أن يعتمد على (شعور) غردون الخاص بالنسبة للزبير، ولذلك قال: … لا …
    وكانت الحصيلة أن يرفض أول طلب قدمه غردون، بعد أ، كان موعوداً بتذليل كل الصعاب التي تواجهه، قد أحدث تأثيراً سيئاً لديه، ولمعالجة ذلك فقد أسرّ له السير أفلن بيرنج بأنه إذا أحس بأن تطور الأمور يقتضي وجود الزبير في السودان، فإنه سيعمل المستحيل لإقناع بريطانيا.
    في ليلة مغادرته القاهرة إلى الخرطوم، كتب غردون إلى بيرنج "لا أستطيع أن أفسر بدقة سر شعوري هذا نحوه، ولا لماذا أومن بأن ذهابه معي كفيل بتسوية مسألة السودان لمصلحة حكومتي صاحب الجلالة ومصر، وإني على استعداد لتحمل مسئولية هذا التوجه".
    * * *
    بعد وصوله السودان، وبعد أن بدأ يتحسس طبيعة المشكلة، ازداد غردون اقتناعا بضرورة وجود الزبير، فالرجال الذين رآهم حوله ليس فيهم من هو مثل الزبير، ومرّ بذهنه خاطر هو أن الزبير نفسه لا بد أن تكون السنوات العشر التي قضاها في مصر في بيئة متحضرة نسبياً قد عدلت في سلوكه وأخلاقه.
    وكتب بيرنج رسالة إلى حكومته ضمنها اقتراحا مفصلاً، رأى أن تعين بريطانيا الزبير حكمداراً أو رئيساً على السودان، وأن يكون مدعوماً بسندها المعنوي دون أن تكون مسئولة مسئولية مباشرة عن إدارة السودان، وبالنسبة لأي تساؤل عن احتمال انغماس الزبير في تجارة الرقيق مرة أخرى فإن ذلك يمكن أن يحد بوضع منابع النيل، مديريتي الاستوائية وبحر الغزال تحت إدارته الشخصية عندما يكون حاكماً للكنغو نيابة عن ملك بلجيكا.
    وبالرغم من معارضته لإرسال الزبير للسودان فإن بيرنج استجاب لاقتراح غردون وتفهم حججه، ورغم أن طبيعة بيرنج لا تميل للمجازفة، ويفضل دائماً المواقف المحسوبة سلفاً، فإنه قرر أن يجازف هذه المرة، فالوضع في السودان يبدو وكأنه يسير في اتجاه واحد لا خيار فيه، أنه إن لم يذهب الزبير فإن سيطرة المهدي تلوح في الأفق قدراً لا مفر منه، الخيار حقيقةً كان بين الزبير والمهدي، بين رجل يعرفونه ورجل يعرفونه، بين رجل محسوب على خانة الأصدقاء ورجل محسوب في خانة الأعداء، وقد لخص هذا الموقف الصعب الكاتب والسياسي البريطاني السير ونستون تشرشل بقوله "كان الزبير وغداً، ولكن لم يكن ثمة مفر منه"، وبذلك أعطى بيرنج تأييده بإرسال الزبير ليخلي غردون السودان، وأبرق بذلك إلى لندن.
    في 26 فبراير 1884م تسلم بيرنج رد الحكومة البريطانية على اقتراح إرسال الزبير إلى السودان، تقول البرقية "على أي حال فإن الرأي العام البريطاني لن يبتلع فكرة تعيين الزبير"، وفي البرقية التي أرسل فيها رد الحكومة البريطانية سأل غردون إن كان يقترح اسما آخر غير الزبير، ولكن غردون اعتبر أن رفض إرسال الزبير هو هدم لأحسن خططه لمستقبل السودان، كان عليه أن يعيد خلط أوراقه وتنظيمها من جديد، وبالنسبة للجزء الثاني من البرقية رد غردون بأنه لا يقترح أحداً.
    ويعتقد ثيوبولد أن يوم الجمعة 26 فبراير هو نقطة التحول في مهمة الجنرال غردون في السودان، فبينما بدأت تذوى فكرة (الإخلاء) ظهرت في الأفق البعيد فكرة (المواجهة).
    هذا اليوم هو اليوم الذي بدأ فيه غردون يردد كلمات مثل (سحق المهدي) و(الزحف على كردفان) وما شابهها، وهي النغمة التي عقدت الأمور في الشهور التالية.
    ويظهر الفرق بين نمطي التفكير عند الرجلين: فبينما اعتبر غردون أن رفض حكومة الأحرار البريطانية لاقتراحه بإرسال الزبير إلى السودان (نهاية العالم) فإن بيرنج على العكس لم يكن يرى في رد الحكومة البريطانية بتاً نهائياً في مسألة الزبير، لذلك كتب مرة أخرى لحكومته بأن الزبير من بين الحلول، هو أنسب إنسان يمكن أن يخلف غردون، بل وأضاف ما يراه من بعض التفاصيل الجديدة، فاقترح أن ترصد ميزانية خاصة لمساعدة الزبير في الإدارة لمدة خمسة أعوام، على أن يعتمد ذلك على مدى مسئولية الزبير وتفهمه للأمر.
    وحتى يقنع بيرنج طبيعته المحافظة التي لا تتحمل المغامرات، أبرق لإستيورت يسأله إن كان مقتنعاً بالفكرة، وكان إستيورت مقتنعاً سلفاً بالفكرة، فرد في حماس بتأييد إرسال الزبير وبالسرعة المعقولة.
    وللمرة الثالثة، وعلى ضوء استشارة إستيورت أبرق بيرنج إلى لندن يحثها على الموافقة، إلاّ أن كل تلك المحاولات لم تنجح في تغيير مفهوم لندن عن الزبير، كان ردها في 5 مارس أنها "لا ترى سبباً جديداً يدعو لتغيير رأيها في الزبير".
    بعد أيام وللمرة الرابعة أبرق بيرنج إلى لندن يحثها على أن ترد بإيجاب، ولكن صدور مثل ذلك القرار في بلد مثل بريطانيا كان من الصعوبة بمكان، لأن الرأي العام البريطاني ما كان مهيئاً لأن (يبتلعه)، كما قال اللورد جرانفيل، وكان رئيس الوزراء سالسبري قد بدأ يقتنع، وبدأ يهيئ نفسه للمخاطرة بتجربة الزبير، فأبلغ الملكة فكتوريا، وأيدت الملكة فكتوريا، ربما من أجل غردون فقط، هذا ما دفع اللورد جرانفيل لإبراق بيرنج بأن الحكومة البريطانية لن تغير رأيها إلاّ إذا خفت الضغوط الشعبية عليها.
    وبينما المساعي تبذل لتليين موقف الحكومة البريطانية وتهيئة الجو لتقبل مثل ذلك القرار .. انفجر الموقف دفعة واحدة في لندن، فقد تدخلت الصحافة التي (بلعت) من قبل إباحة غردون لتجارة الرقيق في فبراير عند وصوله الخرطوم وهو يستعرض أسلحته لمجابهة المهدي.
    القصة بدأت في الخرطوم، كان غردون قد يئس من أن تعدل الحكومة البريطانية موقفها، فاستدعى القنصل البريطاني في الخرطوم س. باور، وهو في نفس الوقت مراسل صحيفة (التايمز)، وعرض عليه صورة الموقف كله، ومراحل نقاش قضية الزبير في القاهرة ولندن، واستطاع أن يقنع المراسل بأهمية الاستعانة بقدرات الزبير.
    بعد ساعات نشر التقرير في لندن ومعه نداء الجنرال غردون بالموافقة على إرسال الزبير، ثم مقال المراسل المؤيد للاقتراح.
    ولكن كان للصحيفة رأي آخر، وبمساعدة صحيفة (بالمال غازيت)، وبعض الصحف المؤثرة قادت المعارضة حملة مركزة ضد تعيين الزبير حكمداراً للسودان، وتبرع الجميع بإضفاء أقذع الأوصاف عليه، فوصف بأنه أكبر تاجر رقيق في السودان … وبالغ أحدهم فوصفه بأنه أعظم صائد للعبيد ظهر في الوجود، وقالت جمعية مكافحة الرق أن استخدام الزبير في السودان "مهانة لإنجلترا وفضيحة لأوروبا"، وانتقلت الحملة من الشارع إلى البرلمان، وتلقف حزب المحافظين المعارض القضية، كان من الواضح أن حكومة جلادستون قد حشرت في الزاوية الضيقة حتى قال أحدهم "لو أن جلادستون دعا لتبني إجازة البغاء في إنجلترا لما كان موقفه أكثر حرجاً".
    وسط هذا الجو المعقد والمتفجر اجتمع مجلس الوزراء البريطاني ليتخذ قراراً نهائياً في مسألة الزبير … ورغم الجو الملبد كان المجلس منقسماً والأصوات متساوية، في كفة كان الرأي المحبذ مدعوماً بغردون وبيرنج وستيوارت وحكومة مصر وكل من كان في ميدان المعركة ويعرف طبيعة المشكلة وحقيقة أبعادها.
    وفي الكفة الأخرى كانت المخاوف الماثلة من شخصية الزبير والخوف من أن يستغل إنفراده بغردون في السودان ويأخذ بثأره القديم، بجانب أنه قد يبني قوة عسكرية في السودان تشكل خطراً على أمن مصر أكثر مما يشكله المهدي حالياً، ذلك بالإضافة إلى هاجس اتساع فرص تجارة الرقيق التي تعتبر الحكومة والشعب البريطاني الزبير مسئولا عن رواجها في السودان في السنوات السابقة.
    هذا الرأي كان يمثل المعارضة القوية التي نظمها حزب المحافظين مدعومة بغالبية الرأي العام الذي تولت الصحافة إثارته.
    ولذلك فقد اعتبرت الحكومة أن موافقتها على القرار كان من المشكوك فيه أن تمر في برلمان كان إرضاء الرأي العام يشكل أحد همومه الرئيسية.
    وفي 16 مارس 1884م قال مجلس الوزراء: لا لإرسال الزبير للسودان.
    ويعلق ثيوبولد على تلك المعركة بقوله "رغم أن الإنسان يتعاطف مع غردون إلاّ أن تعيين الزبير كان مغامرة لا شك فيها، ولكنها كانت مغامرة ذكية، وهي مهما كانت تبدو البديل الوحيد لسيادة المهدي المطلقة على السودان".
    * * *
    السؤال الذي ارتفع بينما المعارك تدور حول اسم الزبير باشا هو: ما هو موقف الزبير شخصياً؟
    في الواقع كاد أن ينطبق على الزبير في هذا الموقف قول أبي الطيب:
    أنام ملء جفوني عن شواردها
    ويسهر الخلق جراها ويختصم
    ما هي حقيقة موقفه؟
    هنا نفرق بين موقفين، بين رأيه في المهدي والمهدية الذي أعلنه في تصريحاته آنذاك أو في مذكراته التي دونت ونشرت فيما بعد، وهو موقف الخصومة والرفض للمهدية، وبين رأيه في الذهاب للسودان ومصارعة المهدي، وهذا ما لم تعرف حقيقته، فهو كان في مصر، أي تحت قبضة الخديوي، ومن هذا الموقع كان الشئ الوحيد المسموح به هو أن يقول سمعاً وطاعة لكل تكليف خديوي.
    ولكن المرجح أنه كان سيقبل بالتكليف لأنه لو كان ينوي الرفض لأعتذر رسمياً، ولكان بالتالي أراح الناس من هذه المعارك التي تدور حول اسمه.
    إذن ..
    لو قبل الزبير باشا التكليف ونصب حاكماً على السودان هل كان سيضع نفسه أداة بلا ثمن في يد الخديوي؟
    وهل كان مثل هذا التوجه يتناسب مع طبيعة شخصيته؟
    أم كان سيتفهم موقف الإمام المهدي وثورته ويشكل معه نوعاً من التحالف؟
    أم أنه كان سيحاربه ولحساب طموحه الشخصي؟
    وإذا حاربه هل كان ذلك سيغير وجه السودان كثيراً عما حدث؟
    والواقع أن السؤال الأهم قبل ذلك هو: هل يستطيع التاريخ أن يجيب على أسئلة تكمن إجاباتها في ضمير الغيب؟
    ورغم هذا الاعتراض التاريخي فإن الأسئلة حول ما كان يحدث في السودان يومها تتزاحم بقوة.
    مثلاً ..
    إذا تساقطت كل الموانع ووجد الزبير باشا نفسه وجهاً لوجه أمام الإمام المهدي .. من كان سيكسب الجولة؟
    هل كانت شخصية الزبير القوية المتمرسة على القتال العارفة بطبيعة السودان وأهله، تستطيع مواجهة ثورة كالثورة المهدية لها من الأسباب القوية ما يجعلها تكتسح كل معارضة؟
    هل كان الزبير تقديم بديل روحي لما قدمه المهدي؟
    هل كان يستطيع امتصاص الغضب على قهر الأتراك وظلمهم وقسوتهم؟
    هل كانت شخصيته في قوة شخصية الإمام المهدي الجذابة الساحرة إذا وضعت الشخصيتان في ميزان المقابلة؟
    كذلك ..
    إذا نجح الزبير في إثبات قوته في مجال إيجابي هو بناء المؤسسات التي صاغ فيها طموحه الخاص … هل كان سينجح إذا وجه قوته إلى المجال السلبي بالسباحة ضد تيار الثورة الوطنية؟
    هذه كلها أسئلة إجاباتها في رحم المجهول، والتاريخ لا يتحدث عما سيكون أو عما كان يمكن أن يكون، ولذلك فالتاريخ لا يكون تاريخاً إذا دخل ميدان التنبؤ بالغيب واستطلاع المستقبل.
    فضلاً عن أن هذا الذي أكتب هو رسم لوحة لبقعة من المكان والزمان، بظلالها وألوانها وضبابها ورموزها وخلفياتها .. ليس أكثر ..


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) أكبر أحفاد سلاطين الفور السابقين وكان مقيماً في مصر.
    (2) زعيم قبيلة العبابدة ومن الإداريين السودانيين المعروفين في التركية السابقة.
    (3) ثيوبولد، المهدية، ص 97.
                  

01-28-2004, 09:10 PM

Osman Hamad
<aOsman Hamad
تاريخ التسجيل: 11-19-2003
مجموع المشاركات: 476

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    ودشاموق
    انتهز هذة الفرصة واقول ليك اتمنى ان تكون وصلت بالسلامة...وحقيقة الواحد حاسدك كونو انك فى السودان
                  

01-28-2004, 09:19 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: Osman Hamad)

    الله يسلمك يا عثمان وانشاء الله القابلة معانا بي جاي

    وسنواصل بقية التراجيديا غداً (بحول الله) - بحول الله كما يحبها مدني - سنكمل غداً غداً .............


    .
                  

01-29-2004, 10:50 AM

ahmed saeed
<aahmed saeed
تاريخ التسجيل: 11-24-2003
مجموع المشاركات: 662

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    الاخ ود شاموق

    تحياتى واشواقى لك

    ده حالتو يوم واحد الله يديك العافية


    حمدا للم على السلامة
                  

02-04-2004, 12:26 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    الصديق الأول
    يوشك الدارس أن ينكر بعض حوادث التاريخ المادية حتى لا يدخل في متاهات ذلك الجو الصوفي الذي تختلط فيه الحقيقة بالخيال والوقائع بالآمال، وهو جو وجّه مسيرة تلك الفترة، ولوّن أحداثها بلون عاطفي مثير لم يترك الفرصة لأحد في السودان ليقف إزاءها متفرجاً.
    في هذا الجو التقى الصديقان محمد أحمد بن عبد الله (المهدي) وعبد الله بن السيد محمد آدم تورشين الذي أشتهر فيما بعد بالخليفة عبد الله، فقد أصبحت صداقتهما شيئاً كالقدر، ينزل هكذا فجأة فلا يملك الإنسان منه مفراً.
    الشيخ محمد أحمد كان أشبه بإنسان يبحث عن شئ مخبوء بظهر الغيب، شئ مجرد وغير محسوس وغير محدد المعالم، كان يبحث عن فكرة أو صيغة تربط بين آماله الدينية الإصلاحية وبين طموحاته الوطنية الثورية، ولذلك اتجه إلى الأعماق، يوص في النفس، يبحث عن أساس لفكرته، وعن وعاء تنظيمي يفرغها فيه.
    وعبد الله من جانب آخر كان يبحث عن رجل في ضمير الغيب، لكنه ما كان يستطيع أن يحدد معالم ذلك الرجل.
    الشيخ محمد أحمد كان يبحث عن فكرة المهدية، وعبد الله كان يبحث عن رجل تتمثل فيه فكرة المهدية.
    كانت بلورة الفكرة ترتبط بالعلم ودور العلم، ولذلك ظل محمد أحمد يتجول الشطر الأكبر من عمره بين دور العلم والمعرفة، خلاوى القرآن الكريم، حتى عثر على ضالته، بينما البحث عن الشخص كان يتطلب التفرس في الأفراد، وفحصهم خُلقاً وخَلقاً، حتى عثر في ضالته على ما يخفى من علامات المهدية، ولذلك فقد كرس عبد الله عمره بالتجول والتفرس في الأشخاص.
    وهكذا قدر للرجلين الذين لم تربط بينهما بيئة المولد ولا تشابه الشخصيات أن يلتقيا في صداقة قدرية، وأن يلتحما كما يلتحم السالب والموجب بقوة التكامل.
    * * *
    إذا حاولنا أن نعود القهقرى إلى أصول محمد أحمد بن عبد الله سنعود مئات السنين إلى الوراء لنتابع الوجود الصوفي في السودان من مبدئه، فدخول الإسلام للسودان تم ببطء شدد من خلال هجرات صغيرة الحجم توالت مئات السنين، عبر بوابات ثلاث: عبر باب المندب من جنوب الجزيرة العربية إلى الحبشة (إثيوبيا)، منشراً في سهول السودان الوسطى، وعبر مصر ممتطياً نهر النيل جنوباً إلى شمال السودان ووسطه، وعبر طرق الصحراء الكبرى من شمال أفريقيا إلى غرب وأواسط السودان.
    لقد دخل العرب السودان إما عن طريق الرحلات الفردية بحثاً عن المراعي والتجارة، أو عن طريق هجرات أكبر هرباً من الاضطهاد السياسي الذي يصاحب سقوط الدول وقيامها، والإسلام الذي دخل في تلك الفترات كان إسلام الشهادة والشعائر العامة مع تفشي الجهل بأصول الدين وعلومه خاصة عندما تتباعد المسافات والأزمان بين أولئك المسلمين المعزولين في الصحارى والسهول، وبين حواضر الإسلام حيث تزدهر علوم الدين.
    أما الدخول الثاني للإسلام فقد تم عبر الطرق الصوفية، وقد أحدثت هذه الطرق تجديداً عاماً وأوجدت مناخاً روحياً ساعد على نشر الدين بين قطاعات كبيرة من الوثنيين، وانتشرت من هذه الطرق خلاوى الدرس وحلقات الذكر والمساجد.
    إن آلاف القباب التي تنتشر في السودان تنبه إلى أصالة هذا الأثر، وإن الناس وحتى العامة منهم يتحدثون عن شيوخ الصوفية المحليين كالشيخ حسن ود حسونة، والشيخ إدريس ود الأرباب، والشيخ تاج الدين البهاري، والسيد محمد عثمان الختم، والسيد الحسن الميرغني، والشيخ ود بدر، كأنما يتحدثون عن أشخاص قائمين يحيون بينهم.
    ومع الصوفية دخل الإصلاح الإسلامي والفقه وسائر علوم الدين، وإذا كان العلماء الوافدين من الأزهر والحجاز قد ساعدوا في بث هذا التنوير الديني عامة، إلاّ أنه ينبغي أن نعلم أن أثرهم كان ضعيفاً نسبياً إذا ما قورن بأثر رجال الصوفية، ذلك لأن الفقه يقوم على الدراسة العقلانية الموضوعية والفهم، وفي مجتمع متخلف تتفشى فيه الأمية والجهل كمجتمع السودان آنذاك، يعظم أثر الذي يخاطب في الناس عواطفهم ويستثير مشاعرهم، وكان ذلك هو دور الصوفية.
    ولقد شهد عصر التنوير الإسلامي في السودان طوال فترة حكم الفونج نفوذاً واسعاً للصوفية، إذ كانوا منارات للعلم وأمان للخائفين من بطش الحكام، ولكن بمرور السنين بدأت مؤسسات الصوفية تضعف، لم تضعف فيها قوة التأثير لأنها ظلت تهيمن على روح الشعب بأثر الماضي، ولكن ضعفت فيها القيمة الحضارية وتضاءلت، وانشغل رجالها برواية الكرامات وذكر مآثر زعمائهم، وانشغل بعض الزعماء بصراعات مع زعماء آخرين حتى شبهها أحد الدارسين (1) بما كان يجري من حروب وصراعات بين القبائل العربية في جاهليتها، مع تغيير في ميدان الصراع ونوعيته وأدواته.
    * * *
    في هذا الجو الصوفي المشبع ولد محمد أحمد بن عبد الله عام 1843م (1258هـ)، في جزيرة ضرار بمنطقة أرقو في شمل السودان، ويطلق على هذه الجزيرة اسم آخر هو (جزيرة الأشراف)، وكلمة (الأشراف) تطلق عادة على أولئك الذين ينحدرون من الشجرة النبوية الشريفة، ولكن أشراف جزيرة ضرار أخذوا اسمهم من جد اسمه حاج شريف طال عمره وأشتهر بالتقوى والصلاح.
    ويبدو أن خصوم المهدي من العلماء، فيما بعد، أرادوا أن يشككوا في انتسابه للدوحة النبوية فأوقفوا نسبه عند هذا الجد، الحاج شريف ومنه استمدوا كلمة الأشراف.
    ولكن نُساب العائلة يؤكدون هذا الانتماء إلى الشجرة النبوية الكريمة بإيصال نسبهم إلى الجد الخامس عشر واسمه نجم الدين، وهو في نفس الوقت جد الكنوز، هذا الجد يصل نسبه إلى بيت النبوة.
    ووصول نسب المهدي إلى بيت النبوة مهم جداً في الفكر الصوفي، لأن الكتب الصوفية التي تناولت أمر المهدية وحددت صفات المهدي، ادعت أن المهدي المنتظر ينحدر من الشجرة النبوية المطهرة، وقالت أنه يشبه النبي عليه الصلاة والسلام في اسمه واسم أبيه واسم أمه، وقد أكد الشيخ محمد أحمد ذلك تأكيداً شديداً، فقال في إحدى منشوراته في أوائل المهدية أن أباه (حسني) من جهة أبيه وأمه، وأن أمه (حسنيه) من جهة أمها و(عباسية) من جهة أبيها.
    كان أبوه يدعى عبد الله وأمه زينب، ومن هذين الأبوين جاء محمد أحمد الابن الرابع من بين خمسة أبناء، وهو آخر من ولد في حياة أبيه، وولد الابن الخامس بعد موت الأب.
    امتهن الأب النجارة، حيث عمل في صناعة السواقي والمراكب، وكان ماهراً في حرفته، وورث الأبناء المهنة باستثناء محمد أحمد الذي مال منذ صغره إلى تلقي العلم، ومن حسن حظه أن إخوانه الكبار كانوا على شئ من سعة الأفق بحيث أتاحوا له فرصة التجول بين الخلاوي، وهكذا قضى منذ صغره حياة متنقلة في أنحاء السودان صاعداً من مرحلة تعليمية إلى أخرى، فحفظ القرآن الكريم عن ظهر قلب في خلوتي كرري والخرطوم، وفيهما تعلم القراءة والكتابة، وقضى فترة في مسجد ود عيسى بالجزيرة حيث تلقى علم الفقه على يد الشيخ الأمين الصويلح.
    في هذه الفترة كان لخلاوي الغبش في منطقة بربر سمعة علمية ضربت في آفاق السودان البعيدة، فشدّ الفتى رحاله إلى الشيخ محمد الخير في بربر، وهناك تلقى مزيداً من الفقه، وشئ من النحو والتوحيد ومبادئ التصوف، وفي بربر بدأت شخصيته الخاصة وسلوكه المتفرد في الظهور، إذ أشتهر بين أقرانه بالتقوى والورع، وكان عابداً متبتلاً زاهداً، وعرفت بين أقرانه قصة رفضه لتناول الطعام الذي يقدمه له شيخه لأنه يأتي من الحكومة، وكان يرى أن الحكومة تنتزع هذا الطعام في شكل ضرائب تؤخذ قهراً من المواطنين، فكان يأكل من عمل يده.
    وتطور الزهد إلى التصوف وانتقل من علوم النقل إلى علوم العقل، كما قال أحد تلاميذه فيما بعد، وكما بلغت خلاوي الغبش في بربر أقصى الشأو في علوم النقل، كذلك بلغت الطريقة السمانية تحت قيادة الأستاذ محمد شريف نور الدائم أقصى الصيت في مجال التصوف، وتدافع إليها المريدين والمحبون، وكان من بين الذين حطوا رحالهم في قرية أم مرّح هذا الشاب وهو لم يتجاوز الثامنة عشر.
    كان ذلك في عام 1861م.
    تقع قرية أم مرّح في الأرياف التي حول الخرطوم من جهة الجنوب، وتمتد هذه الأرياف من جهة الجنوب أيضاً لتتوغل في سهول الجزيرة التي تعج بمئات الخلاوي والمساجد والتكايا، واشتهر فيها عدد من الشيوخ وزعماء الطرق الصوفية مثل آل المكاشفي في قرية الشكينيبة في منطقة سنار، وجماعة الطريقة السمانية بجناحيها تحت قيادة الشيخ محمد شريف نور الدائم والشيخ القرشي ود الزين.
    والطريقة السمانية التي جذبت هذا الفتى بصفة خاصة كانت لا تزال تحتفظ بنضارتها الأولى، أسسها في السودان الشيخ محمد الطيب البشير الذي يعرف اختصارا باسم (الشيخ الطيب)، أو (راجل أم مرّح)، وقد تتلمذ هذا الشيخ على شيخ من شيوخ الطريقة في المدينة المنورة ثم سافر إلى السودان حيث غرس بذورها، وتوفى عام 1834م، وآلت رئاسة الطريقة بعد حوالي ربع قرن من وفاته إلى حفيدة الشيخ محمد شريف نور الدائم الذي عرف بقوة شخصيته وحيويته التي انتزع بها زعامة الطرق الصوفية في السودان.
    لهذه الأسباب ذهب محمد أحمد إلى أم مرّح وهو بعد فتى يافعاً، وهناك أظهر تفرداً في الشخصية وتميزاً في العبادة والسلوك، وزهداً وتقشفاً، وأذل نفسه أمام شيخه بصورة لم تعهد من قبل، وتلك من علامات الصلاح في الصوفية، ومال الشيخ إلى الفتى الراغب المطيع وأحبه، وأعطاه الطريق وأذن له في تسليك من يشاء في الطريقة السمانية، وعاد الشيخ محمد أحمد إلى أهله في الخرطوم، وتزوج من ابنة عمه، ومكث معهم قليلاً ثم أقنعهم بالسفر إلى الجزيرة أبا، فنقلت الأسرة نشاطها الصناعي إلى (بحر أبيض) في عام 1871م (1286هـ) حيث استمرت في صناعة بناء المراكب النيلية.
    لقد كانت الجزيرة أبا المكان المناسب له ولإخوته، فهي منطقة مشجرة، ولن يعاني هؤلاء الصناع من اختناقات المواد الخام فيها، ومن المعروف في تلك الآونة أن (بحر أبيض) كان أهم شريان تجاري يربط الشمال والوسط بالجنوب، وكانت الحركة فيه مزدهرة، أما الشيخ محمد أحمد فإنه استقر قرب أستاذه في منطقة عامرة بالسكان وطالبي العلم، وفي الجزيرة أبا بنى مسجداً وخلوة واجتمع إليه الراغبون من أهل الجزيرة والقريبين من عرب البادية من قبائل دغيم وكنانة، وكان من التحق به في تلك الفترة فتى هادئ الطبع لين العريكة، يحفظ القرآن الكريم، فأختاره شيخاً لخلوته.
    هذا الفتى هو الشيخ علي ود حلو الذي أصبح فيما بعد خليفة المهدي الثاني.
    * * *
    أخذ محمد أحمد يقوم بجولات قصيرة في القرى المجاورة يطوف بالخلاوي، ويلتقي برجال الطرق، وقد أوضحت له هذه الجولات بصورة جلية حجم التدهور الديني والخلقي والاجتماعي الذي تفشى في البلاد، وظهر له أن معظم رجال الصوفية وشيوخ الخلاوي يشاركون في هذا التدهور إن لم يكن مشاركة إيجابية فعلى الأقل بصمتهم عن الفساد الذي تقوده الدولة، وكيف لا يصمتون وأغلبهم يأخذ المساعدات من أموال الحكومة التي تنتزع من الشعب البائس في شكل ضرائب، والذين لا يأخذون ينتظرون دورهم في العطاء.
    كانت جوارح الشيخ محمد أحمد تلتقط هذه المثالب وتجمعها وتنظمها لتخلق منها صورة متكاملة لفساد استشرى ولم يعد يفيد فيه الإصلاح الجزئي، وإنما ينبغي أن يقتلع من جذوره، والذي يظهر من متناثر الحوادث أن تلك الجولات هي التي رسمت له أبعاد الدور الثوري المستقبلي.
    وبدأ يستعد دينياً وتنظيمياً.
    دينياً أخذ نفسه بالشدة والمجاهدة، وتنظيمياً بتوسيع رقعة المريدين، وحفر غاراً تحت الأرض مع بعض تلاميذه ليتفرغ للعبادة، وأزداد تقشفه وزهده، وقويت حاسته النقدية الإصلاحية، وأنكب على القراءة والإطلاع، فقرأ للإمام الغزالي والشيخ أحمد بن إدريس والشيخ محي الدين بن عربي، وقرأ تفسير الجلالين، وهو تفسير مختصر للقرآن الكريم، ولعل هذا الحصر الذي اكتفى به بعض الدارسين لمراجع ثقافة الإمام المهدي هو أقل القليل، فالمتصفح لمنشورات الإمام المهدي يتضح له عمق ثقافته الدينية وسعة إطلاعه في مختلف فروعها.
    وظلت حاسة النقد عند محمد أحمد متقدة، ذلك لأن الحق أبلج، وأن الحلال بيّنٌ والحرام بيّنٌ، وكان الشيخ صارماً في مسألة إحقاق الحق وإظهار النصح به حتى ولو كان المخالف للحق أستاذه.
    ومن هنا تفجرت بينه وبين أستاذه الشيخ محمد شريف نور الدائم قضية تعتبر أحد القضايا الأساسية في تاريخ المهدية، لما تفرع عنها من مسائل.
    كان ذلك في عام 1877م، وكان عمر الشيخ محمد أحمد قد بلغ الرابعة والثلاثين، فقد اعتاد التلميذ أن يزور أستاذه في بعض المناسبات والأعياد دليلاً على الخضوع والطاعة والتبعية والمحبة، وفي ذلك العام كان الشيخ نور الدائم يحتفل بختان أولاده، ورأى التلميذ في الحفل بعض مظاهر الخروج على الدين كدق الدفوف والغناء والرقص الذي تؤديه النساء بلا احتشام في حضرة الشيخ.
    والسؤال الذي اعترضنا هنا هو: هل ظهر الانحراف عن الدين عند الأستاذ فجأة، أم أن التلميذ كان يسجل بعض ملاحظاته حول سلوك الشيخ منذ فترة بعيدة؟.
    يبدوا أن محمد أحمد كان يلاحظ بعض الأشياء التي ينكرها على شيخه منذ أمد بعيد، على سبيل المثال كان يرى أن النساء الأجنبيات شرعاً كن يقبلن يد الشيخ، وكان يلاحظ بعض الأعراض الأخرى، وكان يسكت، وربما يفسر ابتعاده عن الشيخ في الجزيرة أبا لعدم رغبته في الاصطدام به، وبمضي الأيام وتكرار الأخطاء يحس التلميذ أنه غير قادر على السكوت على أخطاء ترتكب عمداً وقصداً، فكان عندما يرى شيئاً ينبه شيخه بهدوء، أو يلفت نظرة عن طريق أحد تلاميذه المقربين، إلاّ أن الذي أثاره حقاً هو تغافل الشيخ عن العمل بمقتضى نصائحه، وفي المقابل ظل الشيخ يتململ من تطاول التلميذ، وبدأ يفقد صبره، حتى انفجر غضبه على ذلك التلميذ اللحوح الذي يريد فرض شخصيته على الجميع بما في ذلك شيخ الطريقة.
    هذه الرواية في جملتها رواية تلاميذ محمد أحمد لخبر الطلاق البيّن بين الأستاذ والتلميذ، ولكن للمسألة وجه آخر، كما في كل خصومة، ويرويه الطرف الآخر، فقد ضمّن الشيخ محمد شريف نور الدائم ذلك الوجه الآخر في رائية طويلة في نحو خمسمائة وثلاثين بيتاً يحكي فيها كل تجربته مع محمد أحمد، هذا التلميذ الذي جاءه فتى يافعاً، ومكث عنده نحو سبعة عشر عاماً عبر فيها بحور الصوفية حتى أوصله إلى البر شيخاً سالكا.
    كتبت القصيدة في عام 1882م، في ذلك العام كانت مديرية كردفان عبارة عن بحر متلاطم من الأنصار ليس للحكومة غير جزيرتين معزولتين هما مدينتي الأبيض وبارة، بل لم يتوقف الأمر على كردفان البعيدة عن الخرطوم، وإنما زحفت الثورة إلى الجزيرة حيث أشعلها الشيخ عامر المكاشفي في منطقة سنار واكتسح المدينة، وتبعه الشريف أحمد ود طه في منطقة أبي حراز ورفاعة، والفقيه محمد زين في عربان رفاعة الهوى، وفي نفس المنطقة قام ود الصليحابي وود برجوب، وقاد عبد الباسط ود الجمري رجال السمانية في منطقة الدويم، وفضل الله ود كريف في غرب الجزيرة.
    ورأت الحكومة المصرية، وقد استبدت الحيرة برجالها في السودان، أن تعجم كنانتها وتخرج خيرة من فيها من الرجال، فجاءت بالحكمدار عبد القادر باشا حلمي، ولم يضع عبد القادر وقته سدى، وإنما أمسك بزمام الموقف منذ اللحظة الأولى، فقرر أن يعالج مسألة المهدية معالجة شاملة، يكون علاج الجانب العسكري فيها مساوياً لعلاج الجوانب الأخرى، وقام بحملة إعلامية ضخمة استكتب فيها العلماء والفقهاء، وكان ممن استجاب لهذه الحملة مشاركاً الشيخ محمد شريف نور الدائم برائيته الطويلة.
    ولكن المناسبة التي كتبت فيها القصيدة لا تقلل من أهميتها في تحديد أبعاد الصراع بين الرجلين، ذلك أن الأستاذ كان يعرف تلميذه معرفة حقيقية، وهذه المعرفة تنبع من المعاشرة، وهي أصدق أنواع المعرفة، وبالتالي فإن الحكم الذي يصدر من الأستاذ على تلميذه حكم له وزن الحكم القائم على الدراية والاختبار لا على التخمين والهوى .. أو هذا على الأقل ما حاول الشيخ نور الدائم أن يوحي به.
    في بداية عرضه للمشكلة بينه وبين محمد أحمد، يصف الأستاذ حال تلميذه حينما جاءه (يروم الصراط المستقيم) فبايعه على الأمر والنهي، فحزم محمد أمره سائراً على (نهج الهداية)، وقد (لازم الأذكار في السر والجهر).
    وتمضي القصيدة تصف محمد أحمد وتصف إخلاصه :
    أقام لدينا خادماً كل خدمة
    تعز على أهل التواضع في السر
    كطحن وعوس واحتطاب وغيره
    ويعطي عطا من لا يخاف من الفقر
    وكم صام، كم صلى، وكم قام، كم تلى
    من الله ما زالت مدامعه تجري
    وكم بوضوء الليل كبر للضحى
    وكم ختم القرآن في سنة الوتر
    لهذه الأسباب، يقول الشيخ نور الدائم، كان محمد أحمد محبوبا عند كل من خالطه، أحبه زملاءه من التلاميذ، وأحبه أستاذه وجعله شيخاً، وأعطاه راية، وأذن له في الذهاب حيث شاء لإعطاء العهود وتسليك الطريق، ولكن بعد هذا كله بدأ الانحراف، فهو انحراف إلى الشر وعلى علم.
    ذلك كان عام 1877م (1294هـ).
    وتستمر القصيدة تصف باقي المشهد، محمد أحمد يدعو أستاذه لمناصرته، ويتعهد له بكرسي الوزارة، بينما يحتفظ لنفسه بكرسي الرئاسة، الأستاذ يرفض العرض وينصح تلميذه بالرجوع عن دعواه، التلميذ يصمم عل السير في طريقه بلا رجعه، فيقطع الأستاذ كل ما يربطه بالتلميذ، ثم يتصل بالحكومة محرضاً على محمد أحمد: القبض عليه أو القضاء عليه قبل أن يستفحل أمره.
    فقال أنا المهدي قلت له أستقم
    فهذا مقام في الطريق لمن يدري
    وخادعني في القول كالمهدي ابنكم
    ومحسوبكم في القول في عالم الذر
    فقم بي لنصر الدين نقهر من عصى
    فأنت لك الكرسي ولي دول الغير
    فقلت له دع ما نويت فإنه
    عطا الله شراً قد يجر إلى الخسر
    وقال له الشيطان بشر ولا تخف
    فإنك منصور على البر والبحر
    فقال أنا كالماء في الطبع بارد
    ولا يسخنن كالنار في الحر
    وإن يستخفوا بي وإن يقتلونني
    فقبلي علي والحسين ولي أمري
    ومن ذلك النادي أبى وأبيته
    وأفتيت فيه بالضلال وبالكفر
    وإني أذنت الجيش أن يضربوه إن
    أتاهم بما يهواه من واضح النكر
    وكنت نصحت القيمقام (2) بحسبه
    فما جاءني غير دع صاحب الخضر
    * * *
    هذه الصيغة من رواية خبر العلاقة بين الشيخ نور الدائم وتلميذه محمد أحمد تطرح تساؤلاً كبيراً وهو، هل بدأ محمد أحمد يبشر بدعوته في ذلك التاريخ المبكر؟.
    هذا القول لم يقل به إلاّ الشيخ نور الدائم، وفي ظني أنه غير مرجح، وأغلب الدارسين على أن محمد أحمد بدأ يبث دعوته سراً بعد ذلك بنحو أربعة أعوام أي في عام 1881م، وهذا الترجيح يؤيده حدث هام وهو أن محمد أحمد بعد أن بلغ مرتبة المهدية في تسلسل درجات الصوفية لم يكن في حاجة لأن يتتلمذ على شيخ جديد، وهو ما فعله عندما اتجه للشيخ القرشي كبديل للشيخ محمد شريف نور الدائم، إذ أن رتبة المهدي هي أعلى رتب الصوفية.
    مهما يكن من شئ فقد وقع المحذور، وتدخل بعض وسطاء الخير، وحاول التلميذ أن يعتذر لأستاذه دون أن يبدي تنازلاً معقولاً عن الشبهات التي أثارها حول أستاذه، ورفض الشيخ أن يستجيب، فقد بلغ به الضيق حداً أغلق كل الأبواب وحال دون عودة المياه إلى مجاريها.
    عند هذا الحد طرق محمد أحمد باب فرع آخر للطريقة السمانية كان يقوده الشيخ القرشي ود الزين في منطقة الحلاوين وسط الجزيرة، كان الشيخ القرشي قد أخذ الطريقة عن مؤسسها الشيخ الطيب، ورغم ثبات ولائه لشيخ الطريقة الأول إلاّ أن هذا الولاء لم يكن موجوداً تجاه حفيده الأستاذ محمد شريف نور الدائم، ولذلك عندما لاحق الشيخ نور الدائم تلميذه السابق وطلب من الشيخ القرشي ألا يسمح له بالانضمام لفرع الطريقة وهو منفي من فرعها الأول، لم يستجب الشيخ القرشي، بل رحب بالقادم الجديد ترحيباً حاراً.
    وفي عام 1878م كان محمد أحمد تلميذاً مريداً عند الشيخ القرشي، واستطاع أن يختصر طريق القيادة في شهور معدودة حيث أوصى الشيخ القرشي بأن يخلفه محمد أحمد في قيادة فرع الطريقة عند وفاته.
    كان الشيخ محمد أحمد يقضي الأسابيع والشهور في الجزيرة أبا أو يتجول في الجزيرة المروية، وكان أحياناً يعمل في تجارة الحطب والذرة وبعض محاصيل المنطقة، وكان يطوف على قرى النيل الأبيض يتفقد الخلاوي والمساجد، وفوق هذا كله كان يشرف على خلوته بالجزيرة أبا.
    ولكن هذا النمط من الحياة لم يستمر كثيراً، إذ نقل إليه الوافدون خبر وفاة شيخه القرشي ود الزين، ومن واقع زعامته الجديدة للطائفة كان عليه أن يقوم بواجب التكريم الأخير لشيخه، فقاد التلاميذ والمريدين وبنوا ضريحاً للشيخ.
    وفي الشهور التالية تبلور تصوره الكامل للمهدية.










    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    (1) المرحوم الشاعر محمد محمد علي.
    (2) (القيمقام) يقصد بها (القائمقام) وهي رتبة عسكرية تعادل رتبة عقيد، وكتبت هكذا لضرورة الوزن الشعري.
                  

02-04-2004, 12:30 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    الصديق الثاني
    لم يعرف لقبيلة التعايشة حياة عريضة في تاريخ السودان الحديث، وهي إحدى فصائل البقارة، قبيلة صغيرة قليلة العدد، مستضعفة، أو على الأقل غير مرهوبة الجانب، وقد ألجأها ضغط هجرة القبائل الأكبر والقوى نسبياً للهجرة من شمال وأواسط السودان إلى الهروب غرباً حتى أصبحنا نجدها عندما طرقنا بابها مع التاريخ في الربع الأخير من القرن الماضي، منزوية في ركن قصي من السودان الغربي.
    يرجع اسم التعايشة (ومفردها تعايشي وينطقونها أحياناً تعيشي) إلى جد اسمه أحمد تعايش، وهو أحد أحفاد (حميد) الذي يشاركون الهبانية في الانحدار من صلبه.
    وقد عاشت القبيلة في عزلة وانقطاع تام عن أحداث السودان بسبب انعزال موطنهم، وهم يعيشون في منطقة قليلة السكان في الركن الجنوبي الغربي من دار فور، ولا يفصلهم عن حدود السودان الغربية أي فاصل بشري أو تجمع سكاني آخر، يجاورهم في الشمال بني هلبه، وفي الرق الهبانية، وفي الجنوب دار الفرتيت، بينما يجاورون تشاد من جهة الغرب.
    وظل التعايشة هكذا قبيلة صغيرة العدد قليلة الخطر، حتى دخلوا التاريخ مع صعود نجم الخليفة عبد الله أول خلفاء الإمام المهدي، فاستدعاهم إلى العاصمة أم درمان وشكل منهم حرسه الخاص وملازميه وأمرائه ومستشاريه، واستبدل بشبابهم معظم قادة جيوش المهدية مثل أخيه الأمير يعقوب وابنه الأمير عثمان شيخ الدين، والأمراء حمدان أبو عنجة، وعثمان آدم جانو، ومحمود ود أحمد، وأحمد فضيل، ويونس الدكيم، وغيرهم … وقد أدى صعود نجم التعايشة السريع إلى السلطة، وانتقالهم المفاجئ من حياة البداوة إلى حياة متقدمة نسبياً، وقلة نسبة المتعلمين فيهم، وعدم تمرسهم بشؤون الحكم والإدارة … أدى كل ذلك إلى حفر أخدود عميق بينهم وبين معظم قبائل السودان، فالحياة البدوية الجافة الخالية من الاستقرار، والهروب المستمر من القبائل الأقوى، ترك بصمات واضحة على وضع القبيلة الاقتصادي والاجتماعي، فالدخل المحدود والصلة المعدومة بينهم وبين مناطق التنوير العلمي والديني سواء في الحجاز أو في مصر، ترك القبيلة تعيش في حالة انزواء اقتصادي وثقافي، أدى إلى انسحاق اجتماعي لعلة كان السبب الأكثر قبولا لتفسير سرعة استجابتهم الشرهة لدواعي التسلط الذي فرضوه باسم المهدية على السودان في أعقاب موت الإمام محمد أحمد المهدي.
    * * *
    في هذا الجو ولد عبد الله بن السيد محمد آدم تورشين، الرجل الذي قدر له أن يلعب أهم الأدوار في تاريخ السودان الحديث.
    في الواقع، وإذا دخلنا من هذا المنطلق، نقول أنه لا يكاد يوجد في تاريخ السودان الحديث رجل اختلف عليه السودانيون والمؤرخون مثل هذا الرجل، الخليفة عبد الله، رجل الإمام المهدي الأول، ويده اليمنى، وخليفته، ففيما يعده بعض المؤرخين رجل السودان المنتظر الذي استطاع أن يحافظ على وحدة بلد شاسع مترامي الأطراف، وسط ظروف داخلية وخارجية معادي، أعتبره آخرون ديكتاتوراً جباراً قاسياً محباً لسفك الدماء، لم تبق في عهده حرمة لم تنتهكها أيدي (الأجلاف)، ومن الطبيعي أن تنهال الأوصاف المتعارضة على الخليفة من الاتجاهين، فبينما ترى مجموعة أن الخليفة عبد الله كان يتميز بالمقدرة الإدارية والحنكة وقوة الإرادة والدهاء، تصفه المجموعة الأخرى باللؤم والغدر وحب البطش وسفك الدماء والجهل ومعاداة العلم والعلماء، وبين هذا الاتجاه وذاك تقول الحقائق المتجمعة عن هذا الرجل الفريد أنه استطاع أن يبني نفسه من الصفر، وأن يقفز إلى رئاسة أول دولة وطنية تجمع السودان بحدوده الحالية، لم يسنده مال أو علم أو زعامة سابقة أو قوة قبلية، وإنما صعد سلم الزعامة خطوة بعد خطوة وبمقدرة وهيمنة، معتمدا على صفاته الذاتية وحدها.
    * * *
    اسمه عبد الله بن السيد محمد آدم تورشين، والأسماء الثلاثة الأولى (عبد الله) و(محمد) و(آدم) أسماء شائعة في غرب السودان، لا يخلو اسم مسلسل من ابن وأب وجد من واحد أو اثنين منها، أما الاسم أو اللقب الرابع (تورشين) فمعناه الحرفي (ثور قبيح)، وبهذا المعنى الحرفي أخذ نعوم شقير، وقال أنه كان يلقب بالثور القبيح لدمامة خلقه، وقد أخطأه التوفيق في ذلك لسبب بسيط هو أنه لم يستطع أن يستوعب نمط حياة السودان وأسمائه ومصطلحاته رغم أنه عاش فيه نحو ربع قرن، كانت وظيفته دراسة أحوال السودان وتاريخه، ذلك لأن التعايشة، وهم فرع من قبيلة البقارة، لو أرادوا أن يصفوا (آدم) بالقبح لما سموه (ثور) لأن الثور من أعز الحيوانات عندهم إن لم يكن أعزها على الإطلاق، فكلمة (شين) تفسر هنا بمعنى شجاع وفاتك.
    ولعل مما يقوي هذا التفسير أن الخليفة عبد الله كان يلقب جده هذا بـ (علي الكرار)، واسم علي الكرار في السيرة الشعبية الإسلامية اصطلاح يرمز للشجاعة والقوة.
    ويقول الخليفة عبد الله أن جده آدم كان من أهل التقوى والصلاح، وفيما بعد وجه بإقامة ضريح على قبره، وكان يوصي العابرين بالتوقف عنده.
    * * *
    تتعدد الروايات في نسب الخليفة عبد الله، هل كان جده الكبير من التعايشة أم أنه وافد على القبيلة؟ بعض الأنصار يرون أن جده من أبيه مهاجر من دول المغرب العربي مثله مثل رجال الصوفية الذين هاجروا عبر الصحراء الكبرى إلى منطقة الحزام السوداني، وقد استقر هذا الجد بين التعايشة، وتأكيداً لهذه الرواية يقولون إن ملامح الخليفة من طول ولون وأنف محدودبة، تشبه الشكل العربي، بل إن بعضهم يوصل نسبه إلى النبي عليه الصلاة والسلام نحو ثلاث وثلاثين جداً.
    ويورد الزبير باشا، الذي عاصر الخليفة عبد الله، رواية أخرى تقول إن جده (آدم) من بلاد (الفِتري) التي تقع بين مملكتي (ودّاي) و(برنو) على حدود السودان الغربية، وقد خرج من بلاده بعد أن ضاق به الحال قاصداً الحجاز فلما وصل بلاد التعايشة نزل فيهم وتزوج منهم واستقر.
    هذه الرواية نسبها نعوم شقير إلى الزبير باشا، لكن المشهور في نسب الخليفة عبد الله أنه من فرع (الجباراب) في قبيلة التعايشة من بطن يقال له (أبو صرة).
    * * *
    ولد الخليفة عبد الله في عام 1846م، أي بعد مولد صديقة بثلاث سنوات على الأرجح، في قرية تسمى (التروة) في جنوب غرب دار فور، وكان ترتيبه كما رأينا، الثاني بين أخوته لأبيه، والثالث بين جميع الأخوة، ولم يمكث فترة طويلة في (الخلوة) بعد أن حفظ شيئاً من القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة ومبادئ الفقه وبعض علوم الدين، وبسبب هذا الضعف في تعليمه الرسمي وصفه نعوم شقير، فيما بعد، بالجهل ومعاداة العلماء.
    ويقول نعوم شقير إن عبد الله قام مقام أبيه في التنبؤ واستكشاف الغيب عن طريق الرمل.
    * * *
    في هذه الفترة كان غرب السودان مسرحاً لصدام قدري بين الزبير باشا رحمة الذي دوي اسمه كقرع الطبول في أنحاء ذلك الجزء الغربي والجنوبي من السودان، ولمع في الأفق كشهاب عابر، وبين القوة المحلية المتمثلة في مملكة الفور وتوابعها، وقد استخدمت قبيلة الرزيقات عبد الله عام 1874م ليستكشف لها حظها من النجاح في حربها ضد الزبير، ودارت الدائرة على الرزيقات، وانتصر الزبير ووقع عبد الله في قبضته، فأمر بقتلة، إلاّ أن العلماء من مرافقيه أفتوا بأن عبد الله أسير حرب، ولا يجوز شرعاً قتل الأسير.
    واتسعت الحرب في دار فور في نفس العام بين الزبير وآخر سلاطين الفور، السلطان إبراهيم محمد حسين، وقد حسمت معركة منواشي في أكتوبر الصراع لصالح الزبير.
    ولكن الهدوء الذي أعقب سقوط السلطنة وقتل سلطانها لم يكن إلاّ هدوءاً مؤقتاً، فقد كان سقوط مملكة الفور سقوطاً مفاجئاً، فهي لم تبلغ من الضعف والانحلال ما يؤهلها للسقوط، فقد تعاقب على حكمها عدد من السلاطين الأقوياء مما أعطاها دفعات من القوة حمتها من الوهن الذي كان يضغط في التسلل إليها بسبب انعزالها وبعدها عن مواطن الإشعاع الحضاري والعلمي، وإذا كان السلطان إبراهيم محمد حسين لم يحكم المملكة إلاّ عشرين شهراً، فإن والده السلطان محمد حسين المهدي هو الذي جدد شبابها وأعاد بناء جيشها، وعلى يديه عرف جيش الفور السلاح الناري لأول مرة، وكان أثر هذا التجديد واضحاً، إذ استطاع السلطان أن يقمع تحركات بعض القبائل المحلية كالرزيقات والمعاليا والحمر، وأن يوقع بقائد مصري في عهد الوالي محمد سعيد باشا ويأسره، ثم يرده معززاً مكرماً إلى مصر مما ساعد على تحسين العلاقة بين المملكتين.
    وسبق السلطان محمد حسين المهدي أبوه السلطان محمد الفضل (1777م-1839م)، وجده عبد الرحمن الرشيد (ت. عام 1801م) الذي ازدهرت في عهده المعارف والعلوم، واتسعت رقعة التجارة الخارجية خاصة مع مصر، واشتهر كذلك بصلاته مع الإمبراطور نابليون بونابرت وتبادل معه الهدايا، وسبق الرشيد شقيقة السلطان محمد تيراب المشهور (ت. عام 1785م) الذي بلغت السلطنة في عهده أقصى حدود اتساعها إذ وصلت إلى مشارف أم درمان.
    هذا الاستطراد سقته لأقول أن سلطنة الفور لم تكن قد وصلت إلى مرحلة الإنهاك بعد، ولذلك كان سقوطها مفاجئاً، ولأن المفاجئات دائماً تترك للإنسان فرصة واسعة للتردد قبل أن يقتنع بها، فإن أمراء الفور لم يصدقوا المفاجأة، وقادوا مقاومة الحكم الجديد، قادها أولاّ الأمير حسب الله واحتمى بجبل مرة، ولكنه لم يصمد طويلاً واستسلم ونفي إلى مصر، بعده رفع راية الحرب الأميران بوش وسيف الدين ابني محمد الفضل، وقتلا قبل أن يستفحل أمرهما، فحل محلهما الأمير هارون الرشيد بن سيف الدين عام 1876م، وقد جعل هارون الرشيد من دار فور جحيما لسلطة الخرطوم لمدة أربعة أعوام حتى مقتله عام 1880م فحمل الراية بعده ابن عمه عبد الله دود بنقة.
    * * *
    بالنسبة لعبد الله لم تكن هذه الحرب إلاّ حاجزاً من حواجز الاستقرار، فرجل حصيف مثله كان يزن الأمور بدقة شديدة، لم تكن هذه الحروب تعنيه من قريب أو بعيد، وهو لا يريد أن يزج بنفسه في حركة لا يعرف أين موضعه فيها.
    وهكذا، ما أن حل عام 1880م حتى كان عبد الله قد وصل إلى ذروة السأم من جحيم الإضطرابات، فقرر أن يهاجر من موطن القبيلة ومن الغرب كله إلى الحجاز.
    ويحلو للبعض أن يتحدث عن هاجس داخلي ظل يؤرق عبد الله، وكلما انقضت الشهور كلما اشتد إلحاح ذلك الهاجس، ربما اختلط المفهوم الصوفي عن ظهور المهدي المنتظر بما كان يجري في الواقع من فوضى وقتال ودماء تسيل بلا حدود، أو ربما رأى رؤية مناميه، أو ربما تنبأ له والده بشئ كما تدعي بعض الروايات … فإن عبد الله وهو يقرر الهجرة كان يحس بأنه مساق بقدر لا يملك له رداً نحو مستقبل مشرق لا مراء فيه.
    لندع هذا الآن ونعود إليه فيما بعد.
    لكن السبب المباشر الذي يردده المؤرخون عند الحديث عن هجرة عبد الله هو ضيق الرزق، وشح إمكانيات المنطقة عن أن توفر له حاجات الحياة الطبيعية، وعبر فيافي السودان تحرك عبد الله ميمماً شطر الحجاز، كانت تلك نيته، وتبعه في الرحلة بعض أهله وبعض تلاميذه، لكن القدر اختطف منه أباه في دار (الجِمِع) في شرق كردفان، وهناك دفنه في منطقة تسمى (أبو ركبة).
    بقي عبد الله حائراً على ما يبدو، لا يدري ماذا يفعل، فقد لازم قبر أبيه عدة شهور، حتى حملت إليه أخبار الوافدين بتواتر عجيب أخبار شيخ زاهد في جزيرة على النيل الأبيض (بحر أبيض) اسمها (الجزيرة أبا)، فهاجر إليه.
                  

02-04-2004, 12:33 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    الصداقة
    لا يكاد يوجد بين المؤرخين من يشك في الصداقة الحميمة بين الزعيم محمد أحمد وساعده الأيمن وخليفته الأول عبد الله، ويكاد يجمع القائلون، كذلك، على أن الصداقة التي بدأت بعد ذلك اللقاء الدرامي الأول بين الاثنين تحت قبة الشيخ القرشي ظلت تتمدد بجذورها نحو العمق في قدرية لم يشبها التردد أو الغيوم أو الشك أو التوقف كما يحدث عادةً بين كل صديقين في الحياة العادية.
    وأمام هذه الصداقة القدرية من الطبيعي أن ترتفع التساؤلات عن كنهها وأسبابها وجذورها وأبعادها.
    والواقع أن تلك التساؤلات غاصت في متاهات بعيدة تبحث عن حلقة مفقودة لتفسير تلك الصداقة.
    هل كان عبد الله هو عقل محمد أحمد المدبر، وما دام الإنسان السوي لا يستطيع أن يتخلى عن عقله فكذلك المهدي لم يكن يستطيع أن يتخلى عن عبد الله؟
    هل كان عبد الله يظهر أمام المهدي مريداً منصهراً في بوتقة الزعيم، خالياً من التطلع الذاتي، بمعنى أنه أسقط ذلك الميل الشخصي للكسب ووجه كل قوته وفكره للتخطيط والتنفيذ من دون أن يظهر عليه أي مطمع، وكان ذلك أدعى لاطمئنان المهدي؟ إذ من العبث أن يظن أن المهدي كان يختار أصحابه ومساعديه بصورة عشوائية، ومن دون أن يحسب حسابات الربح والخسارة واحتمالات التغول والصعود والهبوط.
    هل وضع الإمام المهدي علاقته بعبد الله في إطار الرؤية التاريخية، ذلك لأن عبد الله ينحدر من منطقة اضمحلال حضاري، وأن ذلك من شأنه أن يكسر حدة القوة والهيمنة الشخصية للخليفة عبد الله، ذلك لأنه لو طغى فإن القوة المؤهلة موجودة، فيكون المهدي بذلك قد وضع موازنة بين القدرة الشخصية للخليفة عبد الله، والقوة التاريخية الممثلة في (أولاد البلد)؟.
    هل نفسر ذلك بأن المهدي كان زعيماً حقيقياً، والزعيم الحقيقي لا يخشى من الشخص القادر بجانبه لأنه يعرف كيف يستفيد منه في النهاية، فالمساعد القوي يزيد من قوة الزعيم، والرجل المتألق يزيد من تألق الزعيم، بينما تحصن الزعيم قوة زعامته من السقوط في براثن المساعدين الأقوياء؟.
    هل كان في حسابات المهدي أن يستقطب أهل الغرب بتعيين أحد أبنائهم في موقع القلب من السلطة، أم أن عبد الله هو صانع المهدية أو على الأقل هو صاحب فكرتها؟
    هذا الذي يقال عن ابتداع عبد الله لفكرة المهدية يحتاج إلى متابعة في البداية، وإلى مناقشة في النهاية.
    * * *
    كيف ألصقت فكرة المهدية بعبد الله ؟
    الفكرة تبدأ في هذه المرحلة التاريخية من تطور شخصية عبد الله، والروايات تحكيها بطريقتين، ولكن الروايتين تنتهيان بالنتيجة ذاتها، وهي أنهما تتنبآن بظهر المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وتتنبآن بأن عبد الله سيكون مساعد المهدي ووزيره الأول.
    تقول الرواية الأولى أن عبد الله رأى المهدي المنتظر في المنام، ورأى بعض علاماته، وأخبره بأنه سيكون وزيره ومساعده، وتقول الثانية أن والد عبد الله - وكان متنبئاً - هو الذي أسر إلى ابنه بذلك، والذي يهم هنا، سواء كان الأمر تنبؤاً أو رؤية مناميه، أن عبد الله أخذ الأمر مأخذ الجد وربط نفسه بهذا القدر، وجند نفسه للبحث عن المهدي.
    كان الرجل الأول الذي أراد عبد الله أن ينصبه مهدياً منتظراً هو الزبير، ففي الوقت الذي بدأ فيه نجم الزبير يسطع في سماء السودان، وارتفعت راياته خفاقة في بحر الغزال ثم دار فور، اشرأبت إليه الأعناق باعتباره رجل السودان الأول، ومن بين تلك الأعناق التي اشرأبت عنق عبد الله، ولعل عبد الله - وهو كما علمنا قد وقع في قبضة الزبير ولكنه نجا من الموت بأعجوبة - لعله بجانب انبهاره بالزبير وقوته وشخصيته وانتصاراته، لاحظ أن الذي أنقذه من الموت هو التزام الزبير بحدود الدين وخضوعه لفتوى علماء الشرع.
    المهم أن حيرة عبد الله وتوجسه وتطلعه وإعجابه تبلور في رسالة متسائلة إلى الزبير يقول فيها أنه رأى رؤية في منامه أنه (أي الزبير) هو المهدي المنتظر الذي سيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، وأنه (أي عبد الله) سيكون أحد أتباعه بل سيكون وزيره، ويسأله إن كان هو مهدي الزمان.
    ولكن الزبير رد عليه بحسم وحزم أنه ليس المهدي المنتظر، وإنما هو الزبير رحمة منصور الجميعابي العباسي، وحذره من ترديد هذا الادعاء وزجره، فإنزجر عبد الله ولزم الصمت.
    هذا ما رواه نعوم شقير في كتابه (تاريخ وجغرافية السودان) وهو يسرد سيرة حياة الزبير باشا.
    إذا كان تسلسل الأحداث قد تم بهذه الصورة فلابد أن يكون عبد الله قد مرة بفترة من القلق والحيرة، هذه الحيرة، ثم ما أصاب دار فور من ثورات وحروب داخلية إثر سقوط سلطنة الفور عام 1874م، دفعته للخروج والبحث عن المهدي المنتظر في المكان الذي ذكرت الكتب أنه سيظهر فيه، وهو الحجاز، وفي الطريق إلى الحجاز نقل إليه العابرون خبر الشيخ الزاهد في الجزيرة أبا، فشد إليه الرحال.
    * * *
    كان محمد يقسم وقته بين أستاذه الشيخ القرشي وبين (خلوته) في الجزيرة أبا، والواقع أن (الخلوة) في هذه الفترة كانت تعج بالمريدين والتلاميذ، ويتوافد عليها الناس من كل حدب وصوب، وكان المسافرون على النيل الأبيض يوقفون مراكبهم عند مرسى الجزيرة، فيزورونه ويقدمون له الهدايا ويطلبون البركة والدعاء، فأخذت أخباره تنتشر مع الغادين والرائحين في المجتمع السوداني المشبع بروح الصوفية، وعندما انطلق عبد الله من كردفان إلى الجزيرة أبا، كان محمد أحمد مقيماً في قرية الشيخ القرشي مشاركاً تلاميذه في بناء ضريح الشيخ.
    وهناك التقى عبد الله بالمهدي، وهذا اللقاء يكشف إلى أي حد كان عبد الله يؤمن بالرؤية التي رآها أو النبوءة التي لقنها له أبوه.
    * * *
    تقول الروايات أن عبد الله خر مغشيا عليه عندما رأى محمد أحمد لأول مرة، ولما أفاق ونظر إلى الشيخ أغمى عليه مرة أخرى، ثم أفاق، وكان مضطرباً، فقام يحبو على ركبتيه حتى أقترب من الشيخ، وأخذ يلثم يده وهو يرتعد ويبكي، فسأله الشيخ عن حاله، فأخبره عبد الله عن اسمه ونسبه وقبيلته، وأخبره بنبوءة والده عن المهدي المنتظر وبشراه له بأنه سيكون وزيره، وأن أباه أعطاه صفات المهدي، وأنه رأى فيه هذه الصفات عندما لمحه لأول مرة، وكان ذلك سبب إغمائه.
    الرواية بصورتها تلك يبرز من خلفها سؤال: هل كان عبد الله يعرف حقيقة صفات محددة للمهدي المنتظر سواء عن طريق الرؤية أو النبوءة ؟
    وهل كانت تلك الصفات مرسومة على محيا المهدي، أم أن عبد الله كان يملك تلك المقدرة الرهيبة على التخطيط ورسم الأدوار وتنفيذها بقدرة تمثيلية كبيرة؟ وبالتالي فإنه يكون بإمكانه أن يخترع مسالة المهدية بتفاصيلها تلك ويؤدي دوره فيها بمقدرة ممتازة ، حتى استطاع أن يعمل لمحمد أحمد ما يشبه غسيل الدماغ ويلقنه طبيعة دوره الجديد ويحمله على التنفيذ؟
    والذي يؤيد هذا الزعم أنه لم يعرف عن الشيخ محمد أحمد أنه دعا إلى المهدية أو تحدث بها إلى أحد أخصائه حتى هذا التاريخ وهو عام 1880م . هذا باستثناء رواية الأستاذ محمد شريف نور الدائم السابقة. وإذا كنا نعرف أن الشيخ محمد أحمد اختلف مع أستاذه وفارقه عام 1877م فإنه وحسب الرواية يكون قد بشر بمهديته في هذا التاريخ أو قبله، بينما كان لقاءه مع الخليفة عبد الله بعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام.
    لكن إذا سرنا مع هذا الرأي قليلا، أي أن عبد الله هو صاحب فكرة المهدية أو أنه الموحي بها ، فانه اعتراضا قويا سيطرح نفسه أمامنا وهو : إن هذا الرمز ، الشيخ محمد أحمد، ما هو إلا واجهة مصنوعة. لكن الواجهة مهما طليت وزينت فإنها لا يمكن أن تكون أصلا. ذلك أن الأصل يحتاج إلى أصالة في التفكير وأصالة في التنفيذ، ومن الواضح أن الشيخ محمد احمد بشخصيته التي عرفنا تطورها ومنحنياتها لم يكن تابعاً أو مصنوعاً، ولم يكن كذلك واجهة مزخرفة لا تحمل مضمونا تحت ألوانها البراقة.
    إن حسم قضية من هو صاحب فكرة المهدية يأتي من خلال ترجيحنا لأحد الاحتمالين :
    ـ احتمال أن يكون محمد أحمد قد حدد معالم الفكرة ولكنه احتفظ بها لنفسه ولم يسر بها لقرب المقربين وهو في ذلك ينتظر الظروف المواتية، وأهم شروط هذه الظروف أن يكون قد أكمل صعود درجات سلم الصوفية درجة بعد درجة ليصل إلى آخر مراتب الطريقة، وعندما حانت تلك اللحظة باختياره خلفا للشيخ القرشي عام 1880م، كان ذلك إيذاناً بخلو الطريق من العقبات الفكرية التي تعطل ادعاءه، لقد شاء الله أن يكون موت الشيخ القرشي مطابقاً في الزمن لظهور عبد الله على المسرح، وفي هذا السياق يكون تنبؤ عبد الله هو تأكيد لهواجس محمد أحمد النفسية التي لم تظهر للعيان بعد، أو هو أحد علامات ظهوره.
    ـ والاحتمال الآخر أن نتصور أن محمد أحمد رغم أنه كان يسير في طريق المجاهدة الروحية التي بدأها وهو شاب يافع، ثم في طريق الإصلاح وانتقاد المفاسد السائدة، وهو ما كان معروفاً عنه منذ أن كان صبياً عند الشيخ محمد الخير في بربر، إلاّ أنه كان خالي الذهن من فكرة المهدية، حتى انتشله مشهد عبد الله الدرامي وهو يرتعد، وتتشنج أعضاؤه، ويغمى عليه، ويحبو نحوه، ويقبل يديه وقدميه .. هذا المشهد انتشله هذا المشهد العنيف من تيهه وحدد له خط سيره، ورسم له أفق شخصيته الجديدة.
    وإذا طرحنا السؤال بصورة أكثر تحديداً على الصيغة التالية :
    هل سبق محمد أحمد بتحديد موقف من أمر المهدية وحزم أمره عليها قبل لقاء عبد الله، أم أن الدعوة صادفت ذهنا خاليا ولكنه مهيأ للتقبل ؟
    والإجابة الأكيدة أمر يصعب إثباته الآن، لكن سواء كانت الإجابة بهذا أو ذاك، فإن أمراً مؤكداً قد حدث، وهو أن عبد الله كان أول إنسان يقول لمحمد أحمد أنك مهدي الله المنتظر وفق منطق سائد ومقبول في تلك الأيام، منطق الأحلام والنبوءات، وأن محمد أحمد قد حفظ له هذه الصنيعة المبكرة ووضعه في مكان لم يصل إليه أحد من تلاميذه القدماء باستثناء الشيخ علي ود حلو.
    * * *
    حتى الآن، في عام 1880م، كان الشيخ علي محمد الحلو وكيل محمد أحمد وشيخ خلوته في الجزيرة أبا، والشيخ علي ود حلو ينتمي إلى قبيلة دغيم التي تصل بنسبها إلى الأشراف، وهي قبيلة تمتهن رعي الماشية وتسكن في منطقة يقال لها الحمراية على النيل الأبيض، وهو من بيت ديني، ويوصله نسابوا القبيلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد سبعة وعشرين جداً، وهو واحد من عشرة أبناء رزقهم أبيه، لم يشتهر منهم غير الأمير موسى ود حلو قائد جيش الراية الخضراء فيما بعد، والذي استشهد فيما بعد في موقعة أبي طليح عام 1884م حينما كان يحاول صد تقدم حملة النيل التي جاءت لإنقاذ الجنرال غردون، وفي خلوة ود مضوي، التي تقع شمال غرب مدينة كوستي، حفظ القرآن الكريم، والتحق بالشيخ محمد أحمد الذي كان يومها يقوم بجولات في خلاوي وقرى الجزيرة، وتعلق كل من الأستاذ وتلميذه ببعضهما البعض، فقد انبهر التلميذ بشخصية أستاذه وربط نفسه بهذا القدر الجديد.
    وفي الجزيرة أبا صار علي ود حلو شيخ خلوة محمد أحمد، وفي نفس الوقت بدأ يأخذ عن أستاذه التفسير والحديث والفقه والسيرة والسلوك، وفي معركة المهدية الأولى ضد جيش الحكومة في أغسطس 1881م، معركة أبا، كان معظم رجال المهدي من قبائل دغيم وكنانة وبني حسين واللحويين ودار محارب والحسينات، وهي في مجملها القبائل التي ينتمي إليها الشيخ علي ود حلو، وقد كونت هذه القبائل، فيما بعد، الراية الخضراء، واستطاع هؤلاء الرجال إلحاق أول هزيمة بجيش الحكومة، وهي باكورة الهزائم التي توالت من بعد على ذلك الجيش.
    من هذا السياق يبدو الشيخ علي ود حلو رجل المهدي الأول في هذه الحقبة، وإذا استعملنا التعبير الحديث نقول أنه الموجه الأيديولوجي، بالإضافة للنفوذ العسكري لقبائل النيل الأبيض (بحر أبيض)، إلا أن عبد الله استطاع أن يدعم موقفه ويزحف إلى المرتبة الأولى عندما تحرك المهدي إلى جيل قدير في جنوب كردفان.
    * * *
    انصهر عبد الله في الحركة الجديدة وسخر لها كل إمكانياته، استخدم قوة شخصيته، وذكائه، ومقدرته على الإمساك بخيوط تنظيم أي أمر، وسرعة بته، وحزمة في معالجة الأمور.
    وهكذا، كلما ازدحمت الطرق إلى جبل قدير وتكاثر المريدون، كلما اشتدت الحاجة إلى قدرات عبد الله الفطرية في التنظيم الإداري.
    وفي جبل قدير كثر الوافدون من أبناء غرب السودان من البقارة والرزيقات والتعايشة والهبانية وكل القبائل نصف العربية ونصف الزنجية، وهذا الوضع فرض على المهدي ما يشبه الالتزام بأن يجعل من بينهم رجل في دائرة السلطة العليا، بنفس حجم ثقل تلك الأكثرية العددية.
    * * *
    وعندما استقر المهدي في كردفان في الأسابيع الأخيرة من عام 1881م كانت تجربته العسكرية والإدارية صفراً، كان كل شئ يحتاج إلى ابتكار : من تنظيم الأعداد الكبيرة التي شقت طريقها إلى قدير، إلى تجهيز التموين والتغذية، إلى إعداد السلاح والتدريب عليه، إلى إقامة عيون الرصد حتى لا تفاجأ الجماعة بمكروه يحطم عودها الهش، إلى نشر الدعوة بين قبائل الغرب وفي السودان عامة.
    وقد شمر عبد الله عن ساعد العمل، وأظهر أنه رجل الإدارة والتنظيم الأول الذي لا يوجد له نظير بين تلاميذ الإمام المهدي الذين لم تكن قدراتهم ولا تجاربهم تسمح بتصنيفهم في مرتبة القادة.
    حمل عبد الله عبأ التنظيم الإداري والعسكري، وظهر من بين جميع الحواريين كقائد حقيقي، ونستطيع أن نقول أنه انتزع موقعه داخل الحركة انتزاعا، وليس المقصود هنا انتزاع القوة وإنما انتزاع المقدرة.
    وهكذا أوكل إليه المهدي في تلك الأيام الأولى في جبل قدير القيادة العامة (المؤقتة) لجيش الأنصار، وتعتبر قيادة (مؤقتة) لأن التنظيم الدائم تم بعد ذلك بشهور في تقسيم الرايات.
    وفي ظل قيادته المؤقتة أحرزت قوات الأنصار الانتصارات الساحقة في كردفان، فأبادت حملة راشد بك أيمن في ديسمبر 1881م، وفي مايو من العام التالي استأصل حملة يوسف بك الشلالي، وبعد الواقعة الأخيرة مباشرةً كانت الطرق إلى قدير تزدحم بآلاف المؤيدين، وكان أمر الحركة قد وصل حداً من التضخم أصبح فيه من اللازم إيجاد قنوات تنظيمية أخرى.
    بعد هذا التطور جاءت فكرة تنظيم الرايات.
    قسم الإمام المهدي الأنصار إلى أربعة أقسام، وجعل على كل قسم قائد، وأعطى كل قائد راية، فكانت الراية الزرقاء هي راية الخليفة عبد الله، وهي أكبر الرايات وأقواها، وتضم السواد الأعظم من محاربي الأنصار من قبائل كردفان ودار فور، وفي ترتيب الخلافة الإسلامية، كان الخليفة عبد الله هو الخليفة الأول للإمام المهدي، كما كان سيدنا أبو بكر الصديق الخليفة الأول للرسول عليه الصلاة والسلام، ولذلك لقب بـ (خليفة الصديق)، وهذا الترتيب لم يلغ منصب الخليفة كقائد عام لجيوش المهدية يتولى التنسيق بين جيوش الرايات، ولما كانت حياة الأنصار في مجتمعهم الجديد حياة عسكرية صرفه، فإن منطقة قدير كانت أشبه بمعسكر ضخم للجيش، ولذلك فإن سيطرة الخليفة عبد الله العسكرية تجعله في حقيقة الأمر المسيطر على كل شئ.
    ومن هنا بدأت شكوك أهل المهدي والأشراف عموماً من هذه الهيمنة (التعايشية) على الحركة المهدية وإداراتها المختلفة، وبدأ التململ والتذمر، وكان كل شئ يصل إلى المهدي عبر خليفته الأول، ولم يذكر التاريخ أن الخليفة عبد الله كان يرد على معترض أو يجادل أحداً في أمر الحكم، فقد اختار طريقه بذكاء، وهو أن يصمت عن كل انتقاد، وترك للإمام أمر الرد على المنتقدين، فإذا كان خصومه قد تحصنوا بنسبهم وقرابتهم والقول بأنهم تاريخياً أهل العلم والحكم، فإن الخليفة اختار ميدان المعركة بنفسه، فهو أولاً اختار الانتماء إلى الدعوة المهدية، أي أنه انتمى إلى الإمام محمد أحمد المهدي، ولم ينتم إلى محمد أحمد (الدنقلاوي) الذي ينتمي إلى قبائل الشمال، ثم اختار أن يكون رده بالصمت عن الكلام والاتجاه للعطاء، فخصومه يخاصمون وكأنهم يقتسمون غنائم، بينما هو يعمل لتنظيم الحركة والانتصار لها، وشتان بين من يعمل ومن يتكلم ويخاصم.
    ظهر الفرق شاسعاً بالنسبة للمهدي بين المناصر الحادب على مصلحة الدعوة دون أن يطالب بشئ إلا ما ارتضاه له المهدي، وبين الذين أظهرهم سوء فهمهم أو سوء تخطيطهم كمن يتكالبون على الجانب الدنيوي من المهدية، أظهرهم ذلك الصراع كمن يسعون لاقتسام ميراث لا يزال صاحبه على قيد الحياة.
    لقد ضرب الخليفة عبد الله برده الصامت على وتر حساس بالنسبة للإمام المهدي، فتدثر بثياب الحب والإخلاص والتفاني والتجرد والانصهار التام في المهدية وفي المهدي، دون أن يرفع أي راية جاهلية من حسب ونسب وقرابة، ووقع ذلك موقعاً طيباً في قلب رجل قامت دعوته على الصوفية التي يبهرها أول ما يبهرها التجرد للشيخ والإخلاص له والانصهار فيه، ومن هنا تولى المهدي بنفسه الدفاع عن تلميذه وصديقه، فشن حملات شعواء على أهله وعلى الأشراف عامة.
    أول هذه الحملات كانت بعد فتح الأبيض، فربما استغل الأشراف فشل خطة غزو الأبيض في سبتمبر عام 1882م وسقوط عدد كبير من القتلى بين صفوف الأنصار نتيجة مواجهة لم يكن السلاح فيها متكافئاً، وأول من يحاسب على الهزائم قادة الجيوش، فنصيب الخليفة عبد الله ينبغي أن يكون أكبر.
    هذا ما أراده الأشراف.
    وصاحب الهزيمة رفض الإمام المهدي لخطة الخليفة عبد الله لمعالجة سلبيات الهزيمة والعودة من جديد إلى قدير، كان من رأي الخليفة عبد الله أن يعود الأنصار إلى جبل قدير ويكملوا استعدادهم ثم يزحفوا على الأبيض مرة أخرى، ولكن رأياً آخر تقدم به أحد الوافدين الجدد، ظهر أنه الأحكم، فقد اقترح الياس أم برير ضرب الحصار على المدينة لأنه كان يعرف دخائلها ومقادير مؤنها وإمكانيات صمودها، واستصوب الإمام المهدي هذا الرأي وقرر حصار المدينة.
    هل اعتبر الأشراف أن الهزيمتين المتلاحقتين قد أرهقتا وضع الخليفة عبد الله السياسي، وبالتالي فإن مساعدة صغيرة منهم تساعد على وضعه في زاوية التاريخ؟
    ربما ..
    أياً كان السبب فإن الأشراف صعّدوا حملتهم على الخليفة عبد الله بعد فتح الأبيض، ولكن الصديق الأول أعاد صلات الصداقة إلى خطها الصاعد، وتصدى بنفسه للدفاع عن صديقة، وإذا كان صديقه قد أخطأ مرة أو مرتين، فمن ذا الذي لا يخطىء؟ بجانب أن صديقه قد أخطأ في سبيل المهدية وهو يتحسس طريقه لصالحها، بينما خصومه قد أخطئوا في سبيل الدنيا والأهواء الذاتية.
    وأصدر الإمام المهدي منشوراً يحدد موقفه من هذا الصراع، حذر فيه الأشراف من مغبة السير في هذا الطريق، واتهمهم بأنهم انشغلوا بالدنيا وفتات المكاسب التي تناثرت على مائدة المهدية، وقال أن الخليفة عبد الله مني وأنا منه، فمن أطاعه فقد أطاعني.
    وسكت الهمس الذي كان يدور حول الخليفة لفترة، ثم تصاعد صراخاً عالياً في أم درمان بعد الفتح، في هذه الفترة كان الخليفة عبد الله قد دعم موقفه أكثر، واستطاع أن يستصدر من الإمام المهدي قراراً بتعيين أخيه الأمير يعقوب قائداً عاماً على جيوش المهدية بينما تفرغ الخليفة لرئاسة إدارة الدولة الوليدة.
    ومرة أخرى صعد الإمام المهدي المنبر في آخر جمعة صلاها قبيل وفاته وحسم الموقف لصالح صديقه، في هذه المرة تبرأ المهدي من الأشراف ومن قرابته لهم، وقال إن القرابة الوحيدة التي يعرفها هي القرابة في الله، ووصف الأشراف بأنهم طلاب دنيا.
                  

02-04-2004, 12:35 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    غلطـــــة الشـــاطـــر
    غلطة الشاطر كما يقولون بعشرة، ومن يقرأ تاريخ السودان الحديث سيرى أن مجيء الجنرال غردون إلى السودان كحكمدار كان خطأ، أو هو مجموعة أخطاء صغيرة تجمعت في النهاية ليكون حاصلها خطأ كبيراً.
    كان الخطأ الأساسي هو تصور غردون للثورة المهدية، منطلقاتها وإمكانياتها ومقدراتها وتداخل الأدوار بين شخصياتها، وعلى هذا الأساس بنيت فكرة تعيينه حكمداراً ليؤدي رسالة واحدة محددة هي إخلاء السودان، ولكن ما كان يحدث في السودان عندما حط غردون رحاله فيه في فبراير 1884م، كان شيئاً مختلفاً تماماً عما تصوره، واختلطت الأمور، وبدأت القرارات تصدر، وكل قرار كان يأتي برد فعل عكسي تماماً، وظل الخطأ يقود إلى الخطأ حتى اتخذ غردون في لحظة من لحظات العمى السياسي قراره المميت بإلغاء قرار الإخلاء والتصدي لمنازلة المهدي.
    والغريب أن غردون باشا لم يتخذ هذا القرار بناء على حساب عسكري لما هو ممكن وما هو غير ممكن، ولكن على أساس توريط القوة القادرة على سحق المهدي، وهي بريطانيا، لتتدخل بصورة أكثر سفوراً.
    على أن كل هذه الأخطاء أخطاء متأخرة، أي أنها نتجت عن انفجار الثورة الإسلامية.
    ولكن غردون باشا ارتكب في الأساس خطأ كان أحد الأسباب القوية لاندلاع الثورة.
    لنعد خطوات إلى الوراء.
    * * *
    عندما عاد الجنرال غردون إلى السودان في المرة الثانية عام 1877م، عاد في الواقع بسلطات ملك غير متوج، فالوالي المصري أجزل له في عطاء السلطة، وترك له الأمر ليحدد حدود السلطات التي ترضيه يفي إدارة السودان، فوصل عن طريق ميناء سواكن، وهناك أصدر قراراً بعزل مديرها محمد رءوف باشا، وكانت تلك البداية، في الخرطوم عزل المزيد من كبار الموظفين المصريين بحجة أنهم غير أكفاء، وأن الفساد صار يجري في دمائهم من كثرة ما مارسوه، بجانب أنهم، كما يقول، ليسوا الصنف الذي يستطيع أن يعتمد عليه في معركته المقدسة لاستئصال تجارة الرقيق، واستعان لبعض الوقت ببعض الإداريين السودانيين قبل أن يغرق البلاد بمجموعات من الإداريين الأوروبيين، وهذه الخطوة كانت ظاهرة جديدة على السودان والسودانيين، وهم مسلمون، لم يذكروا في تاريخهم القريب أنهم حكموا بواسطة النصارى، حتى ولو كانوا نواباً عن خليفة المسلمين.
    قبل سنوات بعدية عينت مصر أراكيل (1) باشا حكمداراً، ولكن السودانيين تظلموا من هذا التعيين وأبدوا تذمرهم جهاراً، وسجن بعضهم بسبب ذلك، لذلك لم تدم فترة حكمه طويلاً .
    ذلك كان واحداً أشبه بالفلتة، وهي فلتة لم تتكرر في وضع الجنرال غردون لا يبدو أن تعيين هذا الكم من (الكفار) قد تم على غفلة من الخديوي.
    وقد استغل الإمام المهدي هذا الخطأ الذي لم ينتبه لخطره الجنرال غردون، ليصم الأتراك (بالكفر) ما داوموا قد استعانوا (بالكفار) ليحكموهم على رقاب المسلمين.
    ولعل الإمام المهدي لم يركز في منشوراته على الضرائب أو تجارة الرقيق أو ما إليه من الأسباب التاريخية المعلومة، بقدر ما كان يركز على (جهاد الكفار) من الأتراك وأنصارهم، ولم يجد حرجاً في ذلك، رغم أن (رئيس) الأتراك هو خليفة المسلمين كلهم.
    ذلك هو خطأ الجنرال غردون الأول حتى قبل أن يعود حكمداراً للمرة الثانية.
    * * *
    لنعد إلى السبب الذي عين بموجبه الجنرال غردون حكمداراً على السودان ليشرف على سياسة الإخلاء.
    كان عام 1883م هو عام الفيضان بالنسبة للمهدية، فبسقوط مدينتي بارة والأبيض أصبحت المهدية تحكم أول مديرية كاملة في السودان، وعزلت مديريات فشودة وبحر الغزال والسودان الاستوائي في الجنوب ودار فور في الغرب، وفي الشرق انضم عثمان دقنة للثورة وعين أميراً على المنطقة، فتحرك في منتصف العام وتلاحقت ضرباته القوية الخاطفة حتى أصبح يمثل هاجساً حقيقياً في تلك الأجزاء، ثم كانت الكارثة الحقيقية وهي استئصال حملة الجنرال وليم هيكس باشا التي كانت تضم نحو عشرة آلاف جندي كآخر جيش نظامي يمكن لمصر أن ترسله.
    وفيما كان السودان يغلي بالثورة كانت مصر تتقلب على نار مشاكلها الداخلية، فبعد سقوط الثورة العرابية واحتلال الإنجليز لمصر، في سبتمبر عام 1882م، رأت بريطانيا أن تحل الجيش المصري الذي أعتبر مشرباً بروح الثورة العرابية، وتنشئ جيشاً جديداً في مصر يتكون في أساسه من الفلاحين البعيدين عن الأحداث والموالين بطبعهم للخديوي وللباب العالي، وقدروا أن هذا الجيش لن يستطيع أن يخوض حرباً ويحسمها لصالحه قبل مرور اثني عشر إلى خمسة عشر سنة على أقل تقدير.
    إذن، كان الجيش المصري عاجزاً عن أن يمد يد العون للسودان، وقد صار من التزامات بريطانيا، وهي التي أعدمت الجيش المصري، أن تنهض بمسؤولياتها الأخلاقية في حماية ما كان يحميه الجيش المصري.
    ولكن بريطانيا كانت تعاني في هذه الفترة من مشاكلها الخاصة، كانت إحدى هذه المشاكل احتلال مصر الذي كان في تقدير جلادستون شر لا بد منه، وهو في الواقع كان شئ شبيه بالمأزق، كلما زادت مدة البقاء فيه، كلما زاد حجم التورط في المشاكل التي ترتبط بها مصر، ولذلك كانت المفاضلة، داخل دائرة الحكم البريطاني، بين الخروج من مصر بالسرعة الممكنة، وهو شئ غير مرغوب فيه بالنسبة للعقلية الاستعمارية البريطانية، وبين البقاء في مصر مع مواجهة كل المشاكل التي كانت ستواجهها مصر، ومن بينها مشكلة السودان.
    وتوالت الاقتراحات والاقتراحات المضادة.
    مصر اقترحت إرسال كتائب بريطانية وهندية وتركية للسودان، ولكن بريطانيا قالت أن لا جيشها ولا الجيش الهندي قادر على الذهاب للسودان، ولا ينصحون بإرسال جيش تركي للسودان، وبناءاً على ذلك فهم ينصحون بإخلاء السودان إلى حدود معقولة.
    مصر رفضت الاقتراح البريطاني، ولكن تحت ضغط الثورة التي التهبت في كل أنحاء السودان، وافقت على إخلاء غرب السودان، الذي كان في هذه المرحلة قد انعزل بالفعل عن حكم الخرطوم.
    حكمدارية السودان ترى أن الحفاظ على الخرطوم بات مستحيلاً، ولذلك تنصح بإخلائها والبقاء في بربر.
    مصر ترجو بريطانيا الاتفاق مع الأتراك لإرسال بعض الكتائب إلى السودان.
    بريطانيا توافق، ولكنها تضع شروطاً لتدخل تركيا في السودان، مصر ترفض إخلاء السودان.
    مجلس الوزراء البريطاني يعقد ثلاث اجتماعات موضوعها السودان، تناثرت مواعيدها بين آخر ديسمبر عام 1883م وأول يناير عام 1884م دون الوصول إلى شئ محدد لحل العقدة المستعصية.
    أنباء الخرطوم تقول إن المهدي سيتحرك قريبا نحو الخرطوم، والذعر يعم المدينة.
    أنباء جديدة تقول إن الخرطوم في طريقها للسقوط خلال أيام معدودة.
    النقاش يستمر بين بريطانيا ومصر، وفيه تطرح تساؤلات كثيرة …
    هل يمكن إعادة احتلال السودان؟
    ومن الذي سيحتله؟
    بريطانيا ترفض .. مصر غير قادرة .. تركيا لا تريد التورط فضلا عن أن أوربا لن تسمح لها .. إذن لا يمكن ..
    وطرح سؤال أساسي، وهو السؤال الأهم في كل هذه الدراما :
    هل في إمكان بريطانيا أن تسقط ما يدور في السودان من حسابها .. بمعنى هل يمكنها أن تترك نحو 24 ألف جندي مصري وأسرهم في السودان يواجهون مصيرهم ؟
    لم يجد أحد الجرأة ليقول بذلك.
    إذن هل يمكن سحب الحاميات المصرية من السودان وترك السودان يقرر مصيره؟.
    هذا فيما يبدو كان يشكل أفضل الحلول الممكنة.
    ولكن هل من الممكن سحب الحاميات المتناثرة في الأصقاع البعيدة، مثل تلك التي في دار فور والسودان الاستوائي وهي مشتتة في رقعة مساحتها نحو مليون ميل مربع، بنفس السهولة التي تسحب بها حاميات الخرطوم وبربر؟
    ومن هو الرجل الذي يمكنه القيام بمثل هذا العمل الجنوني، إذا ما صار سياسة رسمية للدولة؟.
    * * *
    كان الجنرال غردون في هذه الفترة - يناير 1884م - عائداً لتوه من فلسطين بعد عطله حاول فيها أن يحقق على الخريطة مواقع بعض النقاط التي جاءت سيرتها في الإنجيل، وفي طريقه إلى بريطانيا زار بلجيكا حيث وقع مع ملكها اتفاقا للعمل في (الكنغو) المستعمرة البلجيكية في وسط أفريقيا، وكان عمله كضابط في الجيش البريطاني أن يقدم استقالته من وزارة الحربية.
    بعد وصوله لبريطانيا بيومين، في 9 يناير 1884، قابله محرر صحيفة (بال مال غازيت) مستطلعاً آراءه حول الوضع في السودان، وبعد ممانعة قصيرة بحجة أنه قطع كل علاقة له بالسودان، وأنه متجه الآن إلى جزء آخر من أفريقيا .. تكلم، وأسهب في الكلام في لهجة قوية توحي بالثقة، عرض آراءه عن الوضع في السودان، وعن المخرج، وعن إمكانيات إخلاء السودان، وهل من الممكن الاحتفاظ به أو بجزء منه، وعن رأيه في المهدي والثورة المهدية.
    رفض غردون أولا فكرة إخلاء السودان باستثناء مديريتي كردفان ودار فور، وقال إن إخلاء السودان قد يجعل من الثورة المحلية ثورة عالمية لأن انتشارها السريع سيعبر بشرارتها البحر الأحمر إلى الجزيرة العربية وإلى الحدود الشمالية إلى صعيد مصر.
    ثم بيّن ثانيا صعوبة تنفيذ الإخلاء لأن الأربعة وعشرين ألفا من الجنود المصريين المشتتين في دار فور وكردفان في الغرب، وغندكرو في الجنوب لن يكون من اليسير انتشالهم من طوفان الثورة، هل يضحي بهم وذنبهم الوحيد أنهم أخلصوا للخديوي ؟ ثم ما ذنب النساء والأطفال ؟
    ولخص الجنرال غردون الحل في خيارين : التسليم للمهدي وترك أولئك المساكين يواجهون مصيرهم، أو الدفاع عن الخرطوم.
    وهو يرجح الخيار الثاني.
    وسئل عن رأيه في الثورة وفي المهدي.
    عن الثورة قال أنها ليست ثورة دينية، بل هي ثورة على النظام التركي، وما الدين إلاّ غشاء خارجي لا يعبر عن حقيقة اتجاهها، وقال إن السنوات الثلاثة التي قضاها في السودان (فبراير 1877م- ديسمبر 1879م) حسنت الأوضاع وأزالت الظلم وأوقفت تجارة الرقيق وعلمت السودانيين الحياة، وقال إن مغادرته للسودان وعودة الأتراك والشراكسة إلى الحكم هو السبب الحقيقي وراء الثورة.
    وعن المهدي، ولم يكن قد رآه أو سمع به أثناء وجوده في السودان قبل عامين فقط، قال إنه آله مسخرة في أيدي تجار الرقيق أمثال الياس أم برير، وأنه واجهة ورمز يقاتل تحته تجار النيل الأبيض الأقوياء.
    * * *
    من هنا بدأ خطأ الجنرال غردون الكبير، أخطأ حينما أخذ بالنظرة السطحية لتحليل الأخبار التي توردها الصحف عن السودان، فقد ازدحمت الصحف بأسماء عديدة كان الجنرال يعرفها معرفة حقيقية، ولم يكن يعرف أن عندها ميلاً إلى التدين يدفعها إلى أن تتصدر تيار الثورة، وكان يعرف أنهم من تجار الرقيق.
    الياس أم برير الذي اعتبره الجنرال غردون الرأس المدبر الخفي وراء الحركة كان تاجراً للرقيق، وكانت تجارته تمتد بين كردفان ودار فور والنيل الأبيض والخرطوم.
    وعثمان دقنة كان تاجراً للرقيق بين السودان والحجاز حتى قبض عليه وسجن في جدة، ثم أعيد إلى السودان ونفي إلى بربر.
    ومحمد خالد زقل الذي استولى على دار فور كان تاجراً للرقيق قبل أن يلتحق بالحكومة كموظف في الإدارة.
    والنور بك محمد عنقرة كان أحد قادة جيش الزبير باشا أكبر تاجر للرقيق عرفه السودان.
    وحمدان أبو عنجة كان أحد قواد جيش الزبير.
    وعبد الرحمن النجومي أقوى أمراء المهدية كان تاجراً للرقيق، وغيرهم، وغيرهم.
    ظهور هذه الرموز في واجهة الثورة المهدية ومعرفة غردون الوثيقة بهم هو الذي دفعه لإصدار ذلك الحكم المظهري دون أن يضع أي اعتبار للتيارات الحقيقية للثورة.
    أهمل القوة الحقيقية لقائد الثورة، وأهمل وجوده هو نفسه على رأس الإدارة التركية في السودان مع مجموعة من الضباط والإداريين الأوروبيين، وأهمل أن ينظر إلى فساد الحكم المتأصل دون أن يربطه بشخصه أو بالإصلاحات التي أحدثها في الإدارة.
    وأهمل عوامل أخرى عديدة أدت في مجملها إلى اندلاع الثورة، على أن جهله بقائد الثورة كان هو الخطأ الأكبر.
    * * *
    كانت مقابلة وليم توماس ستيت الصحفية مع الجنرال غردون أشبه بفتيل البارود الذي اشتعل ليشعل بحراً من العواطف تركزت حول رجل جعلت منه الصحافة البريطانية رجل المعجزات الخارقة.
    في اليوم التالي لصدور الصحيفة نشرت كل الصحف البريطانية نص المقابلة مرة أخرى، وكتبت صحيفة (بال مال غازيت) تحت عنوان (غردون الصيني إلى السودان) تتساءل: لماذا لا ترسلون غردون الصيني بسلطات واسعة إلى الخرطوم ليفرض سيطرة كاملة على البلاد، وليواجه المهدي، ولينقذ ما يمكن إنقاذه من سفينة السودان الغارقة؟.
    وأجمعت الصحف في الأيام التالية على ضرورة إرسال الجنرال غردون، وكتب السير صامويل بيكر مؤيداً إرساله، واشتركت الملكة فكتوريا في حملة الضغط الشعبي، وتكونت رابطة من أصدقاء الجنرال غردون واتصلت به وألحت عليه في قبول العمل بالسودان.
    وهكذا وجد الجنرال غردون نفسه وسط طوفان من رد فعل عاطفي يجتاح الجزيرة الصغيرة، إلاّ أنه أصرّ على الوفاء بوعده لملك بلجيكا، ولكنه أٌقنع أخيراً بتأجيل سفره إلى الكنغو ليؤدي مهمة السودان، وقد كتب غردون بخط يده حدود مهمته، وحددها بالآتي (الذهاب إلى سواكن لكتابة تقرير عن الوضع العسكري في السودان).
    كانت تصرفات الجنرال في تلك الأيام تنسجم مع تصرفات البطل المتخيل لدى الجماهير، فبعد إعطاء موافقته لمجلس الوزراء في اجتماع خاص، اتجه مباشرة إلى محطة السكة الحديد، وعندما ودعه اللورد سالسبري وزير الخارجية والجنرال أفيل عن قيادة الجيش ودوق كيمبردج، اكتشفوا أنه لم يكن يحمل في جيبه إلاّ بضع شلنات، فدفع إليه سالسبري بما كان معه من مال وأعطاه ساعته.
    وهكذا .. عندما غادر الجنرال غردون لندن في مساء 18 يناير عام 1884م ترك وراءه شعب الجزيرة الصغيرة ينام قرير العين تحت الإحساس الوهمي بأن قضيته في السودان قد وصلت إلى بر الأمان ما دام الأمر برمته قد وضع بين يدي رجل المعجزات.
    * * *
    من هو رجل المعجزات الذي نامت بريطانيا بعد أن أودعته سرها وشرفها وهمومها في مصر والسودان؟
    بعد رحيل الجنرال غردون عن بريطانيا برزت أشد صفاته غرابة على الإطلاق، كتب عنه السير إفلن بيرنج في تلك الأيام (لا يستطيع الإنسان إلاّ أن ينبهر ببساطة شخصية الجنرال غردون وصدقة، ولكن خوفي الوحيد هو من أنه خيالي جداً، كما وأنه يغير آراءه بسرعة شديدة).
    وقد أثبت الجنرال هذا التذبذب في تفكيره بصورة مرضية في الشهور التالية وذلك كونه (يفكر بصوت مسموع)، كما يقول ثيوبولد.
    كان خياله خصباً جداً، فما أن تلمع الفكرة في ذهنه حتى يثبتها تواً في أوراقه ويبعث بها في مذكرة رسمية إلى رؤسائه، ثم يكتبها في رسائل إلى أصدقائه.
    يقول ألان مورهيد (كان غردون يستخدم البرق كما يستخدم معظم الناس التخاطب، فلا تكاد تمر بخاطره فكرة حتى يبادر إلى الإبراق بها إلى بيرنج، فهو يعتزم هذا، وهو يعتزم ذلك، ثم يعتزم أمراً ثالثاً، ثم هو لن يفعل شيئاً من هذا، ثم لتدرج برقياته السابقة في أدراج النسيان، وما أن غادرت جماعته القاهرة حتى بدأت أولى هذه البرقيات تصل، وسرعان ما أصبحت بين عشرين وثلاثين برقية في اليوم، وكان بيرنج يتركها تتراكم من الصباح الباكر إلى ما بعد الظهر، وهو مرهق، حتى إذا ما فرغ من أعماله فضها معاً، وأزاح تلك التي تتعارض مع بعضها البعض بجلاء واقتصر الرد على ما كان يراه في حاجة إلى الرد) (4).
    وقد أبرق بيرنج إلى غردون ذات مرة (إنني أشد ما أكون رغبة في مساعدتك ومساندتك في كل شئ، ولكن أرى من العسير جداً إدراك ما تبغي، إن خير ما تفعله هو أن تعيد التفكير مرة ثانية في المسألة برمتها، ثم تبين لي في برقية واحدة ما توصي به) (5).
    وقد حاول بعض ممن تناول سيرة الجنرال غردون تعليل هذا التغيير السريع في تفكير غردون بأنه ناتج عن التقلب السريع في أوضاع السودان، وتجاوب غردون مع ذلك التقلب وتصرفه إزاءه، لذلك تأتي أفكاره سريعة ومتناقضة أحياناً.
    ولكن أثر هذا التناقض في الآراء كان عكسياً على السير إفلن بيرنج رجل الدبلوماسية الهادئ الذي يفكر في الأمر ببطء ويقلب وجوه المسألة مرات عديدة قبل أن يتخذ قراره.
    وقد وصف بيرنج غردون بالذكاء الحاد، ولكن عدم انتظام التفكير والتصرف دفعه لأن يقول أن رجلاً مثل غردون له شخصيته (المزاجية) ليس هو الرجل المناسب ليرسل لمواجهة مثل ذلك الموقف البالغ التعقيد في السودان على الرغم من مؤهلاته العالية.
    * * *
    عندما غادر غردون بريطانيا كان يعرف طبيعة وضعة وحقيقة قوته، كان يعرف، مثلاً، أنه يتصدر تيار الرأي العام، وهو أمر له أهميته في بلد ديمقراطي مثل بريطانيا، وقد ظن لفترات أن ذلك يعطي آراءه قوة القرارات.
    من جانب آخر فإن خياله الخصب ومزاجه المتقلب جعله يمسك بالقلم ويكتب بعض المذكرات، حاول أن يرتب فيها تفكيره عن مهمته المقبلة، في إحداها رأى أن يعلن الخديوي توفيق اتجاهه لمنح السودان إستقلالة، ويعلن غردون حكمداراً ليشرف على ترتيب الإخلاء وتسليم السلطة لبعض السودانيين، وكان البريد يحمل هذه الخواطر إلى بريطانيا، قبل أن يصل غردون إلى ميناء مرسيليا التي سيعبر منها البحر الأبيض المتوسط إلى الإسكندرية.
    وأعلم مجلس الوزراء البريطاني بهذه الآراء دون أن يهتم كثيراً بأنها ستحول مهمة الجنرال غردون من مهمة استشارية إلى مهمة تنفيذية، ربما لسبب وجيه هو أنها إذا تحولت إلى قرارات ستصدر عن الخديوي المصري، وهو وحده الذي سيتحمل مسئولية نتائجها.
    وبينما كانت السفينة تتهادى به عبر البحر الأبيض إلى الإسكندرية، كان غردون يعيد تنظيم تلك الآراء ويحددها أكثر ويعطيها طابعاً عملياً في مذكرة مستفيضة، كان قد حدد برنامج عمله في السودان في نقطتين أساسيتين، أولاهما، أن يؤكد فكرة إخلاء السودان وأن يشرف هو شخصياً على الإخلاء، وثانيهما أن ينظر في ماذا بعد الإخلاء، فقد اقترح تسليم السلطة لأبناء السلاطين الذين كانوا يحكمون السودان قبل أن تزحف جيوش إسماعيل باشا عام 1821م، وهناك استثناء يتعلق بالمدن الكبيرة كالخرطوم وكسلا والأبيض، إذ رأى ضرورة أن يستشار أهلها بخصوص مستقبلهم فيها.
    ولعل هذا التصور لم يكن إلاّ خطوة في طريق الخطأ، فالجنرال غردون يبدو وكأنه لم يتفهم مرامي حركة المهدي، ولم يقيم الثورة تقييماً سليماً، فالمهدي، في تصورات غردون قائد محلي ثار على بعض مظالم الحكم التركي، فماذا يحدث إذا أزيلت تلك المظالم؟، الذي لم يشك فيه غردون هو أن الثورة ستفقد مبرر اندلاعها وسبب قوتها.
    إن غردون لم يكن موجوداً في السودان خلال السنوات الأربع الأخيرة، ولذلك فمن الطبيعي أن يتوقف تفكيره عند السودان كما تركه عام 1879م: ضعف في الحكومة، ضرائب باهظة، قسوة في طريقة جمعها، تفشي الفساد والرشوة، انتفاضات إقليمية تسبب بعض القلق، ولكنها لا تشكل تهديداً قوياً للنظام نفسه، وهو قد طاف السودان كله على ظهر بعيره، وعرف زعماؤه وفرسانه ورجاله، ولكنه لم يسمع شيئاً عن هذا المدعي المهدية، إلاّ أنه، على كل حال، يعرف أشباهه من الدراويش، ويعرف انزواؤهم عن المجتمع، ويعرف ضعفهم وتظاهرهم بالانكسار، ويعرف أن كل همهم إقامة الخلاوي، لم يتخيل أن درويشاً يقود دراويش يمكنه أن يفعل ما فعل المهدي.
    إذن .. ما الذي حدث في فترة غيابه التي لم تتعد سنواتها أصابع اليد الواحدة حتى يتحول ضعف الدراويش ومسكنتهم وانكسارهم إلى قوة ساحقة كما ظهر على الطبيعة؟.
    ومن الطبيعي أن يتجه تفكيره عند هذا المنحنى إلى الطبقة الغنية القادرة، طبقة التجار التي أضيرت مصالحها عندما سدت في وجوههم سبل تجارة الرقيق، هم وحدهم الذين يملكون المبرر والهدف والقدرة على الثورة.
    وهذا القناع الديني، إذن، ما هو إلاّ ستار شفاف يتخفى تحته أشد الرجال.
    ولكن الجنرال لم ير أو يلمس، أو لم يكن يريد أن يرى أو أن يلمس الشعور الديني الطامح الذي بعثه الإمام المهدي، والولاء الوطني الذي أحاطه به السودانيون، والروح الجديدة للوحدة التي سرت عبر الوديان والبوادي، وصهرت بحرارتها وأصالتها كل قبائل السودان الشمالي وجزء من جنوب السودان، لقد نهض في السودان أول قائد حقيقي أدان له الزعماء المحليون بالزعامة في رضى تام.
    لم يدرك الجنرال غردون ذلك في الوقت الذي كان يظن أنه يعرف السودان أكثر مما يعرفه أهله، ولم يعرف معنى ارتفاع صيحات الجهاد في بلد مسلم، وإذا كانت بعض العوامل التاريخية قد تراكمت حول هذا المعنى وأهالت عليه أكواماً من التراب، فإن غردون لم ينظر إلى ما تحت التراب ليرى حقيقة المعدن، بل نظر إلى التراب الخارجي وظنه معدن الأمة.
    من هنا يبدو أن حقيقة الحركة المهدية كانت في اتجاه وتفكير الجنرال كان في اتجاه آخر، ولذلك، فما دام هذا الأساس الأول كان خاطئاً، فإن كل ما بني عليه كان يقوم على أساس خاطئ.
    * * *
    كان المتفق عليه أن يتجه غردون إلى مدينة سواكن عبر البحر الأبيض المتوسط وقناة السويس والبحر الأحمر، ولكن سير إفلن بيرنج كان راغباً في لقاء الجنرال غردون لاستكشاف أبعاد شخصيته عن قرب، ومدى وضوح تصوره للمشكلة، ثم للتحادث معه قليلاً واستيضاحه في بعض الأمور، فغير غردون خط سيره وقضى أياماً في القاهرة قام فيها ببعض اللقاءات البروتوكولية، فقابل الخديوي توفيق، وكان أحد الأسباب الرئيسية لعدم رغبة الجنرال في العودة للسودان أنه لم يكن راغباً في العمل تحت إدارة الخديوي توفيق لارتباطه النفسي بالخديوي السابق إسماعيل باشا، ولأنه كان يعرف أن الخديوي توفيق ما هو إلاّ أداة مسخرة بيد الدول الأجنبية، وقابل نوبار باشا رئيس مجلس النظار (مجلس الوزراء)، وشريف باشا أحد رؤساء مجلس النظار السابقين، والتقى السير إفلن وود سردار (قائد) الجيش المصري وهو في نفس الوقت ضابط كبير في الجيش البريطاني، وكان لقاءه الأهم مع السير إفلن بيرنج.
    وجد الجنرال غردون الجميع مقتنعون بفكرة إخلاء السودان للحدود المناسبة، بل وأوكلوا له تحديد هذه الحدود المناسبة، والعمل على تأمين تسليم البلاد لأبناء السلاطين السابقين، على أن يوجد نوع من الحكم الفدرالي حتى لا يصير الحكم الذاتي للسلاطين أداة لتمزيق البلاد، وبناءاً على هذا الاتفاق أصدر الخديوي توفيق فرمانين : الأول بتعيين الجنرال غردون حكمداراً عاماً على السودان، والثاني إعلان سياسة الإخلاء في مجملها، وإعلان الجنرال غردون منفذاً لها، وتسلم الجنرال مبلغ مائة ألف جنية ليتمكن بها من تصريف أموره، ووافقت الحكومة المصرية على دفع المزيد إذا دعت الحاجة إلى ذلك.
    عندما وصلت هذه التفاصيل إلى الحكومة البريطانية لم تستقبلها بارتياح، إذ كيف تحولت مهمة غردون، بهذه البساطة، من مهمة استشارية إلى مهمة تنفيذية ؟ وكيف تحول غردون من مجرد (مستطلع) إلى (إداري) ؟ ولكنها على كل حال اكتفت بعدم إبداء الاهتمام الزائد لسبب إجرائي واحد هو أن القرار صدر من الخديوي توفيق، وهو وحده الذي سيتحمل تبعاته.
    * * *
    بعد أربعة أيام مزدحمة بالمقابلات والنقاش والمشاورات والقرارات، غادر الجنرال القاهرة متجهاً إلى الخرطوم، كان طريق الرحلة يمتد بالقطار إلى أسوان، ومنها إلى كورسكو في الحدود المصرية، ثم بالجمال إلى أبي حمد وبربر، ثم بالباخرة إلى الخرطوم.
    كان غردون حينئذٍ ممتلئ بالثقة، وكانت روحه المعنوية مرتفعة إلى عنان السماء، وكان يحس بأنه رجل القدر الذي أرسلته العناية الإلهية ليفعل شيئاً عجز الآخرون عن فعله، وفي لحظة من لحظات تجليه كتب إلى أخته يقول (أحس بأنني سعيد جداً، ولذلك تجدينني دائماً أقول إذا كان الله معي فمنذا الذي يستطيع أن يصيبني بضرر). (6)
    وكانت ثقته بنفسه عالية، لذلك أبرق إلى الخرطوم قبل يوم من مغادرته القاهرة (لا تخافوا، أنتم رجال لا نساء، أنا قادم). (7)
    وهكذا عندما دخل غردون الخرطوم دخلها على أجنحة الخيال، فقد ظن أن وجوده في السودان سيكون أشبه بالقناع السحري إذا لفه حول الأحداث سيتحكم في حركتها.
    وكان عليه أن يخوض اختبارا صعباً، ذلك أن الواقع ليس كالخيال، فعندما يصل الإنسان إلى أرض الواقع عليه إما أن يعدل في برامجه وخططه ويحل مشاكله على ضوء المتغيرات الجديدة وعلى ضوء ما يراه على الأرض، أو أن يرتفع مرة أخرى مع الخيال محلقاً، فلا يستطيع رؤية المشاكل بدرجة كافية من الوضوح.
    * * *
    خلال رحلة القطار تبين لغردون أن الأمير عبد الشكور ليس هو الشخص المطلوب وجوده في السودان، كان غردون قد صحب معه الأمير عبد الشكور، وهو أحد أحفاد سلاطين الفور السابقين لينصبه ملكاً على دار فور بعد إحياء المملكة مرة أخرى، ولكن الأمير كان مشغولاً بملذاته الخاصة وسط زوجاته وسراريه الثلاثة وعشرين، وكان لا يكاد يفيق من الخمر إلاّ ليشرب من جديد، مما أضطر غردون للتخلص منه في أسوان تحت شعور الإحساس بأنه لا يمكن أن يتصدى للمهدي أمثال هذا الأمير.
    وشعر بحاجته الشديدة للزبير.
    في أول فبراير وصل كورسكو، وهي آخر محطة كبيرة في حدود مصر الجنوبية، ومن هناك كتب لملك بلجيكا يخبره بأنه متجه جنوباً إلى الخرطوم ليتسلم عمله في الكنغو البلجيكي بعد نهاية مهمته في السودان، ومن هناك سيعمل على ضم مديريتي بحر الغزال والسودان الاستوائي إلى الكنغو حتى يستطيع السيطرة على منابع الرقيق ويجففها، وقد أخطأ السير إفلن بيرنج في فهم محتوى هذه البرقية، إذ خشي أن يقوم غردون بإحدى شطحاته، فيبحر إلى الكنغو في أي لحظة قبل إتمام مهمته في السودان، فكتب إليه محذراً من مغادرة الخرطوم إلاّ بإذن سابق منه شخصياً.
    * * *
    بعد نحو عشرة أيام قضاها غردون على ظهر بعير عابراً صحراء بيوضة، وصل بربر في 11 فبراير عام 1885م، وفي بربر أصدر عدة قرارات كخطوات قد تساعده في تنفيذ مهمته، وكانت كلها قرارات مجانبة للصواب وأدت إلى رد فعل عكسي ذلك أنه أعلنها بناءاً على تصوراته السابقة وقبل أن يرى الواقع الجديد في السودان ويستكشف أبعاد حقيقته.
    أولاً:
    أعلن فرمان الخديوي الخاص بسياسة إخلاء السودان، وإنشاء مجلس للأعيان برئاسة حسين باشا خليفة العبادي مدير بربر، وهو يريد من وراء ذلك أن يجعل سياسته أمراً واضحاً للجميع، وكان يظن أ، الشيوخ والأعيان سيهللون لهذا الاستقلال وبذلك تشتد عزيمتهم لمقارعة المهدي، ولكن الذي حدث كان عكس ذلك تماماً، إذ فهم الجميع أن ذلك الإعلان يعني أن مصر قد أصبحت ضعيفة للحد الذي لا تستطيع فيه مواجهة المهدي، ولذلك فضلت الانسحاب من السودان، بعد أن تسلم السلطة لهؤلاء الذين اختارتهم، إذن فقد بدأت إحدى السفينتين المتصارعتين في الغرق، ولن تبقى غير السفينة المنتصرة، ولا يوجد مبرر لمن لم يتخذ قراره بعد، أن يتردد في اللجوء إلى السفينة الناجية، ولم يكن غريباً بعد ذلك أن تستسلم بربر للمهدي بعد أقل من مائة يوم على إعلان قرار غردون.
    ثانيا :
    تبع ذلك إعلان فرمان آخر من الخديوي بتعيين المهدي ملكاً على كردفان، ومن بربر أرسل غردون كسوة الشرف الخديوية المزركشة، والخطوة تعكس قبول غردون بزعامة المهدي المحلية في كردفان بصفة خاصة، أو في غرب السودان على الأكثر، وتمنى غردون في رسالته للمهدي أن يسود السلام والهدوء بينهما، ومن الواضح أن غردون باشا لم يكن مدركاً لأبعاد شخصية الإمام المهدي، الصوفي الزاهد الذي لم يكن طامعاً في الملك، ولا مدركاً لأبعاد الحركة المهدية كحركة وطنية انبثقت من ميدان الصوفية لأن لغة الصوفية كانت اللغة السائدة التي يفهمها الجميع، ثم ما حاجة المهدي لفرمان تعيينه على كردفان، وهو قد انتزع المديرية بقوة الثورة قبل أكثر من عام، وانتزع دار فور، وعزل السودان الاستوائي وبحر الغزال والشرق، وقواته تتحرك في حوض النيل من ملكال إلى بربر؟
    ثالثا :
    أصدر قرارا بإبطال الإعلان الخاص بإباحة تجارة الرقيق حتى عام 1889 ثم تحريمها بعد ذلك، هذا الإعلان كان قد أصدره الجنرال غردون في وقت سابق من عام 1877م، وكان يقصد بإباحة تجارة الرقيق أن يسحب البساط من تحت قدمي المهدي، فقد كان يظن أن المهدي لا يتعدى أن يكون رمزاً أو مظهراً خارجياً، وإن السلطة الحقيقية كانت في أيدي تجار الرقيق، ولذلك فلو سمع تجار الرقيق بهذا القرار وعادوا يبحثون عن مصالحهم التجارية، وانفضوا من حول المهدي .. فأي قائمة ستقوم له بعد ذلك ؟ ولكن بعض الكتاب الإنجليز حاولوا تعليل هذه الخطوة بأن القرار كان مجرد كلام، ذلك لأن غردون في الواقع كان أعجز من أن يوقف تجارة الرقيق كما كان يأمل، فضلاً عن أنه كان يتمنى أن يستميل شيوخ السودان بتسامحه كما أنه كان موجها لطبقة التجار الأقوياء في السودان.
    * * *
    بعد هذا السيل من القرارات غير الموفقة، تقدم الجنرال غردون نحو الخرطوم، وعندما دخلها في يوم 18 فبراير أستقبل استقبال الأبطال، فقد كانت إدارة الخرطوم في حاجة لمن يرفع الروح المعنوية لمدينة يملأها الرعب واليأس، ولذلك فقد أستقبل كمنقذ يبعث الطمأنينة في أرجاء المدينة.
    وفي الخرطوم أعاد إعلان قرارات بربر السابقة، وأضاف إليها قرارات جديدة، فأعلن استقلال السودان التام عن مصر، وهو قرار لم يخطر به مصر مسبقا، فقد سبق أن اقترح على السير إفلن بيرنج، وهو في أبي حمد، إقامة حكم ذاتي في السودان مع بقاء السيادة المصرية لتعيين الحكام وإقامة محكمة عليا للاستئناف، ولكنه تراجع عن هذا الاقتراح حالما وصل إلى الخرطوم، وكان يعلل تصرفه بأن مصر كانت أضعف من تقوم حكما في السودان، وكان تفسيره أن قيام حكم محلي في السودان يعني قيام كيانات صغيرة، وهو ما يعني الفوضى والحروب، إذن فينبغي أن توجد دولة تشرف على هذا الاستقلال، ولم يجد أمامه غير بريطانيا وتركيا.
    ثم أصدر قراراً خاصاً بالضرائب، فألغى كل ديون الضرائب السابقة، وأعفى المواطنين من الضرائب لعامين قادمين، وأتبع ذلك بإحراق دفاتر ديون الضرائب مع السياط وأدوات التعذيب الأخرى.
    يومها وقف غردون منتصب القامة شامخاً بأنفه أمام شعب الخرطوم، وخاطب الجمع المحتشد حوله بخطبة فيها من الحزم والعزم والكرم والجاذبية .. الشيء الكثير، قال (لقد جئت بلا جنود، ولكن الله معي، لأقضي على الشرور في السودان، ولذلك فلن أحارب بأي سلاح إلاّ سلاح العدل). (

    ــــــــــــــــــــــ
    (1) يناير 1857م- يناير 1859م.
    (2) رئيس وزراء بريطانيا.
    (3) المهدية، ثيوبولد، ص
    (4) النيل الأبيض، ألان مورهيد، ص
    (5) المرجع السابق، ص
    (6) المهدية، ثيوبولد، ص 84.
    (7) المرجع السابق، ص 84.
    ( المرجع السابق، ص 88.
                  

02-04-2004, 12:37 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    محمد أحمد المهدي .. هل هو المهدي المنتظر
    السؤال الذي تضاربت عليه الإجابات واتخذ منه كل السودانيون موقفا محددا، وعلى ضوء تلك الإجابات المتضاربة آمن بعضهم بالمهدي وانخرطوا في جيوشه، ووقف البعض الآخر على النقيض وحارب المهدي. هذا السؤال هو : هل الشيخ محمد أحمد بن عبد الله هو المهدي المنتظر؟
    الإجابة على السؤال كانت مهمة لأنها شكلت الحد الفاصل الوحيد بين من هو مع المهدي ومن هو ضده، فجميع المحاربين والمجاهدين والأحباب والمريدين الذين رفعوا راية المهدية لم يفكروا قط في الأسباب والدوافع المتعددة التي (جاء) المؤرخون فيما بعد يعددونها لأسباب اندلاع الثورة، الناس انخرطوا في سلك الثورة لأنهم آمنوا بمهدية المهدي.
    وكان هذا يكفيهم.
    ولكن الكثيرين أيضا رفضوا الثورة، رفضوها فكرا وفلسفة وقيادة.
    وإذا كانت الأسباب قد تعددت وراء رفض الرافضين فإن نعوم شقير رفضها لسبب محدد وواضح، ونعوم شقير تخرج من (الجامعة الأمريكية) في بيروت عام 1883م، وفي نفس العام التحق بالجيش المصري، وفي عام 1890م انتقل إلى فرع المخابرات بالجيش، وكان يقود هذا الفرع الضابط المقتدر الكولونيل ونجت باشا. وقضى شقير في خدمة المخابرات نحو عشر سنوات بدأ في أثناءها يعد كتابه المعروف (جغرافية وتاريخ السودان)، وفي الكتاب أفرد شقير فصلاً لمناقشة فكر الثورة المهدية، وليجيب على سؤال واحد: هل الشيخ محمد أحمد هو المهدي المنتظر؟
    في نقاشه لهذا الموضوع خلع نعوم شقير عباءة المؤرخ، فلم يناقش الموضوع نقاشاً تاريخياً يخضع للدرس والتقييم والتقصي، بل كان في الواقع يعرض رأياً سياسياً في الثورة المهدية، وقد ألحت بعض الظروف على نعوم شقير آنذاك أن يقدم تلك المناقشة.
    ففي السنوات الأولى لهذا القرن لم يكن يخفى على أي مراقب للأحداث أن يرى أن روح المهدية لم تنته رغم الهزيمة العسكرية وسقوط دولة المهدية، صحيح أن الكيان السياسي الذي كان يوجه الأنصار وينظم طاقتهم قد انتهى وزال، ولكن روح المهدية وشعائر الأنصار والسخط والغيظ المكتوم في الصدور، ظلت كلها تغلي وتتفاعل تحت السطح، تنتظر اللحظة المناسبة للانفجار، وقد انفجرت بالفعل في فقاعات صغيرة متعددة قبل أن تنضج ظروفها الموضوعية، انفجرت في حادثة الشكابة في أغسطس عام 1899م، وراح ضحيتها الخليفة شريف ابن عم الإمام المهدي وخليفته الرابع، واثنين من أبناء الإمام المهدي.
    وفي عام 1900م حدثت حركة علي عبد الكريم في أم درمان، ثم حركة الشريف محمد الأمين في تقلي بجبال النوبة عام 1903م، ثم فيما بعد حركة عبد القادر ود حبوبه في منطقة الحلاوين بالجزيرة.
    وكانت أجهزة الرصد في الدولة الجديدة تتوقع هذه الإنفجارات وتنتظرها، ولكنها في نفس الوقت كانت تبحث عن علاج، فمعالجة الإنفجارات الثورية لا تتم عبر الردع المسلح فقط، ذلك لأن الثورة فكر أولاً، ثم تنظيم ثوري بعد ذلك، وإذا كان التنظيم أو الكيان الثوري يعالج أمره بالردع، فإن الفكر الثوري لا يعالج أمره إلاّ بالفكر المضاد.
    ولكن عندما ناقش نعوم شقير فكر الثورة المهدية وأجاب على سؤالنا: هل الشيخ محمد أحمد هو المهدي المنتظر .. لم يأت بجديد، وإنما كان يعيد عرض فكر خصوم الثورة المهدية الذي انتظم تحت توجيه الحكمدار المقتدر عبد القادر باشا حلمي عام 1882م.
    لقد تغلبت في نعوم طبيعة عمل رجل المخابرات على طبيعة المؤرخ، وضابط المخابرات أحد التروس الفعالة في الدولة الجديدة، فنزل ضابط المخابرات إلى ميدان القتال يحارب العدو القائم، وهو هنا بقايا الثورة المهدية.
    وكان على شقير هنا قيادة الحرب النفسية، وأول عمليات الحرب النفسية التشكيك في أصل الثورة المهدية، وأصل دعوتها، وفي جدواها، وإثارة غبار كثيف حولها، ورسم علامات استفهام يصعب تجاوزها.
    * * *
    وإذا عدنا إلى قصة الإجابة على السؤال: هل الشيخ محمد أحمد هو المهدي المنتظر حقيقة .. من بدايتها، سندخل في ترتيب تاريخي لنصل إلى الزمن والظروف التي أثير فيها السؤال لأول مرة.
    ففي أغسطس عام 1881م هاجر الإمام المهدي إلى جبل قدير وجعل من تلك المنطقة الحصينة ملاذا تحتمي به قوات الثورة، ثم قاعدة لانطلاق الثوار فيما بعد، ومنه انقض على حملة راشد بك أيمن مدير فشودة وأبادها في ديسمبر من نفس العام، وفي مايو عام 1892م سحق حملة يوسف بك الشلالي.
    ثم انتقلت الثورة إلى الجزيرة، حيث أشعلها عامر المكاشفي، وإلى أبي حراز ورفاعة مع الشريف أحمد (ود) برجوب، وقام فضل الله (ود) كريف وعبد الباسط (ود) الجمري في غرب وجنوب الجزيرة.
    لقد دوى صوت المهدي في قدير فتجاوبت مع صداه أركان السودان الأربعة، وازدحمت الطرق إلى قدير بالمهاجرين والمبايعين والمجاهدين، وانتشرت أخبار الكرامات الخارقة، وشاع أن المهدي يحارب بسيف القدرة، وأنه يحول رصاص جنود الحكومة إلى قطرات من الماء، فلا يضر أصحابه، وأن النار تخرج من سيوف ورماح الأنصار فتحرق أجساد جنود الأعداء، وقال أنصاره أنهم رأوا اسم الإمام المهدي مكتوباً على ورق الشجر وبيض الدجاج.
    هذا جانب.
    من جانب آخر كان للحكومة سطوة على الناس، ولم يسمع أهل السودان عن رجل خرج على السلطة وأفلح في مسعاه، كانت يد الحكومة دائماً هي الطويلة والقادرة والباطشة.
    الآن انقلب الأمر، وتلقت الحكومة ثلاث هزائم متتالية لم يتخللها نصر واحد، وهي ليست هزائم عادية، وإنما كانت تباد فيها حملات الحكومة إبادة أشبه بالاستئصال.
    وعلى يد من ؟
    على يد فقيه فقير، ضعيف، زاهد، غير معدود المكانة بين مشاهير السودان وزعمائه وفرسانه.
    وبمن حارب ؟
    حارب بمجموعة من (الدراويش)، كما يسمونهم، فالدراويش استأسدوا، وهذا الاستئساد هو الذي رفع (ترمومتر) الثورة بين المواطنين، إذ كيف استطاع ذلك الشيخ الزاهد في الجزيرة أبا أن يأتي بمجموعة من المستضعفين الذين لم يعتادوا حمل السلاح من قبل، ولم يعدوا أصلاً لخوض غمار الحرب .. ليتحدى بهم الحكومة؟
    هي إذن الكرامات البينة والعلامات الدالة على مهدية الإمام محمد أحمد المهدي.
    وهكذا انفجر بركان التأييد للمهدي، وزحفت إليه الجموع تطلب الهجرة، والبيعة، والجهاد، والشهادة.
    انقلبت الموازين، وحلت روح الجهاد محل فكر الاستسلام، ولم يعد هناك شك في أن الشيخ الزاهد محمد أحمد بن عبد الله هو مهدي الله المنتظر، وأن من ينهض معه ويقاتل في صفوفه ويقتل فهو شهيد نصيبه الجنة ومأواه بين الحور العين، فسموا التجار الذين تخلفوا عن الجهاد بـ (كلاب الدنيا)، وصار ترنيمهم عند لقاء الأعداء (الجنة جات قريبة، تحت المدفع وجنب الزريبة).
    عند هذا الحد أحست حكومة القاهرة بخطورة الموقف، وعلمت أن، الأمر جد لا هزل فيه، فالتفتت إلى كنانة رجالها، فعجمتها، واختارت منها من كان أصلبهم عوداً وأمرهم مذاقاً وأقدرهم على معالجة الوضع، ووقع اختيارها على الفريق عبد القادر باشا حلمي.
    * * *
    كان عبد القادر باشا عسكرياً بالطبع والفطرة، إذ أنه سافر عام 1851م إلى فيينا لدراسة الطب استجابة لرغبة أهله، ولكنه عندما عاد لمصر رفض أن يعمل في مجال تخصصه العلمي، وأختار الجيش، فدخل فرع الهندسة العسكرية، وتخرج عام 1856م، وصعد درجات الترفيع العسكري بسرعة فائقة لما أبداه من كفاءة ومقدرة، وسافر عام 1864م إلى فرنسا في بعثة عسكرية، وكان من بين قلة من الضباط ألقى الخديوي إسماعيل على عاتقهم مهمة تطوير الجيش المصري وترقيته، ووصل في صعوده السريع إلى الرتب العسكرية العليا، فنال رتبة لواء عام 1874م، وفي عام 1878م نال رتبة فريق.
    لهذا اختير عبد القادر حلمي لمعالجة ظروف السودان الصعبة : كفاءة عسكرية عالية، عقلية (مصرية ـ أوروبية) متفتحة، وتصميم على إحراز نصر عسكري كبير يختم به حياته المهنية.
    شيئان فقط كانا ينقصان عبد القادر باشا في مهمته الجديدة :
    * فهو (أولا) رغم أنه خاض معارك عسكرية عديدة إلاّ أن معاركه كانت ضمن حروب تقليدية، تتعارك فيها جيوش منظمة ضد جيوش منظمة، وفي كلمات أخرى هو لم يجابه حروب على نمط حروب العصابات، ولم يصارع ثورة.
    * وهو (ثانيا) لم يعرف ميدان هذه الثورة، إذ أنه لم يعرف السودان إلا معرفة سماع، فكان هذا نقصاً واضحاً في عدته للنصر.
    رغم هذا نستطيع أن نقول أن عبد القادر باشا حلمي يعتبر، من بين حكمداري السودان (التركي ـ المصري)، أقدر حكمدار يتولى شؤون السودان طوال السنوات الخمسة وستون، باستثناء الجنرال غردون.
    * * *
    وصل عبد القادر باشا إلى السودان، وهو يمني النفس بمعارك ثم انتصارات كاسحة، وهو على كل حال يملك عدة النصر : خطة، وتدريب، وتكتيك، ومقدرة على تحريك الحرب النفسية.
    ـ الخطة : قرر أن يحارب ضمن حدود معلومة، وألا يشتت قواته القليلة في أصقاع السودان النائية.
    ـ التدريب : بدأ يشرف عليه بنفسه لتحقيق قدر عال من الكفاءة والانضباط.
    ـ التكتيك : يقوم على قاعدة الهجوم المفاجئ الكاسح والضربة العنيفة الموجعة.
    أما بالنسبة للحرب النفسية (وهي ما سنتكلم عنه الآن) فقد قرر الحكمدار أن يقوم بهجوم مضاد على معاقل المهدي الفكرية، وعلى دعاياته المدمرة لروح جنوده المعنوية، والتي تبذر بذور الهزيمة في جنود الحكومة حتى قبل أن تبدأ المعركة في الميدان.
    * * *
    اعتمد المهدي على (ادعائه) المهدية على فكرة دينية، والمسلمون الذين ارتبطوا بالمهدي يعرفون هذا جيدا. من هذا المنطلق بدأت حملة الحكمدار عبد القادر باشا الإعلامية التشكيكية، فهناك ثغرات عديدة في تصورات محمد أحمد لمن يريد أن يفكر، وهذه الثغرات يمكن أن تملأ بالشكوك وعلامات الاستفهام، ويمكن أن يثار حولها غبار كثيف يحجب الرؤيا.
    إذن انطلق عبد القادر باشا من فكرة واضحة في ذهنه، فاتجه إلى الحكومة المصرية التي تحركت وجمعت علماء الأزهر واستصدرت منهم فتوى شرعية في تكذيب محمد أحمد، وعندما صدرت الفتوى نشرتها حكومة الخرطوم على نطاق السودان ومصر.
    وتحركت حكومة الخرطوم مرة أخرى نحو الحدود البعيدة، نحو الآستانة عاصمة الخلافة الإسلامية، واستصدرت منشوراً من السلطان عبد الحميد الثاني، خليفة المسلمين، كذب فيه دعوى محمد، ووزع المنشور في السودان وفي كل أنحاء العالم الإسلامي.
    وفي الخرطوم جمع عبد القادر باشا العلماء وحدثهم في أمر مقاومة المهدي وتكذيب دعواه، فصدرت فتوى جماعية من مجموع العلماء، بالإضافة لعدة رسائل من بعض العلماء كذبت دعوى المهدي، وقالت أنه وإن ثبت لديها شرعياً فكرة ظهور المهدي المنتظر، إلاّ أن شروطه وأوصافه لا تنطبق على محمد أحمد، وأن وقت ظهوره لم يحن بعد، وطبعت هذه الرسائل في مطبعة الحجر في الخرطوم، ووزعت في كل أنحاء السودان.
    كانت أهمها رسالتان هما اللتان نستعرضهما الآن :
    * رسالة المفتي الشيخ شاكر الغزي وعنوانها (في بطلان دعوى محمد أحمد المهدي).
    * ورسالة القاضي الشيخ أحمد إسماعيل الأزهري وعنوانها (النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام).
    * * *
    الشيخ شاكر الغزي هو مفتي مجلس استئناف السودان، وهو بهذا المنصب يتصدر المناصب الدينية الرسمية في السودان، لذلك كان من السباقين في التصدي للمهدي، وقد كتب رسالته ليؤكد أن (ما ادعاه محمد أحمد من المهدية بعيد عن الصدق بالكلية، ولم يصدقه فيما ادعاه إلا جهلة العوام والأوباش الطغام).
    كانت الرسالة عبارة عن مقدمة وفصلين وخاتمة.
    في المقدمة تحدث عن وجوب طاعة ولي الأمر والسلطان لأن "الدين والسلطان أخوان متلازمان"، وبعد أن استعرض بعض الآيات التي تحض على وجوب طاعة ولي الأمر، دخل في الفصل الأول وعنوانه (في بطلان دعوى محمد أحمد المهدي).
    يقول الشيخ إن للعلماء قولان في خروج المهدي المنتظر في آخر الزمان : بعض يقول بعدم خروج المهدي، والبعض الآخر يقول بخروجه، وهو يستعرض الرأي الذي يقول بخروج المهدي المنتظر ليكون مدخلاً للنقاش، فهو يرى أنه حتى لو سلم بإمكانية ظهور المهدي فهذا الزمن ليس بزمانه، ومحمد أحمد ليس هو المهدي المنتظر لمخالفته له في أوصافه، وفي مكان مولده، ومكان خروجه، وفي وزرائه ورجاله.
    فمولد المهدي المنتظر في مكة المكرمة، كما تقول الكتب، وبعضها تقول في المدينة المنورة، وقيل يظهر المهدي في مكان يقال له (ماسة)، بينما الناس يعرفون أن محمد أحمد قد ولد في دنقلا (مدينة في شمال السودان)، وليس في مكة أو المدينة، وما دام قد ظهر في (الجزيرة أبا) أو في (جبل قدير) وليس في (ماسة) … فليس هو إذن بالمهدي المنتظر.
    وقيل ـ يستمر الشيخ شاكر ـ إن المهدي المنتظر ينحدر من الشجرة النبوية الشريفة، بينما المعروف أن محمد أحمد (دنقلاوي) الأصل، ولا يمت بصلة قرابة للشجرة النبوية المطهرة.
    وقيل في وصف المهدي المنتظر أنه أفلج الثنايا، أجلّ الجبهة، وجهة كالكوكب، ومحمد أحمد ليس كذلك.
    وقيل إن المهدي شاب أكحل العينين، أزج الحاجبين، أقنى الأنف، كث اللحية، على خده الأيمن خال، هذه الأوصاف اقتبسها الشيخ الغزي من كتب الصوفية التي تناولت أوصاف المهدي المنتظر، دون أن يشير إلى مرجع بعينه، وعقب عليها بقوله إن محمد أحمد لم يتصف بأي منها.
    وقيل ـ يواصل الشيخ الغزي وصف المهدي المنتظر ـ إنه يشبه النبي صلى الله عليه وسلم في الخَلق، وهو أقرب إليه في الخُلق، وقال إن (المعروف من المروي عن أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم أن لونه أبيض مشرب بحمرة، ولون محمد أحمد ليس أبيضاً، ومن "أعتقد أن لون نبينا صلى الله عليه وسلم كلونه (أي كلون المهدي) فقد إنتقصه، وحكم منتقصه صلى الله عليه وسلم الردة).
    هذا من حيث الخَلق.
    أما من حيث الخُلق فلا وجه للمقارنة بين خُلق النبي عليه السلام وخُلق محمد أحمد، كما يقول الشيخ الغزي، فالنبي عليه السلام حقن دماء المسلمين، بينما محمد أحمد يقتل المسلمين ويستبيح أموالهم ودماءهم ويدفعهم لقتل بعضهم البعض.
    ويستشهد الشيخ المفتي بحديث أخرجه الإمام البخاري في صحيحه يصف حال الدنيا عند ظهور المهدي المنتظر، ويصف البلاء الشديد الذي يلحق بأمته صلى الله عليه وسلم، وهو بلاء لم يسمع عنه من قبل حتى لا يجد الرجل ملجأ، فيبعث الله رجلاً من أهل بيته صلى الله عليه وسلم يحبه ساكن الأرض وساكن السماء، ثم يصف حال السودان، ويتساءل: هل وصل الحال فعلاً حداً يستدعي أن يبعث الله تعالى المهدي المنتظر ؟ بالطبع كانت الإجابة بلا، فالبلاء لم يعم، والظلم لم يشمل أحدا بعد (وأنا وأنتم في رغد من العيش آمنين مطمئنين، وملجأنا وملجأ العامة موجود، وهو ولي النعم الخديوي الأعظم وسعادة أفندم ناظر ديوانه وحكمدار عموم الأقاليم السودانية عبد القادر باشا بلغه الله ما يشاء).
    أما الفصل الثاني فقد تناول فيه النهي عن إتباع محمد أحمد، وفيه يصف أنصار المهدي بأنهم (من الذين استحكمت عليهم عوائد التوحش، ووقعوا في ظلمات الجهل، وطمعوا فيما في أيدي الناس، وباعوا دينهم بدنياهم، فجملة أتباعه من حمقى العربان، وحمقى الدراويش الذين هم أضل من الأنعام سبيلاً، لا بصيرة لهم ولا معرفة ولا دين).
    ثم دعا الناس إلى رفض إتباع هؤلاء الجهلة، وذكرهم بأن يد الحكومة طويلة وباطشة، وأنها قادرة على إرسال الألوف وراء الألوف من الجنود، وأن وقوع الفشل في بعض العساكر ليس فيه تأييداً لدعوى محمد أحمد، لسبب بسيط هو تهاون بعض الضباط وإهمالهم.
    ولا ينسى الشيخ شاكر في غمرة تهديده أن يذكر بمصير من ثار في تلك الأيام في بحر الغزال ودار فور، وكيف لحق بهم البطش السلطاني.
    أما الخاتمة فهي في وجوب قتل الخوارج ونصر السلطان، وفيها يتحدث عن إجماع أئمة الدين على اعتبار الخروج من الكبائر، ولو جار السلطان لا يجوز قتاله، و(من فارق الجماعة شبرا فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه).
    ويستشهد بالأثر (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القول ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ويمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قاتلهم وقتلهم، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شئ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم).
    * * *
    أما الشيخ أحمد إسماعيل الأزهري (1810م-1882م) فهو شيخ الإسلام وقاضي عموم غرب السودان، رسالته سماها (النصيحة العامة لأهل الإسلام عن مخالفة الحكام والخروج عن طاعة الإمام)، وهو من علماء الأزهر، ولد في مدينة الأبيض، وكان لوالده فيها مكانة دينية كبرى، وقد هاجر إلى مصر حيث قضى نحو ثلاثة عشر عاماً طالبا بالأزهر ثم مدرسا فيه، وعاد إلى السودان حيث عين قاضيا شرعيا، وعندما اشتعلت الثورة المهدية وقوى ساعدها في كردفان في أواخر عام 1881م، وقف معارضا لها، ثم قرر الهجرة إلى مصر، وفي الخرطوم استبقاه الحكمدار محمد رءوف باشا، واستكتبه خلفه عبد القادر باشا هذه الرسالة، ثم عينه قاضياً لعموم غرب السودان، وصحب حملة أرسلها عبد القادر باشا إلى كردفان لتفك الحصار عن مدينتي بارا والأبيض، فاشتبكت الحملة مع الأنصار خارج مدينة بارا، وهزمت، وقتل الشيخ الأزهري.
    بدأ الشيخ رسالته بمقدمة طويلة شرح فيها معنى طاعة الإمام، ووجوب تلك الطاعة حتى وإن أتصف الإمام بالفسق وزالت عنه صفة العدالة، فبيعة الإمام باقية وواجبة ما بقي الإمام على الإسلام، فإن كفر نقضت بيعته وسقطت طاعته.
    بعد ذلك ساق الشيخ الأزهري أثنى عشر دليلا على عدم صحة دعوى محمد أحمد.
    تحدث عن مولد المهدي المنتظر في الحجاز، وعن أوصافه، وهو ما ذكرنا من قبل، وقال أنه لا يكاد يوجد تشابه بين المهدي المنتظر ومحمد أحمد.
    ثم ذكر قول العلماء بظهور المهدي المنتظر بعد أن يخسف القمر في أول ليلة من رمضان وتكسف الشمس في النصف منه، وقال : المعلوم أن محمد أحمد فاه بدعوته لأول مرة في الجزيرة أبا في شهر شعبان، وأن رمضان جاء بعد ذلك، ولم ينقل عن أحد قول بخسوف القمر في أول ليلة منه كما لم تكسف الشمس في منتصفه.
    ثم أورد الشيخ الأزهري قول العلماء أن المهدي المنتظر يخرج في أقصى المغرب ويمشي النصر بين يديه أربعين ميلاً، راياته بيض وصفر، فيها رقوم، وفيها اسم الله الأعظم، وتنبعث هذه الرايات من ساحل البحر في مكان يقال له (ماسة) يقع بالقرب من جبل المغرب، وأن قومه مكتوب لهم النصر لأنهم حزب الله، بينما محمد أحمد لم يظهر في المغرب، بل جاء من أقصى شمال السودان، ولم يخرج من (ماسة)، بل خرج من (قدير)، وإذا كان أنصاره يقولون إن جبل قدير أيضاً يقال له جبل (ماسة)، فإن الرد على هذا الادعاء سهل ميسور، فإن جبل قدير لا يقع بجانب بحر، أما أنصار المهدي المنتظر وحملة راياته فهم قوم منصورون، بينما أنصار محمد أحمد خذلوا وقتلوا على أيدي جنود الحكومة.
    ويستمر الشيخ الأزهري في (تفنيد مزاعم) محمد أحمد، يقول العلماء أن ظهور المهدي المنتظر يأتي بعد موت خليفة المسلمين، والجميع يعلم أن خليفة المسلمين السلطان عبد الحميد لم يمت.
    ويقول العلماء أن المهدي المنتظر يظهر في وقت يشتد فيه البلاء الشديد من سلاطينهم حتى لا يجد الرجل ملجأ، بينما الظاهر للعيان والمشاهد لكل إنسان أنه في ظل حكومة الدولة العثمانية لم يحصل بلاء من الحكام يستوجب ظهور المهدي المنتظر.
    وتحدث الشيخ الأزهري عن وزراء المهدي المنتظر، وهم على رواية (سيدي الإمام الأكبر محي الدين بن عربي) من الأعاجم وليس فيهم عربي، لكنهم لا يتكلمون إلا العربية، لهم حافظ من غير جنسهم، ما عصى الله قط، هو أخص الوزراء، وإذا كان محمد أحمد قد خاطب بعضا ممن حوله بالوزارة، فإن ذلك دليل على عدم مهديته لأن وزراءه لا يشبهون وزراء المهدي المذكورين في الكتب.
    وقال أنه ثبت أنه عند ظهور المهدي المنتظر ينادي فوق رأسه ملك : هذا المهدي خليفة الله في الأرض فأتبعوه، فتقبل عليه الناس، ويشربون حبه، وأنه يملك الأرض شرقها وغربها، وإن الذين يبايعونه أولا بين الركن والمقام بعدد أهل بدر، ثم يأتيه أبدال الشام ونجباء مصر وعصائب أهل الشرق، ويبعث الله له جيشاً راياته إلى الكوفة، وأن الله يؤيده بثلاثة آلاف من الملائكة، وأن أهل الكهف من أعوانه.
    والسؤال .. هل ظهر لمحمد أحمد شئ من ذلك؟
    والإجابة بالطبع لا، كما يقول الشيخ الأزهري.
    ويتابع الشيخ كتب الصوفية التي أحصت كل حركات المهدي المنتظر وسكناته وأنفاسه، تقول هذه الكتب أن الكنوز تفتح في زمان المهدي، وأنه يضع الجزية عن كاهل الناس، وأنه يقتل كل من لم يسلم، وهذا، كما يبدو لكل ذي عينين ليس عهد المهدي المنتظر.
    وأخيرا يختم الشيخ بحثه بما قيل عن تواتر الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في أمر خروج المهدي المنتظر، وأنه من أهل بيته، وأنه يملك سبع سنين، وأنه يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وأنه يخرج مع سيدنا عيسى المسيح ويساعده على قتل المسيح الدجال بباب له على أرض فلسطين، وأنه يؤم هذه الأمة ويصلي سيدنا عيسى خلفه.
    * * *
    لعل أول سؤال يتبادر إلى ذهن القارئ بعد استعراض هاتين الرسالتين هو : هل محمد أحمد حقيقة هو المهدي المنتظر، أم أن الشيوخ كانوا أقدر على كشف دهائه ؟
    أو، بوضع السؤال في صورة مباشرة، هل نجحت حملة عبد القادر باشا الدعائية في بلبلة أفكار أتباع المهدي ؟
    أو على الأقل هل نجحت في تعتيم الرؤيا من حوله ؟
    أو إلى أي حد نجح الحكمدار في خلق بلبلة فكرية وتشويش يمكن أن يزعزع ثقة الثوار في زعيمهم وفي مبادئهم ؟
    ولعل الجواب كان واضحاً جداً، ومباشر جداً، فهذه الحملة لم يكن لها أثر يذكر في وقف الثورة أو عرقلة زحفها.
    إذن الإجابة عند السودانيين كانت قاطعة : نعم إنه المهدي المنتظر.
    ولكن لننظر إلى الموضوع بشئ من البراح، ولتكن نظرتنا من زوايا متعددة حتى نستوعب كل جوانبه.
    في البداية نضع أمامنا ثلاثة ملاحظات :
    * أولا، إن الثورة التي ارتفع شعارها فوق سماء السودان، كانت - قبل الخوض الصوفي أو الفقهي في صحتها أو عدم صحتها دينياً - هي حركة سياسية لتحرير السودان، وأن هذه الحركة ارتدت الزى السوداني، الزى الصوفي آنذاك، فتكلمت بلغة يفهمها الجميع، وصبت فكرها في قالب يمكن أن يمارسه الجميع وينصهروا فيه عن فهم واقتناع.
    * ثانياً، إن الثورة المهدية حركة عسكرية لتحرير السودان من حكم أجنبي لم يبد عليه، بعد أن حكم السودان نحو خمس وستين عاماً، أنه قد فهم السودان أو فهم الطبيعة السودانية، وقد عبر ذلك الحكم عن عدم فهمه لذلك في الفشل في إيجاد نظام حكم مستقر يناسب البيئة، فكانت تقلباته العشوائية من الحكم المركزي إلى الحكم اللامركزي، والعكس، ومن محاولة لإخلاء السودان عام 1957م، إلى الرجوع عنها في العام ذاته، وغيرها من علامات التخبط والجهل بطبيعة السودان، وقد عبر السودانيون عن عدم تجاوبهم مع النظام (التركي ـ المصري) بالخروج والمحاربة طوراً، وبالهجرة إلى أطراف الحدود البعيدة كحدود الحبشة (إثيوبيا) في الشرق ومملكتي برنو ووداي في الغرب طورا آخر، وطوراً ثالثاً بالاحتماء بالمناطق المستعصية بحصانتها على الحكومة مثل جبل مرة وجبال النوبة، وطوراً رابعاً بتفجير الثورة الشاملة التي لم تتوان قبيلة سودانية عن الاشتراك فيها بدرجة من الدرجات.
    * ثالثاً، إن الثورة المهدية حركة اجتماعية كانت تعبر عن روح جديد بدأ يسري بعنف في العالم الإسلامي عن طريق القوة المسلحة ليهز الشعوب المسرفة في سباتها، المستلقية في أحضان الجماعات الصوفية، وليوقظ المسلمين الذين تقسمتهم الجماعات الطائفية، فما رفع الإمام المهدي عقيرته بالنداء به في السودان في يونيو 1881م هو عين ما حدث على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود في الجزيرة العربية، والأستاذ محمد السنوسي في ليبيا، ومحمد بن عبد الله المهدي في الصومال، وبرغم تباين واختلاف الفلسفات وطبائع القيادات ومشاربها الفكرية ومنطلقاتها الواقعية، إلا أنها جميعاً كانت تهتف بشعارات ..
    اليقظة بدل النوم،
    والنهوض بدل الاسترخاء،
    والوحدة بدل التفرق،
    وعزة المسلم بدل تسكعه على موائد الحاكمين،
    ورفض الأجنبي وكل ما له علاقة بالأجنبي، حتى علمه وحضارته وتجاربه وتجارته.
    * * *
    لا يبدو إذن، من خط سير مجريات الحملة النفسية أن الحكمدار عبد القادر حلمي والمؤرخ نعوم شقير كانا يضعان هذا في الاعتبار أو كانا يفكران فيه، فلم ترد أي إشارة مباشرة أو غير مباشرة لتربط بين ما كان يجري على يد محمد أحمد في السودان بما كان يجري في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي كالجزيرة العربية وليبيا والصومال، علاقة الموجة التاريخية العامة التي تهب كالرياح الموسمية في الشرق والغرب في موسم واحد دون أن يكون هناك سابق اتفاق على ساعة هبوبها.
    ولعل انتشار أخبار مهدي السودان حتى سمرقند في أواسط آسيا، وفاس في أقصى ركن الشمال الأفريقي الغربي، ونيجيريا في غرب أفريقيا، والهند في آسيا، ومجيء الوفود من تلك الأصقاع متطلعة ومنبهرة ومبايعة لدليل على أن تلك الموجة قد نضجت عوامل بروزها حتى عم التطلع إليها في العالم الإسلامي كله، في البلاد التي ارتفعت فيها الصيحة أصغت الآذان وتفتحت القلوب، وفي البلاد التي لم يبرز فيها القائد تخطى بحث الناس الحدود حتى وصل إلى أماكن الصيحات البعيدة.
    * * *
    ولنعد إلى وسائل الحرب النفسية لنسجل بعض الملاحظات:
    * لعل أول ما يلاحظه القارئ لهذه الرسائل أنها كانت تتكلم عن عدل ولي الأمر وبغضه للظلم، ووجوب طاعته على المسلمين، بينما كان السودانيون بالممارسة قد عرفوا مقدار عدله، وشرهه للمال القليل الذي في أيدي الناس، وقسوته في جمع الضرائب، وبعده عن الدين، وتوليته للمفسدين على رقاب المسلمين، ولقد شاع يومها القول المسجوع (عشرة في تربة ولا ريال في طلبة)، إذن لا يبقى هناك مجال لإلحاق (تهمة) العدل بالحكم (التركي ـ المصري)، أو هذا على الأقل ما كان يفهمه السودانيون آنذاك.
    * ويلاحظ ثانياً، أنه بينما كان هؤلاء الفقهاء يتجادلون حول صحة دعوى محمد أحمد، وهل هو المهدي المنتظر أم هو مدّع ضال، وهل يولد في مكة أو في دنقلا، وهل يبعث في ماسة أو في قدير، وهل .. وهل .. وهل .. ويدبجون في ذلك الكتب والفتاوى والخطب، في هذا الوقت بالذات كان المواطن العادي يعلن انصرافه عن هذه (الترهات)، ويزن المهدي والمهدية بموازينه الخاصة، كان يكفيه أن يتحدث عن كراماته وخوارقه الدالة على مهديته، النار التي تشتعل في أجساد (الكفار) مع سهام الأنصار، أوراق الأشجار التي وجدوا مكتوباً عليها (لا إله إلا الله)، الذعر الذي يصيب جنود الحكومة عندما يسمعون تكبير الأنصار وتهليلهم، ألم يقل الإمام إن الله يلقي الرعب في قلوب أعدائه عندما يسمعون التهليل والتكبير؟ ثم الانتصارات الكاسحة المعجزة، تلك كانت البراهين الدالة على مهدية المهدي عند أهل السودان آنذاك، وكانت أقوى من أي حجج منطقية تجري وراء السجع والكلمة المنمقة، ولكن الفقهاء أخطأوا فهم ذلك الوضع، وأغرقوا أنفسهم في جدال واستشهاد بأقوال رجال لم يسمع بهم الناس مثل الشيخ محي الدين بن العربي، لقد اختاروا أضعف النقاط واتخذوها حصوناً، منها يهاجمون وبها يحتمون، ولذلك حاربوا في غير ميدان المعركة.
    * ويلاحظ ثالثاً، أن الإمام المهدي لم يشأ أن يلقي بفكرته وتعاليمه، وهي (غضة) لم يقو عودها بعد، لم يشأ أن يلقي بها في مطب الجدال الفقهي، فهو لم يكن فقيهاً مشرعاً بقدر ما كان مصلحاً ثائراً، ولذلك أعتبر كل أولئك الفقهاء التقليديين، إلاّ من اهتدى وآمن، (بره الزفة)، وخارج إطار التشكيلة التي لها الحق في الحكم بصحة مهديته أو عدم صحتها، ومن تجرأ وأفتى فيما لا علم له به، كان لقب (عالم السوء) أو (علماء السوء) هو الدثار الجاهز الذي يقذف به على وجهه، فلا يترك له الفرصة لأي تأثير على الناس العاديين.
    * * *
    وبعد ..
    نعود للسؤال مرة أخرى ..
    هل هو المهدي المنتظر ؟
    في أيام المهدي قالوا : نعم ..
    وقالوها بإيمان صوفي، وحسموا الأمر وانتصرت الثورة.
    وفي هذه الأيام تدخل الإجابة على السؤال تحت نطاق البحث الأكاديمي، ومن سوء حظ من رفعوا هذا التشكيك في مهدية الشيخ محمد أحمد أن الباحث الأكاديمي لا ينظر إلى الأشياء من خلال ثقب الإبرة، وإنما يضعها ويسلط عليها الأضواء من جوانب مختلفة، وحتى حججهم التي احتجوا بها فإنه يمحصها ليعرف الصحيح فيها من غير الصحيح.
    ولكن، مهما كان الأمر فإن القارئ لن يكون منصفا للمهدية إذا حاول أن يضغطها في ذلك القالب الصوفي الفقهي التقليدي الضيق، أو أن ينظر إليها من خلال ثقب الإبرة.
                  

02-04-2004, 12:43 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    القديســـــان وجهـــــا لوجـــــه
    عندما دخل الجنرال غردون مدينة الخرطوم في فبراير عام 1885م دخلها كغاز منتصر من غزاة القرون الوسطى، فقد أحست المدينة المذعورة براحة عظيمة لم تحس بها منذ فترة طويلة، وأخذت نفساً عميقاً جعل الأعصاب المشدودة ترتاح قليلاً.
    وسارع غردون إلى العمل بعد نهاية الاستقبال، فقد فتح أبواب المدينة للداخلين والخارجين بلا أي محاذير حتى لمن أراد أن يلتحق بالمهدي، كان هناك شعور دافئ بالأمان والاطمئنان يغمر الجميع، وشكل غردون مجلساً من أثنى عشر رجلاً من الأعيان ليعاونه في إدارة أعماله.
    على هذه السمة الظاهرة من الشعور بالثقة أبرق غردون، كعادته في استعجال الأمور، إلى السير إفلن بيرنج في مصر (أعتقد أنه لا داعي لأن تتجشموا مزيداً من القلق بشأن هذا الجزء من السودان، فالناس كبيرهم وصغيرهم مسرورون من أعماقهم للتحرر من إتحاد مع مصر لم يسبب لهم سوى الأسى).
    وفي مساء ذلك اليوم دلف إلى مكتبه وأخذ يجمع الأفكار التي مرت بخاطره وسجلها وأبرق بها إلى بيرنج أثناء الرحلة، ودونها في مذكرة شاملة عن الوضع في السودان، وبعد أن أكد على ضرورة فصل السودان عن مصر فصلا تاما، لأن مصر غير مؤهلة في هذا الوقت للإشراف على السودان، وصل إلى المطلب الأساسي وهو ضرورة إرسال الزبير باشا إلى السودان، باعتبار أنه الرجل الوحيد القادر على الإمساك بخيوط الإدارة ومواجهة الخطر المهدوي، وأقترح أن يدعم الزبير بالسند المعنوي الكامل من بريطانيا، من دون أن تكون بريطانيا مسئولة مسئولية كاملة عن إدارة السودان، وأشار إلى مخاوف بريطانيا من أن يحول الزبير السودان، مرة أخرى، إلى سوق كبير لتجارة الرقيق، ورأى أنه ضماناً لعدم حدوث ذلك فهو يرى أن تخضع منابع الرقيق، أي مديريتي بحر الغزال والسودان الاستوائي، لإدارته الشخصية عندما يحكم الكنغو نيابة عن ملك بلجيكا.
    ووجه نداء إلى السودانيين بالتزام الهدوء، وأرسل رسولاً للمهدي يطلب المصالحة، ثم بدأ من فوره في تنفيذ مهمته التي جاء من أجلها، وهي إخلاء السودان، وفعلاً أرسل نحو ستمائة من مصابي الجنود، ونحو ألفين من المدنيين قبل أن تحف الأخطار بطريق بربر.
    ولكن كان من الصعوبة بمكان أن تستمر روح التفاؤل التي انتقلت إلى المواطنين لفترة طويلة، فرجل عاطفي مزاجي مثل الجنرال غردون كان ينتظر أقل بادره غير مشجعة لتتحول عواطفه من النقيض إلى النقيض، فقد جاءه يوم 26 فبراير، أي بعد نحو أسبوع من وصوله إلى الخرطوم، رفض حكومة بريطانيا لفكرة إرسال الزبير باشا إلى السودان، وكان الرفض معللاً بأن الرأي العام البريطاني لن يتقبل هذا التعيين، وسألوا الجنرال غردون إن كان لديه اقتراح باسم شخص آخر.
    كان للرفض أثر سئ جدا بالنسبة لغردون إذ اعتبر أن ذلك أشبه بالرفض لخطته لمستقبل ووحدة السودان، فرد بأنه لا يستطيع تحديد شخص آخر، وقال (يجب أن تتذكروا أنه في حالة إخلاء السودان فإن المهدي سيأتي مباشرة إلى هنا، ولن يترك رجاله مصر في هدوء، إن واجبي بالطبع هو إخلاء السودان والعمل قدر المستطاع على إيجاد حكومة مستقرة، بالنسبة للهدف الأول أرجو أن أتمكن من تحقيقه، أما الثاني فهو عمل صعب، وهو يخص مصر أكثر مما يخصني، وإذا أريد لمصر أن تنعم بالهدوء، فإن المهدي يجب أن يسحق، ويجب أن تتذكروا أنه ما أن تصير الخرطوم في يد المهدي، فإن مسألة سحقه تصبح أكثر صعوبة مما هي عليه الآن، لذلك فلأجل سلامة مصر يجب القضاء على المهدي، إذا رأيتم ذلك فأرسلوا مائة ألف جنية ومائتي جندي هندي إلى وادي حلفا، أكرر إن الإخلاء ممكن، ولكنه سيدخل مصر في صعوبات أخرى، لذلك فسحق المهدي الآن أيسر وأقل تكلفة.
    وأصدر، وهو في هذا المزاج الغاضب، منشورا للسودانيين، بعد أن شعر بعدم الاستجابة الكافية للسلام، حذرهم بأنه ما دامت سياسة التسامح لم تفد فإنه سيأخذ بالشدة كل من يتحرك ضد الحكومة، وبشر أنصاره بأن الجنود الإنجليز في طريقهم إلى الخرطوم، وسيصلون خلال أيام، وكان هذا تحذيرا للخصوم أيضا.
    ولعل المتتبع للأحداث سيرفع حاجبيه متسائلا : ما الذي دفع الجنرال لهذه (الكذبة البيضاء)، وهو يعلم يقينا أنه لا يوجد جنود بريطانيون في طريقهم إلى السودان ؟
    هل ظن أن اقتراحه بإرسال مائتي جندي إلى السودان قد ووفق عليه وأصبح قرارا تحت التنفيذ ؟
    أم ظن أن الجنرال جراهام الذي كان قد سجل انتصارين حاسمين على الأمير عثمان دقنة في الشرق وأفلح في تشتيت جيوشه، سيتوجه من الشرق إلى بربر فالخرطوم ؟
    أم هي فقط محاولة لرفع الروح المعنوية التي بدأت في الهبوط ؟
    مهما كان سبب تلك المبالغة، فقد اعتبرت إحدى (الشطحات) الخطيرة أثناء وجود الجنرال غردون في السودان.
    في الواقع فقد بدأ اتجاه غردون الجديد لمنازلة المهدي يتضح منذ هذه اللحظات، ويعتقد أن يوم الجمعة 26 فبراير عام 1885م، يوم صدور هذا المنشور، يمثل نقطة التحول في مهمة الجنرال غردون في السودان، تحولت من (الإخلاء) إلى (المواجهة)، ويقول ثيوبولد أنه في هذا اليوم فقد الجنرال غردون ثقة الحكومة البريطانية.
    وفيما كانت الردود تتبادل بين بيرنج وحكومته، كانت الأمور في السودان تتطور إلى حدود اللاعودة، أما ما مس غردون منها مسا مباشرا فهو انقطاع خط الاتصال التلغرافي بين القاهرة والخرطوم في 12 مارس عام 1885م.
    * * *
    إذا عدنا إلى الوراء قليلاً لنرى كيف تطور خط الثورة المهدية ليصل إلى هذه النقطة، لقلنا أن عام 1882م غادرنا ولم يبق في مديرية كردفان إلا جزيرتين معزولتين وسط أمواج الثورة المتلاطمة، هما مدينتي الأبيض وبارا. أما الجزيرة فقد انفجرت فيها الثورة في النصف الأول من عام 1882م، إلا أن الفريق عبد القادر باشا حلمي استطاع أن يكبح جماح الأنصار بحملات قوية قتل فيها الفقيه أحمد ود طه في منطقة شرق الجزيرة بين رفاعة وأبي حراز، وهزم الأخوان أحمد وعامر المكاشفي في منطقة سنار، وهزم ود برجوب في منطقة الجبلين، فهدأت الجزيرة مؤقتا، ثم عادت لتنفجر بعد شهور قلائل مع سائر أجزاء السودان عقب سقوط مدينة الأبيض في يناير عام 1883م.
    ويعتبر عام 1883م بصفة عامة هو عام التمدد بالنسبة للثورة، ففي دار فور هاجر الشيخ مادبو علي زعيم الرزيقات وبايع الإمام المهدي، وعاد ليقود قبيلته بالإضافة لقبائل البقارة والهبانية في معارك تبودلت فيها الانتصارات والهزائم مع سلاطين باشا، وفي بحر الغزال تجمع بعض التجار الجعليين والدناقلة بزعامة الشيخ كرقساوي وهاجروا إلى الإمام المهدي وبايعوه، وفي نهاية العام عقد الإمام المهدي لواء الإمارة لكرم الله كرقساوي على جيش عدته ثمانية آلاف من الأنصار لفتح بحر الغزال.
    على أن أخطر رجل انضم إلى المهدي في هذا العام كان رجل الشرق عثمان دقنة، وإذا كان عثمان دقنة لم يهتم كثيراً بالتعليم في صباه باستثناء مبادئ القراءة والكتابة والحساب وحفظ شئ من القرآن الكريم، فإن ميدان التجارة الذي أقتحمه منذ صغره أعطاه معرفة بالبلاد والرجال والقبائل، وقد قبض عليه مرة في عرض البحر الأحمر متلبساً بتصدير عدد من الرقيق إلى الحجاز، فحكم عليه بالسجن حيث قضى مدة العقوبة بين سجون جدة وسواكن قبل أن يتواصل الحكم بنفيه إلى داخل البلاد، فقضى مدة النفي في منطقة بربر، وفي الدامر، فانخرط في سلك جماعة المجاذيب الصوفية، وهناك سمع بخبر المهدي في كردفان عندما كان انتصاره على حامية الأبيض واقتحامه المدينة يدوي كقرع الطبول في جميع أطراف السودان، فهاجر إليه.
    كان عثمان دقنة متديناً واسع الأفق، ولذلك استجاب وبعمق لحركة الجهاد واستطاع أن يرى فيها بوضوح أهداف الدعوة الكبرى، ومنذ اللحظة الأولى لالتحاقه بكتائب الأنصار رأى فيه الإمام المهدي ما لم يره في الآخرين، فقربه، كان شجاعاً ذكياً له صلات واسعة بقبائل الشرق ومعرفة بدخائل أهل سواكن وعلم بلغات البجا وعاداتهم، لذلك عينه أميراً على شرق السودان.
    وهكذا، فعندما غادر عثمان دقنة الأبيض في أوائل شهر مايو عام 1883م كان الشرق موعوداً على يديه بحركة ثورية جهادية نشطة، وبعد أن أجرى بعض الإعداد، بدأ ملاحمه في أغسطس.
    * * *
    ذلك كان مسحاً عاماً لحركة الجهاد التي عمت معظم أنحاء السودان والتي جاءت على أثرها حملة الجنرال هيكس باشا المرهقة والهزيمة الساحقة التي منيت بها في شيكان في 5 نوفمبر عام 1883م والتي استأصلت آخر جيش نظامي يمكن أن ترسله مصر للسودان.
    وهذه المعركة أيضاً كانت نقطة التحول الأخيرة، إذ لم يبق لمتشكك في مهدية الإمام المهدي عذر بعد الآن.
    وهكذا ازدحمت الطرق إلى كردفان، وبنفس القدر ازدحمت الطرق إلى الثغور حيث كان يرابط أمراء المهدية، وبسرعة تساقطت الحاميات والطوابي لتجعل من عام 1884م عام الانتشار، فمديرية دار فور عزلت قبل نحو عشرة أسابيع، فلم يجد سلاطين باشا بداً من تسليم مفاتيحها لنائبه محمد خالد زقل في منتصف عام 1884م، ولم تقاوم مديرية بحر الغزال طويلاً، إذ استسلم مديرها ليبتون باشا في 22 أبريل، وأعلن إسلامه واعتناقه مبادئ المهدية.
    وفي الشرق كان الأمير عثمان دقنة قد استعاد قوته وصفاء ذهنه بعد هزيمتين مرتين في سنكات في بداية تحركه، فانقض على طاهر بك قائد حامية سنكات، وأفنى حملة كان يقودها الجنرال فالنتين بيكر في 4 فبراير، ولم ينج منها غير قائدها وحفنة من العساكر، وبعد أربعة أيام استولى على سنكات، وبعد أسبوعين أقتحم مدينة طوكر، وهكذا، بضربات خاطفة ومتلاحقة استطاع أن يخضع كل منطقة البحر الأحمر، باستثناء مدينة سواكن، إلى سيطرة الإمام المهدي.
    في هذا الجو المضطرب أعلنت حكومة الأحرار في بريطانيا رصد جائزة مقدارها خمسة آلاف جنية إسترليني لمن يأتيها برأس عثمان دقنة حياً أو ميتاً.
    * * *
    حتى نهاية عام 1883م، يبدو أن الجزء الوحيد الذي لم يتحرك، باستثناء السودان الاستوائي، هو الجزء الشمالي من النيل، وهو على صفة العموم يمتد من شمال الخرطوم إلى وادي حلفا في أقصى شمال السودان، في وسط هذا الجزء شكلت قبيلة الشايقية حاجزاً لم تستطع الثورة أن تخترقه وتتعداه شمالاً، أما من الجنوب من منطقة الشايقية حيث يسيطر الجعليون فلم يظهر حماس للثورة رغم أن المجاذيب في منطقة الدامر كانوا يظهرون تعاطفا شديدا نحوها، فقد تردد الشيخ محمد الخير، شيخ المهدي السابق، في الانضمام لتلميذه بسبب علاقته الحميمة مع مدير بربر حسين باشا خليفة العبادي، وتردد كذلك زعيم الجعليين الشيخ علي ود سعد لأنه في الغالب لم يعرف أين سيكون موضعه في النظام الجديد، والجعليون بصفة عامة يحتمون وراء أنفة طاغية تقف دائما حاجزا بينهم وبين الآخرين.
    لكن بانقضاء عام 1883م كان اتجاه الرياح قد وضح، إذ ظهر أن الانضمام للمهدي لم يعد مغامرة لا تحمد عقباها، وتشير بعض الروايات إلى أن الشيخ محمد الخير أستشار حسين باشا خليفة في الأمر، فنصحه الباشا بالانضمام للمهدي.
    مهما يكن من شئ، ففي وقت متقارب أبدى الشيخ محمد الخير رغبته في الذهاب للمهدي، وسرعان ما شد إليه الرحال، كان ذلك في يناير عام 1884م، ورغب الشيخ علي ود سعد في استطلاع الأمر، فأرسل أخيه الشيخ عبد الله ود سعد برسالة تأييد للإمام المهدي، ورد المهدي بتعيين الشيخ علي ود سعد أميراً على منطقة الجعليين، وحثه على النهوض بالثورة، بينما بقي الشيخ محمد الخير مع المهدي الذي فرح بمقدمه وأكرمه وأنزله منزلة عالية وأبقاه بجانبه لعدة أسابيع ثم عينة بعد ذلك أميراً على منطقة شمال الخرطوم وحتى بربر.
    * * *
    أثار قطع الاتصال بين الخرطوم والقاهرة بعض الإشفاق على مصير الخرطوم والجنرال غردون بوجه خاص، في الواقع فإن الاتصال بين الخرطوم وبربر فقط هو الذي انقطع في هذه المرحلة، أما بين بربر والقاهرة فما زالت الأسلاك متصلة، وفي 21 مارس والأيام التالية نقلت الأسلاك من بربر كلمات مذعورة مثل (الوضع في الخرطوم أصبح حرجاً .. لا تتأخروا .. الخرطوم عزلت .. الجميع خائفون على غردون واستيورت والأوروبيين الآخرين).
    وفي 22 مارس تسلم الجنرال غردون رد الإمام المهدي على مقترحاته السابقة بتعيينه ملكا على إقليم كردفان، ذلك التعيين الذي أرسله غردون مع كسوة شرف إلى المهدي من بربر وهو في طريقه إلى الخرطوم، ولم يكتف المهدي برد الفرمان وكسوة الشرف، بل أرسل إلى غردون (الجبة المرقعة)، وهي زى المهدية الرسمي، ورسالة حارة يدعوه فيها لاعتناق الإسلام والدخول في المهدية، وفي انفعال ألقى الجنرال بالجبة على الأرض وداس عليها بقدمه، إذ أنه ربط الأمر برمته بمسألة الكرامة الوطنية والشرف القومي، ومن يومها تحولت الأحلام التي كانت تراوده بسحق المهدي إلى تخطيط مرسوم.
    يقول ثيوبولد أن الخرطوم انعزلت عن العالم الخارجي من الآن ولمدة عشرة شهور، يغلفها حزام كثيف من الضباب والصمت والشك، وبدأت الأسئلة الحائرة تتردد طيلة تلك الشهور : كم من الزمن ستصمد المدينة ؟ وهل سترسل بريطانيا حملة لإنقاذ الجنرال غردون ؟ ومتى ؟ ولكنها كانت أسئلة ذائبة في صحارى الصمت المريع.
    في الشرق كان هناك بصيص من أمل، فقد كانت رايات الجنرال جراهام ترتفع خفاقة بعد أن انتزع مدينة طوكر من الأمير عثمان دقنة، ثم ألحق به هزيمتين حدتا من طموحه في السيطرة على الشرق، هذه الانتصارات أوحت لبيرنج أن يفعل شيئا من أجل غردون يغطي به على الفشل الذي عجز عن تخطيه بإرسال الزبير باشا إلى السودان، ففي 24 مارس أبرق لحكومته أن تستثمر انتصارات جراهام في شرق السودان بإحدى طريقتين : إما بتجهيز حملة من الشرق لإعادة فتح طريق سواكن ـ بربر، أو أن يتقدم جيش جراهام بحركة سريعة ومفاجئة ليحتل مدينة بربر ويتقدم منها إلى الخرطوم.
    ولكن وزارة الخارجية البريطانية رفضت الاقتراح في اليوم التالي مباشرة، واقترحت في المقابل أن يبقى غردون في الخرطوم أو أن يعود عن طريق النيل شمالا لمصر أو جنوبا للسودان الاستوائي لأنه أكثر أمانا، هذا القرار لم يصل إلى غردون إلا بعد أسبوع، ويومها سيطر عليه شعور بالكآبة واليأس والإحساس بأنه ترك ليواجه مصيره بنفسه، فلا الزبير قادم، ولا الجيش الإنجليزي الذي لا يفصله عن الخرطوم إلا نحو مائتين وخمسين ميلا، زاحف نحو الخرطوم، يومها دون في مذكراته (ما دام الأمر كذلك فإنني أعتبر نفسي متصرفا حسب الظروف، سأبقى هنا أطول مدة أستطيعها. إذا قدرت على سحق التمرد فسأفعل، إذا لم أستطع سأغادر إلى الاستوائية).
    ولكن غردون لم يكن يقدر الوضع تقديراً صحيحاً لأن الوقت كان قد فات على أي شئ، فلا قهر المهدي كان يبدو من الأمور المعقولة، ولا الانسحاب السلمي بات ممكناً، لقد بدأ الآن حصار الخرطوم، ذلك الحصار الأسطوري الطويل، وفي أثنائه تساقطت كل المديريات وباتت الخرطوم جزيرة صغيرة وسط سيول متلاطمة من الثوار.
    في شهر أبريل قام الجنرال برحلة مضنية عبر البرقيات والرسائل التي كانت ترسل بواسطة العدائين إلى بربر، للفت نظر العالم إلى هذه المنطقة المحاصرة من أفريقيا وبحثاً عن المساعدات العسكرية، كان يأسه من بريطانيا قد بلغ مداه.
    في أول مارس أبرق إلى السير صامويل بيكر في بريطانيا يحثه على تجنيد ثلاثة آلاف من المشاة الأتراك والمرتزقة، وألف من رجال المدفعية، وتعهد أن يسحق المهدي بذلك العدد خلال أربعة شهور.
    بعد ذلك بأسبوع كتب إلى السير إفلن بيرنج يخبره بأنه أبرق إلى السير صامويل بيكر ليعمل على إعداد ثلاثة آلاف جندي تركي بواسطة الاكتتاب الشعبي، وبعد أربعة أيام (12 أبريل) أبرق لبيرنج : إن السودان يمكن أن يعاد للسلطان العثماني، وبعد أربعة أيام أخرى (13
    أبريل) أرسل التماسا مباشرا للسلطان العثماني ليرسل ثلاثة آلاف جندي تركي، واقترح مرة تعيين الفريق عبد القادر حلمي حكمدارا عاما على السودان، ومرة أخرى عرض اسم الكولونيل هيربرت كتشنر لنفس المنصب، ففي هذه الفترة كون الكولونيل كتشنر سمعة حسنة وسط العسكريين البريطانيين لهدوء أعصابه وعزمه وحزمه ودقته. كان فارساً شجاعاً يتكلم التركية والفارسية والعربية، وقد أظهر مهارة فائقة وجرأة أثناء عمله في الجيش المصري على الحدود مع السودان، ويرجع إليه الفضل في ربط غردون بالعالم الخارجي سواء بإيصال رسائله إلى العالم الخارجي، أو بإيصال الرسائل إليه، وكان يتوغل في الأراضي السودانية، متنكراً أحياناً كبدوي، مواجهاً الكثير من الأخطار. واستمر غردون في اتصالاته الخاصة فعرض على قناصل أوروبا الاتصال بحكوماتهم طلباً للمساعدة المالية، ولكن كل ذلك كان في حدود البرقيات والرسائل، لأنه لم يتخذ أي إجراء عملي للتنفيذ.
    إلا أن تزايد خطر الأنصار في منطقة الجعليين، ثم سقوط مدينة بربر في أواخر عام 1884م، قطع طريق الاتصال تماما بين الخرطوم والقاهرة.
    فمرت شهور مايو ويونيو ويوليو ولم تصل من غردون غير رسالة واحدة، عدا ذلك كان الصمت المطبق يخيم على العلاقات بين الخرطوم والخارج.
    * * *
    كانت طلائع الأنصار قد بدأت تظهر حول الخرطوم في أول مارس عام 1884م، وعقدت أول أمارة للحصار للشيخ محمد بدر العبيد، وهو شيخ الطريقة القادرية ومقره في أم ضوا بان التي تقع شرق النيل عند مداخل الخرطوم بحري من جهة الشرق، وقد استقر الشيخ العبيد في أم ضوا بان منذ عام 1827م، فأنشأ مسجداً وخلوة لتحفيظ القرآن الكريم لا تزال النار التي أوقدها مشتعلة ليلا ونهارا بلا انقطاع إلى اليوم، وقد هاجر الشيخ العبيد إلى الإمام المهدي بعد فتح الأبيض وبايعه، فأعطاه الإمام المهدي الأمارة وكلفه بحصار الخرطوم، فجاء إلى قرية العيلفون التي تقد على الضفة الشرقية للنيل الأزرق على بعد نحو عشرين ميلاً جنوب الخرطوم بحري، وجعلها مقراً لتجميع محاربيه، والتقى في قرية الحلفاية، التي تقع في الضواحي الشمالية للخرطوم بحري، بجيش حكومي في 13 مارس، وانتصر عليه وسيطر على طابيتها، وبعد ثلاثة أيام شتت جيشاً آخر أرسل لنجدة الطابية، ثم قسم جيشه إلى أربعة كتائب وضع قياداتها في أيدي أبنائه إبراهيم والعباس والطاهر، وسلم القيادة الرابعة للشيخ المضوي عبد الرحمن، وهو من علماء الأزهر، ومضت هذه الكتائب تناوش الخرطوم من جانبها الشمالي والشرقي، وتطلق النار، عبر النيل، على حامية أم درمان وعلى سراي غردون.
    على أن الحصار الحقيقي بدأ مع وصول الأمير محمد عثمان أبو قرجة، فقد وصل في آخر ماس على رأس ثلاثين ألفاً من الأنصار وهو يحمل لقب أمير البرين والبحرين، وتولى قيادة كل جبهات الحصار.
    ولكن بصفة عامة لم يكن الخطر كبيرا على الخرطوم خلال أشهر الصيف، فقد كان يتولى الدفاع عن المدينة نحو ثمانية آلاف جندي من المصريين والسودانيين، بعضهم لم يتلق تدريبا كافيا، وضباطهم لم يكونوا في مستوى المواجهة المطلوبة، كما كان يراهم غردون، إلا أن قوتهم كانت كافية لرد الخطر عن المدينة، فقد كانوا مسلحين بالبنادق مع اثني عشر مدفعا بالإضافة لعدة بواخر حربية منتشرة على النيل، وكان لديه من الحبوب ما يكفي المدينة لمدة نصف عام، وحتى لا يفلت الأمر من يده فقد أخذ يشرف على توزيع الطعام اليومي بنفسه ليتحكم في الصرف ويبعد شبح المجاعة، كذلك حرص غردون على مراقبة بعض العناصر وإحكام السيطرة عليها، فللمهدي رجال في الداخل، وهم يعملون على تحريض سكان العاصمة، وهو يعرف أن الأمور ستسوء أكثر، فعندما يبدأ الترجيح بين الولاء للسلطة والولاء للمهدي، فإن الولاء للمهدي هو الذي سيرجح ما لم يتيقظ ويحكم الرقابة.
    ما عدا ذلك فالمدينة تعتبر، حصينة ولا خوف عليها من الاجتياح، فجوانبها الغربية والشمالية والشرقية يحيطها النيل الذي يشكل حاجزاً طبيعياً يصعب اجتيازه على أي قوة مهاجمة خاصة إذا كانت تلك القوة غير مدربة، فضلاً عن أن البواخر التي كانت تروح وتجئ على امتداد المدينة على النيل تزيد من فعاليته كحاجز.
    كان الخطر يتمثل في الامتداد الجنوبي للخرطوم الذي يتوغل في سهول الجزيرة من دون أن تعترضه أي حواجز طبيعية من مرتفعات أو ممرات مائية أو غيرها، ولذلك فقد حفر غردون خندقا عميقا في شكل نصف دائرة أحاط به الخرطوم من الجهة الجنوبية، يربط بين النيل الأبيض في الشجرة والنيل الأزرق في البراري بطول أربعة أميال، وبث في الرمال، خارج الخندق، ألغاما بدائية، شكلت بعد انفجار بعضها تحت أقدام الأنصار حاجزا حقيقيا، ووضع كذلك بعض المعوقات الأخرى كقطع الحديد الحاد والزجاج المكسور، وأصلح من وضع الاستحكامات التي كان قد بناها الحكمدار السابق عبد القادر حلمي عام 1882م، في أطراف المدينة وأهملت. وكانت هناك أربعة طوابي : واحدة في بري لتحمي مداخل الخرطوم من جهة النيل الأزرق، والثانية في المقرن حيث يلتقي النيل الأبيض بالنيل الأزرق، والثالثة في أم درمان قرب مبنى التلفزيون الحالي، والرابعة في الخرطوم بحري عند منطقة الصبابي.
    * * *
    في شهر يوليو وأغسطس قاد الجنرال غردون بنفسه حملات قوية ضد جيش الأمير محمد عثمان أبي قرجة في منطقتي الجريف غرب وبري، وعلى قوات الشيخ محمد العبيد ود بدر في الحلفاية، وألحق بهم عدة هزائم، وأصيب الأمير أبو قرجة بجراح خطيرة إلا أنه نجا من الموت، واستطاع أحد ضباطه، ويدعى محمد علي بك، أن يقتحم قرية حلفاية الملوك ويستعيدها لسلطة الخرطوم، وتوغلت إحدى بواخره نحو خمسين ميلاً جنوبا على النيل الأبيض.
    هذه الحملات أحدثت بعض الانفراج في الخرطوم، فتنفست المدينة الصعداء، وارتفعت الروح المعنوية خاصة وقد استطاع غردون أن يغنم بعض المؤن والحبوب من معسكرات الأنصار، وبدأ غردون يفكر في تطوير حملاته إلى خطة هجومية متكاملة على قوات المهدي، بل وصل إلى درجة أن حدد أول أهداف خطته الهجومية، وهو استعادة مدينة بربر.
    إلا أن هذا الانفراج لم يستمر طويلا، فما أن وصلت أخبار الهزائم إلى الإمام المهدي حتى قرر أن يرمي المدينة المستعصية بأقوى رجاله وأقدرهم، وهكذا بدأت حملة الأمير عبد الرحمن النجومي، فزحف على الخرطوم وهو يحمل أرفع رتب المهدية العسكرية : رتبة أمير الأمراء.
    والأمير عبد الرحمن النجومي له تاريخ حافل في عمر الثورة القصير، ولعل الجنرال غردون يذكر له أنه هو الذي استأصل حملة الجنرال هيكس باشا في غابة كازقيل (شيكان) في نوفمبر عام 1883م، وقد امتلأ سجله العسكري بانتصارات العسكرية حتى لقبه الإمام المهدي بـ (سيف الله المسلول).
    أما الجنرال غردون فقد انتهت انتصاراته المؤقتة في يوليو وأغسطس بكارثة مفاجئة في سبتمبر، فقد تحرك أحد أميز ضباطه، وهو محمد علي بك الذي استعاد من قبل قرية الحلفاية، تحرك ليواصل مسلسل الضربات المفاجئة، فانتزع قرية العيلفون من الشيخ العبيد ود بدر، إلا أنه توغل في البر كثيرا مطاردا الأنصار إلى أم ضوا بان، وكان يأمل في القبض على الشيخ العبيد، فنصب له الأنصار كمينا واستدرجوه إلى منطقة معشوشبة، وانقضوا عليه بحركة مفاجئة وأبادوا كتيبته عن آخرها، وكان محمد علي بك من بين القتلى.
    كان فقدان هذه الكتيبة، وهذا القائد الشجاع بالذات، صعباً على الخرطوم، فقد انتشر جو من الرعب أعاد إلى الأذهان ذكرى ضربات الأنصار القاتلة، ولكن الأهم أنه أوقف بصورة نهائية كل تطلعات الجنرال غردون في أن يتخذ موقفاً هجومياً ضد المهدي، وانطوت ضمن ذلك فكرة استعادة مدينة بربر.
    على أن شهر سبتمبر سجل حادثتين كبيرتين بالنسبة لغردون، إحداهما مأساة مروعة والأخرى خبر سار.
    أما الخبر المروع فهو مأساة الباخرة (عباس)، فقد غادرت الباخرة الخرطوم إلى القاهرة في 9 سبتمبر وعلى متنها مساعد غردون ويده اليمنى الكولونيل إستيورت والقنصلين البريطاني (بار) والفرنسي (هربن) وبعض الأتراك والمصريين والشوام وبعض الجنسيات الأخرى.
    سارت الباخرة حتى تعدت مدينة بربر بسلام، إلا أنها جنحت عند مدينة أبي حمد عند انحناءة النيل الكبرى، واصطدمت بالصخور وتعطلت يوم 19 سبتمبر، كانت المنطقة تخضع للشيخ سليمان نعمان ود قمر زعيم قبيلة المناصير، هذا الشيخ كان من المناصرين للإمام المهدي، إلاّ أنه أظهر شيئاً من التودد للوفد الحكومي، ووعد بتذليل بعض صعاب المواصلات، فأطمأن الوفد ونزل إلى القرية، ولكنهم اغتيلوا وأخذت ممتلكاتهم، وكان بينها يومية الكولونيل إستيورت وأوراق حكومية رسمية وأوراق الشفرة التي أعادها غردون لمصر خوفاً من أن تقع في يد المهدي، فأرسلت كلها إلى المهدي.
    وقد تأخر وصول هذا الخبر إلى غردون لبعض الوقت.
    أما الخبر السار فقد تسربت إلى الخرطوم في 20 سبتمبر رسائل من دنقلا عبر حصار الأنصار ، كان أهمها رسالة من الميجر كتشنر موجهة لإستيورت، يقول فيها أنه يتقدم حملة الإنقاذ في منطقة دنقلا لفتح طريق الاتصال بالخرطوم وليستميل بعض القبائل الشمالية لكسب ولائها لمصر، هذه الرسالة كتبها في قرية الدبة يوم 22 أغسطس، وأهم خبر حملته هو خبر تكوين حملة لإنقاذ الجنرال غردون بقيادة اللورد ولسلي. وأعلن الخبر في الخرطوم، فعمت الفرحة في المدينة المرهقة، وأطلقت المدفعية مائة قذيفة ابتهاجا .. الآن أمست المدينة على يقين من الفرج ويمكنها أن تنام على أمل.
    وبدأ خيال غردون الخصب يخطط للحملة، في الواقع فإنه حتى يوم كتابة الميجر كتشنر للرسالة لم يكن قائد الحملة قد عين بعد، لكن غردون سبق كل شئ وبدأ يرسم صورا خيالية، الحملة لا بد أن تخترق الصحراء عند قرية الدبة، ثم تسير إلى شندي في سرعة مباغتة، ولذلك فستة أسابيع كافية جداً لوصولها إلى الخرطوم، يومها دون غردون في مذكراته بعض الانطباعات (إن جيشا كبيرا مهما كان قويا ليس هو المهم في هذه البلاد، ولكن فرقا من أربعين إلى ستين رجلا تتحرك بسرعة ستفعل أكثر مما يفعل أي جيش .. الحلفاء المحليين ـ وبأي ثمن ـ هم أهم عنصر، فهذا القطر هو قطر اللانظام). ومن فوره تحرك للعمل، فأرسل ثلاثة من بواخره الست الباقية لترابط في شندي في انتظار الحملة لتقلها إلى الخرطوم.
    * * *
    بعد أن أرسل الإمام المهدي الأمير محمد عثمان أبو قرجة أمامه إلى الخرطوم، تحرك في أبريل إلى قرية الرهد في شرق كردفان، وأصبحت القرية معسكراً ضخماً تتحرك فيه الاستعدادات لغزو الخرطوم، وهناك صام شهر رمضان، وأستقبل قادة الحاميات التركية الذين جاءوا مسلّمين أو أسرى : فجاء رودلف باشا سلاطين بعد أن سلم مديرية دار فور، وأعلن اعتناقه الإسلام وإيمانه بالمهدية، فسماه المهدي عبد القادر سلاطين، وجاء السيد جمعة أحد مساعدي سلاطين في دار فور، وجئ له بحسن باشا خليفة العبادي مدير بربر التي سقطت على يد الشيخ محمد الخير، وقيل فيما بعد أنه درس مع الشيخ محمد الخير وضع الحركة المهدية، وقيل إن الشيخ استشاره في أمر الانضمام للمهدي فأشار عليه بالانضمام، وعند الإمام المهدي عمل الشيخ محمد الخير على أن يكون من المحاصرين لمنطقة بربر عله يكون مفيداً لصديقه في يوم من الأيام، وعندما دارت الأيام ولم يكن بد من الاستسلام تشاور الصديقان وقلبا وجوه الأمر وانتهى أمرهما بتسليم بربر لمحمد الخير، وأبدى الشيخ محمد الخير الاحترام اللازم لصديقه، ثم أرسله للإمام المهدي مع توصية بضرورة احترامه ووضعه في المكان اللائق به، ولم يخيب الإمام المهدي رجاء أستاذه.
    كذلك جاء اللواء صالح باشا المك، وهو أحد ضباط الجيش التركي وينتمي إلى قبيلة الشايقية، جاء من فداسي التي استسلمت حاميتها في 27 أبريل.
    ومع هذه الاستقبالات كان الاستعداد لغزو الخرطوم يسير على قدم وساق، وقضى الإمام المهدي خمسة شهور في الرهد (من أبريل إلى أغسطس) قبل أن يتحرك إلى الخرطوم، فعبر منطقة شرق كردفان إلى النيل الأبيض، وقضى بعض الوقت في (شات)، وهي قرية صغيرة تقع في ضواحي مدينة الدويم.
    في هذه القرية جاءه مبايعاً، أو بالأخرى مستسلماً، أستاذه السابق محمد شريف نور الدائم، ويقول نعوم شقير، وكان معاصرا للشيخ نور الدائم، أن الشيخ لم يؤمن بالمهدي قط، ولكن ما حيلته وقد تساقطت كل الحاميات والطوابي التي كانت تؤمن فتح الطريق إلى مصر، لقد انسد الطريق، وهاهو المهدي يتأهب لغزو الخرطوم بعد أن أحكم عزلها عن الداخل والخارج، وهكذا لم يجد الشيخ بداً من الاستسلام.
    مهما يكن من شئ، فإن الشيخ جاء مسلما ومبايعا، وخرج التلميذ لاستقباله بفرح غامر، وسار الرجال في ركابه، وذبحت الذبائح، وأولمت الولائم.
                  

02-04-2004, 12:46 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    بعد شهرين من مغادرته الرهد (في 23 أكتوبر) حط المهدي رحاله في منطقة أبي سِعِد في ضواحي أم درمان الجنوبية، لتبدأ المرحلة الأخيرة من حصار الخرطوم.
    وهكذا بينما كان عام 1884م يلفظ أنفاسه الأخيرة، كان ضغط الحصار يشتد على المدينة المرهقة.
    * * *
    مرة أخرى وفي خلال سبعة أشهر يقود وليم توماس استيد، رئيس تحرير صحيفة (بال مال غازيت) حملة قومية في الصحافة البريطانية لصالح الجنرال غردون، فبتناقص رسائل غردون في المرحلة الأولى، ثم سقوط بربر وانقطاع الرسائل، ران على الخرطوم صمت ثقيل، كانت لندن تظن أنها ارتاحت قليلاً من مطالب الجنرال غردون التي لا تنتهي، ولكن الصمت القاسي حول الجنرال أثار هواجس الشعب البريطاني، فتحركت القضية مرة أخرى في مجلس الوزراء، كان معظم الوزراء يؤيد فعل شئ، أي شئ لصالح الجنرال غردون، وقد تبلورت فكرة إرسال حملة إنقاذ، باعتبار أنها الشئ الوحيد المفيد لإنقاذ الموقف، ورغم أن مجلس الوزراء كان موافقاً على فكرة الحملة بنسبة 9 إلى 1، إلا أن رئيس المجلس عطل اتخاذ أي إجراء.
    ولكن دخول الصحافة إلى الميدان، رافعة قميص غردون، أعاد صورة البطل إلى الأذهان، ليس كمنقِذ هذه المرة، ولكن كبطل تقدم الصفوف باسم الوطن، ولكن الوطن يوشك أن يغدر به.
    ومن الصحافة انتقلت الحمى إلى مجلس الوزراء، فقد أعلن وزير الدفاع، اللورد هارنجتون، بأن المسألة (أصبحت تتعلق بالكرامة الشخصية والثقة)، لأنه هو الذي تولى عبء إقناع المجلس بجدوى إرسال الجنرال غردون إلى السودان، وهدد بالاستقالة إذا لم تفعل الحكومة شيئاً.
    تحركت قضية غردون خطوة إلى الأمام، ففي أغسطس أعتمد مجلس الوزراء البريطاني مبلغ ثلاثمائة ألف جنية لتمويل حملة لإنقاذ الجنرال غردون، وفي 26 أغسطس عين اللورد ولسلي، الرجل الذي قمع الثورة العرابية في معركة التل الكبير في مصر عام 1982، قائداً للحملة.
    وقضت الحملة نحو شهرين في نقاش بعض الأمور وتذليل بعض الصعوبات، ناقشوا مثلاً، أي طريق تسلك في طريقها إلى الخرطوم : طريق النيل وطوله 275 ميلاً، وهو رغم طوله أيسر نسبياً، أم طريق سواكن ـ بربر ـ الخرطوم وطوله نحو 250 ميلاً، ولكنه طريق صحراوي، آباره قليلة، وهو في يد الأنصار وبالتالي يمر عبر منطقة معادية، وأعتبر في النهاية طريقاً صعبا خاصة وقد سقطت مدينة بربر. فوقع الاختيار على الطريق الأول والأطول باعتباره الطريق الآمن نسبياً.
    كذلك أقتضى إعداد الحملة بعض الوقت قبل أن تتحرك في 5 أكتوبر، وكانت تتكون من سبعة آلاف جندي بريطاني وألفين من الجنود المصريين، وثلاثمائة مركب شراعي، واستأجروا ثلاثمائة من الكنديين المتخصصين في الإبحار النهري، هذا بجانب أعداد من الجمال وأدوات الحمل الأخرى.
    تحركت الحملة من وادي حلفا، عن طريق النيل، في 5 أكتوبر، ولم يكن فيها شيئاً مميزاً غير بطئها الشديد وتعثرها الذي لم تكن أوضاع الخرطوم تتحمله. ومن الدبة تابع القسم الأكبر من الجيش طريق النيل بينما أتخذ نحو ألفي جندي بقيادة الجنرال هيربرت إستيورت طريق الدبة ـ المتمة عبر الصحراء. وفي أول لقاء مع الأنصار استطاع الجنرال إستيورت أن يلحق بهم هزيمة مرة ويقتل الأمير موسى ود حلو في 17 يناير 1885م، وبعد يومين ألحق بالأنصار هزيمة أخرى وأحتل المتمة، وأصبح الطريق إلى الخرطوم معبداً، ولكن في المعركة الثانية أصيب الجنرال إستيورت برصاصة قاتلة، وأصبح عاجزا عن إدارة المعركة، ومات بعد ذلك بشهر.
    * * *
    في الخرطوم كان الصمت الثقيل يلف كل شئ، وكانت الحيرة والخوف والترقب يطلان من كل عين وكل شفة متسائلة : ما هو المصير ؟ وإلى متى الانتظار؟ على أن الشئ المؤكد هو إحساس الجميع بأن الانتظار لن يطول كثيرا، فمخازن الذرة وبعض الأطعمة الجاهزة أخذت في التناقص، ورغم أن غردون لم يتهاون أبدا في مسألة تنظيم التموين تنظيما صارما، إلا أن هذا التنظيم لن يأتي بشئ غير موجود.
    غردون وحدة كان يتحمل تبعات ذلك، وكان يعرف أن مسئولية الآلاف المحشورة في الخرطوم هي مسئوليته الشخصية، خاصةً بعد أن غادر الكولونيل إستيورت، ساعده الأيمن، وبعض قناصل الدول الأوروبية وبعض موظفيه الذين كان يستعين بهم ويستأنس بآرائهم.
    ماذا بقي ؟
    الاستسلام .. هذا شئ لم يفكر فيه على الإطلاق، فطبيعة شخصيته المترفعة العنيدة لم تكن تسمح له أن يفكر في ذلك، وكانت عبارة (الشرف القومي) هي ما يذكره دائماً عندما يمر خاطر الاستسلام بذهنه.
    الانتحار .. لقد فكر في أمره، ولكن رفضه بقوة، فهو متدين، والموت والحياة (أعمال من خصائص الله) كما كتب، وهو لا يريد أن يتدخل في ذلك، ولكن حتى لو انتحر فإنه يحل، بصورة من الصور، مشكلته الخاصة، ولكنه يترك مشاكل عدة آلاف آخرين ارتبطوا به في الخرطوم، بلا حل.
    إذن فالخيار أمامه كان واضحاً، إما أن تصل حملة الإنقاذ أو الصمود في الميدان إلى النهاية، ثم الموت بشرف. فالمهدي، في الجانب الآخر، كان يعرف ماذا يريد، كان يطبق الإستراتيجية الثلاثية التي سبق وطبقها في مدينة الأبيض قبل أكثر من عامين : الحصار .. التجويع المميت .. ثم الاستسلام.
    الحرب .. لم تكن هناك حرب في الواقع إلا تراشق غير دقيق التصويب عبر النهر، ثم الصمت والترقب والانتظار.
    في ذلك الجو المأساوي الكئيب لم يستطع غردون أن يأكل أو ينام، كان يواصل النهار مارا متفقدا أوضاع المدينة التحصينات والجنود، وكان يقضي الليل وحدة في سراي الخرطوم المطلة على النيل ساهرا، فإذا جلس إلى المائدة، وكان يأكل منفرداً، لا يجد أي شهية لبلع أي شئ.
    هل هو الخوف .. الإجابة بنعم ولا، (فأنا من ناحيتي في حالة خوف دائم ولكنه ليس خوف الموت، فقد انقضى هذا والحمد لله، ولكنه خوف الهزيمة ونتائجها. إنني لا أومن قط بالرجل الثابت الذي لا يهتز، ولكني أرى أنه إنما يحجب الخوف ولا يبديه، ومن ثم أخلص إلى أنه لا ينبغي لأي قائد قوات أن يعيش على علاقة وثيقة بمساعديه الذين يراقبونه بانتباه، فما من مرض يعدل الخوف في عدواه).
    تلك كانت إحدى خواطره التي كتبها في تلك الأيام.
    * * *
    والواقع أن غردون كان في تلك الأيام الرهيبة يقضي الليل بطوله يكتب، كان يكتب في كل شئ، وكانت كتابته أشبه بالمذكرات، ولكنها كانت أشمل وأعم، ففيها التعليقات الساخرة، والقفشات، والنقد المر، وتحليل الشخصيات، وإصدار الأحكام القاسية. كان يكتب كل ما يخطر بباله، فوصف حياته اليومية، وحياة الخرطوم في تلك الشهور الأخيرة من الحصار وصفا دقيقا ومؤثرا. وكان أحيانا يكتب تقييما دقيقاً لنفسه ولدوره في الأحداث، ودور غيره كذلك، كانت شخصيته شاخصة بين الكلمات، والمذكرات : شجاعته، سخريته، قوته، عبقريته، إيمانه العميق، نفاد صبره، رفضه لأساليب الدبلوماسية وطرق الموظفين لحل المشاكل، آماله، مخاوفه .. كل ذلك كان يظهر عارياً بلا رتوش.
    كان لاذعاً في نقده، فقد كتب إليه المندوب السامي البريطاني الذي خلف السير إفلن بيرنج في مصر، واسمه مستر إدوين إيجرتون، يسأله عن الوقت الذي يتوقع فيه أزمات في المؤن والذخيرة، فرد في مذكراته ساخرا (أعتقد أنني يجب أن أرتاح لذلك (الإيجرتون). إن في رسائله فكاهة مرحه تحملني على الظن بأن هموم الحياة لا تثقله، وأرى أن إيجرتون لو نبش الأرشيف، ويالها من كلمة لذيذة، في مكتبه لتبين أننا في أزمات منذ شهور، وما أشبه الموقف برجل على الضفة رأى صديقه يغوص في النهر مرتين أو ثلاثاً، فإذا به يصيح (أسمع يا أخي .. أنبئنا حين ينبغي أن نطرق إليك بطوق النجاة، فأنا أعرف أنك غطست مرتين أو ثلاثاً .. ومن الحرام أن نلقي لك بطوق النجاة ما لم تبلغ أقصى المحنة، هذا ما يريده بدقة، فقد نشأ إيجرتون في مدرسة الدقة).
    وحملته على مدرسة الدقة هذه، أي مدرسة الدبلوماسية، كانت تصل إلى حد يجعله يتكلم عنها باشمئزاز شديد. كتب مرة أنه يتمنى أن يأتي اليوم الذي يبحر فيه من الخرطوم جنوبا على النيل الأبيض إلى وسط أفريقيا، وينفض يديه من لندن وسياساتها القائمة على الرياء، ومنتدياتها وحفلاتها البشعة. وقال إنه كان يؤثر أن يعيش كأبناء القبائل مع المهدي على أن يخرج إلى مأدبة عشاء في لندن، وكتب مرة يقول (من بواعث اغتباطي أنني غير ملزم أن أرى بريطانيا العظمى مرة ثانية).
    وبلغه أن راهبات البعثة النمساوية في جبال النوبة، وكان على رأسها الأب أهرولدر، الذين استسلموا للمهدي في الأبيض وجاءوا معه إلى الخرطوم، بلغه أن أولئك الراهبات تزوجن من بعض التجار اليونانيين، فسأل (أي ضجة سيثيرها البابا بشأن زواج الراهبات من اليونانيين ؟ أنه إتحاد بين الكنيستين اليونانية واللاتينية).
    ولكنه كان قاسيا بصفة خاصة على سلاطين باشا، ربما لأن سلاطين بدل دينه وأعتنق الإسلام، أو ربما لعلاقته الشخصية بسلاطين، فهو الذي استدعاه من أوروبا لأول مرة عام 1877 وظفه في حكومة السودان، أو ربما لأنه استسلم، وغردون كان دائما يربط مسألة الاستسلام بموضوع (الشرف القومي)، فرجل خان شرفه القومي ليس له اعتبار عند الجنرال غردون.
    مهما كان السبب فإن رسائل سلاطين التي كانت تأتي متسربة من معسكر الأنصار لم تحرك في غردون شعرة.
    قال سلاطين إنه لم يعلن إسلامه عند المهدي، وإنما أشهر إسلامه في دار فور وهو يقاتل الأنصار ليكسب ثقة جنوده، وأعتذر بأن مما يسهل عليه فكرة تغيير الدين أنه لسوء حظه لم يتلق تعليما دينيا قويا في وطنه.
    وكتب مرة (لقد قاتلت سبعا وعشرين مرة في جانب الحكومة ضد العدو الذي هزمني مرتين، ولكنني لم أفعل شيئاً غير مشرف).
    وكتب مرة (إذا لم تزدرِ، سعادتكم، خدماتي التافهة ومعرفتي البسيطة بفنون الحرب، فإنني أرجو أن أعرض عليكم مساندتي دونما طمع في أي تكريم، إنني على استعداد للسير معك وتحت إمرتك إلى النصر أو الموت، ولسوف أهجر يومئذٍ وبسرور أتباعي القلائل المخلصين وأترك ثروتي كي أموت ميتة مشرفة).
    ولم يتردد غردون، رغم كل شئ، في إصدار الحكم القاسي، كتب يومها (وصلت خطابات سلاطين، وليس لي تعليق عليها، ولا أفهم لماذا كتبها).
    وكتب في يوم آخر (ليس بالهين على أوروبي أن ينبذ عقيدتنا خوفا من الموت، إذا كانت العقيدة المسيحية خرافة فلينبذها البشر، ولكن من الخسة والعار أن ننبذها إنقاذا لحياة المرء إذا كان يؤمن بأنها عقيدة صادقة. إن الخيانة لا تفلح، ومهما يحتمل أن تنتهي إليه الأمور، فمن الأفضل للمرء أن يقع وهو نظيف اليدين من أن يزج بنفسه في أعمال مشبوهة مع أناس مشبوهين).
    تلك كانت عينة مما كتبه غردون.
    والواقع أن فترة الانتظار كانت مرهقة، ولم تلح في الآفاق القريبة أي علامة من علامات نهايتها. ففي 25 نوفمبر جاءت الباخرة (بوردين) من شندي بأخبار جديدة عن تحرك الجيش الإنجليزي، وبثت الأخبار في المدينة، ولكن كل شئ خبا بعد أيام، فقد كانت مشكلة الطعام تضغط بشدة، وانتهى نوفمبر، ومضت عشرة أيام من ديسمبر.
    كانت هناك مشكلة في تحرك الجيش القادم من الشمال لم يفهمها غردون، وهي لماذا يتحرك الجيش بهذه السلحفائية القاتلة ؟
    بعد ذلك كان قد يئس من كل شئ. في 13 ديسمبر كتب (إذا لم تبذل جهود خلال عشرة أيام ستسقط المدينة).
    وفي اليوم التالي كتب آخر سطور مذكراته الضخمة والتي حوت ست مجلدات (الآن انتبهوا لهذا، إذا لم تصل حملة الإنقاذ، وأنا لا أريد أكثر من مائتي رجل، خلال عشرة أيام، ربما تسقط المدينة، لقد بذلت ما في وسعي للحفاظ على كرامة بلدي .. وداعا).
    ولف المذكرات، وأضاف إليها أوراق البرقيات وقصاصات الورق المشمع والخرائط الصغيرة التي كان قد رسمها، وبعض الرسوم الأخرى، وخاطها جميعاً في قطعة قماش، وكتب على الغلاف (أحداث الخرطوم : يوميات الجنرال غردون، لا أسرار فيها تتعلق بي، تفتح إذا قدر لها النشر، س. ج. غردون)، وختمها وأودعها الباخرة (بوردين) التي أقلعت في الصباح الباكر تحت نيران الأنصار.
    ثم كتب رسالتين منفصلتين، يقول في إحداهما : (إن الوضع وصل حدا لا أستطيع أن أرى معه إلى أكثر من خمسة أو سبعة أيام، بعد ذلك قد تسقط المدينة في أي لحظة، لقد فعلت كل ما في قوتي لأحافظ على الوضع، ولكني أعتقد أن الوضع حرج، بل بائس). وفي الخطاب الآخر كتب (أظن أن اللعبة انتهت، ربما تقع الكارثة خلال عشرة أيام).
    * * *
    في 12 أكتوبر اكتشف غردون تحركا في المدينة اشترك فيه عددا كبيرا من السودانيين لمناصرة المهدي، فأعتقل منهم ستة عشر رجلاً، ولكنه تردد في أمرهم، فكتب (إنني أشد حيرة مما أريد بهذه الاعتقالات، أتراها عملاً صائبا ؟ لو قدر لي أن أتأكد من أن الأغلبية تود الذهاب للمهدي لدبرت في ذهني ما ينبغي في الحال، فإن ذهابهم يتيح لي ارتياحا هائلاً، ولكن هل عامة الشعب يريدون ذلك).
    وهذا التساؤل لا يعكس إلا أن الأمور بدأت تختلط على غردون، فلم يعد يفرق بين الأبيض والأسود، ففي اللحظات التي كان فيها السودان كله يسير خلف ركاب المهدي، ولم تبق من مدنه مدينة لم تنضم للثورة إلا الخرطوم وكسلا وسنار كجزر صغيرة ومتباعدة .. لا يبقى مجال للتساؤل.
    كيف يعرف غردون أن المواطنين في الخرطوم يؤيدون المهدي أم لا وأبواب المدينة مغلقة والخروج محظور ؟ لماذا لم يعتبر أن هذا الذي سماه (مؤامرة) هو إظهار لرغبات قطاع من سكان المدينة فيفسح لهم المجال بفتح الأبواب ؟
    في تلك الأيام حدث شئ غريب لم يكن له ما يبرره، فقد أعلنت سلطات الحكمدارية أنها قبضت على امرأة تريد إحراق مخزن الذخيرة بالخرطوم، وقالت الحكمدارية إن وراء المرأة رجل هو الذي دبر الأمر، وأشارت أصابع الاتهام إلى الشيخ أحمد العوام.
    والشيخ أحمد العوام مصري الجنسية، وهو من أنصار الثورة العرابية وخطبائها، وبعد سقوط الثورة نفي إلى السودان، وفي منفاه في الخرطوم تتبع أمر الثورة المهدية، وكتب رسالة عنها في عام 1884م سماها (نصيحة العوام) يناصر فيها المهدي، ويدعو لإيقاف الحرب الدائرة بين المسلمين في السودان، واستطاع أن يهرب الرسالة إلى الإمام المهدي، وكان لرسالته أثر كبير في الخرطوم، فسجنه غردون باشا لفترة ثم أطلق سراحه وعينه معاوناً في الحكمدارية على أن يتوقف عن دعوته، ولكن لأنه لم يدخل السجن برغبته، ولم يخرج بإرادته، فإنه لم يلتزم بذلك الشرط، فعاد لانتقاد الحكومة، فضاق به غردون، وجاءت قصة تحريضه للمرأة على حرق مخزن الذخيرة، فأعتقل وحوكم وأعدم.
    لا معنى إذن لحيرة غردون.
    فقد تصرف في هذا الموقف وفي موقف (المؤامرة) تصرف (الحاكم العسكري) وليس تصرف (المفكر) ذو الضمير اليقظ الذي يميز بين الخطأ والصواب.
    * * *
    وأخيرا كان لا بد مما ليس منه بد. فبعد وصول الإمام المهدي إلى منطقة أبي سِعِد، في الضواحي الجنوبية لمدينة أم درمان، كتب إلى غردون باشا يدعوه إلى اعتناق الإسلام، ويطلب منه تسليم المدينة للأنصار.
    وبعد ذلك بأيام، في 22 أكتوبر، وصلت رسالة أخرى من الإمام المهدي إلى الجنرال غردون، تحمل أخباراً هزت غردون هزاً، فقد حمل إليه المهدي خبر مقتل الكولونيل إستيورت ومن معه من الأوروبيين، ولكي لا يكون لدى غردون أي شك، فقد حوت الرسالة قائمة بمحتويات ما وجد عند الكولونيل إستيورت من رسائل : يوميات إستيورت، الشفرة، النداءان الموجهان إلى البابا والسلطان العثماني، التقارير المشتملة على كميات الأغذية والذخائر الموجودة في الخرطوم، عدد أفراد الحامية وأسلحتهم، وكتب له عن استسلام ليبتون باشا مدير بحر الغزال.
    ومرة أخرى دعا الإمام المهدي الجنرال غردون إلى الاستسلام قبل فوات الأوان، ولكن غردون رد على المهدي بحزم بأنه سيظل صامداً كالحديد، وقال إن القوات الإنجليزية في طريقها إلى الخرطوم.
    * * *
    كان الجنرال غردون مشغولاً بحساب المسافات وسرعة حركة حملة الإنقاذ، ثم حساب ما تبقى في مخازنه من أغذية، ومقدار الصرف اليومي، وأوصله كل ذلك إلى أن الحملة ستصل في 15 نوفمبر، وما عنده من غذاءات سيكفي المدينة ستة أسابيع، أي حتى نهاية شهر نوفمبر.
    في 12 نوفمبر قامت كتائب الأنصار بأول حملة كسرت بها الهدوء الذي كان يلف الحصار، فقد أفلحت، بحركة سريعة، في تطويق طابية أم درمان، وذلك بقطع خط الاتصال بشاطئ النيل، وبذلك انقطعت صلتها بالخرطوم وأصبحت جزيرة معزولة مهيأة لأن تواجه نقصا في الطعام ومياه الشرب. ومضى شهر نوفمبر كله، وفي 15 ديسمبر أبحرت الباخرة بوردين تحمل خطابات غردون وإنذاراً منه بأنه لن يضمن صمود المدينة لأكثر من عشرة أيام.
    كان كل شئ يبدو وكأنه ينحدر نحو النهاية المحتومة، فإن الأيام العشرة التي حددها غردون لاحتمال صموده امتدت إلى ستة أسابيع. انتهت كل الأغذية المخزونة، هذه الأغذية كان من المفروض أن تنتهي قبل ذلك لو لا بعض التجريدات التي كان يبعث بها غردون لتنهب من معسكرات الأنصار بعض الذرة والمواشي.
    ولكن كل ذلك لم يقلل من سرعة اندفاع المدينة نحو الكارثة. في 14 يناير وصلت رسالة بالإشارات من قائد طابية أم درمان، لم يبق أمام الطابية غير الاستسلام، وفي اليوم التالي ارتفعت فوقها الأعلام البيضاء وفتحت أبوابها للأنصار.
    وزاد هذا الإجراء من سرعة الاندفاع نحو الكارثة، وتبادل غردون والمهدي ثلاث رسائل اقترح فيها غردون أن يستضيف المهدي بعض الفقراء والعجزة ويطعمهم بدل أن يتركهم يموتون من الجوع، وقبل المهدي العرض ورحب بالقادمين، وبالفعل خرج بعض الفقراء الذين كانت الحكومة تتكفل بغذائهم، وبعض النساء والأطفال، وخرج مع هؤلاء بضع عشرات من الهاربين من جحيم الحصار والمجاعة، فأوصى المهدي بالرفق بهم وبكل من جاء مسلماً، ثم كتب رسالة إلى أهل الخرطوم يدعوهم إلى التسليم.
    ولكن هذه الإجراءات لم تخفف كثيراً من سرعة الاندفاع نحو الهاوية، إذ لم يكد الأسبوع الثاني من يناير ينتهي حتى كان الطعام قد انتهى تماما، وأضطر السكان لالتهام أي شئ من الحيوانات والزواحف التي تصل إليها أيديهم، فأكلوا لحوم الكلاب والقطط والحمير والجلود والصمغ وأوراق الأشجار، وأي شئ يمكن أن يمضغ ويبلع، وبدا الناس أشبه بالأشباح، ضعفت الأجسام وباتت تتحرك بصعوبة، ومات كثير منهم من الجوع، وتناثرت بعض الجثث في الشوارع أو تركت في البيوت، وبلغ الضعف بالأحياء أنهم لم يستطيعوا حفر قبور موتاهم.
    هذا الوصف المأساوي للخرطوم في أيامها الأخيرة أورده البرديني بك، وهو أحد تجار الخرطوم الذين عاشوا آخر أيام الحصار، ولكنها حال الحرب على كل حال، أو لنقل الوجه القبيح للحرب. ويوما بعد يوم كان الجنرال غردون يصعد على سطح السراي يبحث بمنظاره في آفاق النيل البعيدة عن دخان البواخر القادمة، ثم يمر بمنظاره عبر تحصينات ومعسكرات الأنصار.
    في 20 يناير ألتقط غردون حركة غير عادية في أحد معسكرات الأنصار، بعض النساء يبكين، والرجال يتجولون في شئ من القلق والضيق، وفي مساء اليوم جاءه أحد عيونه بتفسير ما حدث.
    ذلك كان خبر هزيمة الأنصار في أبي طليح، وأبو طليح عبارة عن آبار تقع في صحراء بيوضة على الطريق بين كورتي والمتمة. فبعد أن عبر الجنرال إستيورت آبار الجكدول وصل إلى أبي طليح في 17 يناير، وكان الأنصار بقيادة الأمير موسى ود حلو، وهو أحد أشجع أمراء الأنصار وشقيق الخليفة علي ود حلو وأمير جيش رايته الخضراء، قد سبقوه واحتلوا تلك الآبار، وقد جاء الأمير موسى على رأس أربعة آلاف مقاتل مكلفا بصد الجيش القادم ومنعه من دخول المتمة عاصمة الجعليين، وعند الاشتباك استطاع نحو ألف وسبعمائة جندي يقودهم مائة وخمسة عشر ضابطا إنزال هزيمة ساحقة بالأنصار وإبادة جيشهم إبادة تامة، ذلك أن الأنصار لم يلتزموا بأوامر القيادة، بل إن الأمر أفلت من يد الأمير قائد الجيش بمجرد أن رأى الأنصار الإنجليز (الكفار)، فهذه أول مرة يلتقي فيها الأنصار وجهاً لوجه مع الإنجليز، وقتل في المعركة قائد الأنصار الأمير موسى ود حلو.
    كانت هزيمة أبي طليح من أمر الهزائم التي مني بها الأنصار، وخلدوها في الشعر والأساطير.
    نشر غردون خبر انتصار أبي طليح في الخرطوم بصورة واسعة، وفرحت المدينة، ربما كان هذا آخر شعاع من السرور يلمع في أفق المدينة قبل أن تعود إلى ضيق الحصار والانسحاق من جديد.
    في هذا اليوم عقد الإمام المهدي مجلساً حربياً حضره الخلفاء الثلاثة وأمير الأمراء عبد الرحمن النجومي وبعض الأمراء قادة الحصار، وناقشوا الوضع. كانت خطة الإمام المهدي أن يمد حبال الصبر حتى يأتي الحصار بمفعوله وتركع المدينة بلا قتال كما فعلت مدينة الأبيض قبل عامين، ولكن ثبات غردون ضيع هذه الفرصة، بل أن الوضع ربما بدأ يتغير باقتراب الحملة الإنجليزية من المتمة. وناقش الاجتماع فكرة العودة إلى مدينة الأبيض، ولكن الاتجاه العام في الاجتماع كان يميل إلى اقتحام المدينة، إلا أن المجتمعون انفضوا دون أن يتخذوا قرارا صريحا.
    * * *
    أما في المتمة فقد وصلت قوات الصحراء بعد أن فقدت قائدها الجنرال هيربرت إستيورت ونائبه الجنرال بيرنابي، فوضعت القيادة الآن في يد الجنرال تشارلس ولسون وهو ضابط مخابرات سابق، وعند أطراف المدينة اعترضها نحو ألفا من الأنصار بقيادة الأمير النور عنقرة، إلا أن الأنصار انسحبوا بعد مناوشة قصيرة.
    في مساء يوم 19 يناير دخلت الحملة مدينة المتمة، وبعد ذلك بيومين وصلت الباخرة بوردين التي كانت تحمل يوميات غردون، وأحست الحملة بصعوبة الوضع في الخرطوم، ورغم أنهم تسلموا في نفس اليوم رسالة قصيرة من غردون تقول (الخرطوم بخير، نستطيع الصمود أعواما)، إلا أنه كان من الواضح أن الرسالة كانت للتمويه فيما لو وقعت في أيدي الأنصار، ولذلك استعجل القائد الجديد التحرك إلا أنه كان مرتبكاً، فهذه أول مرة يقود فيها جيشاً، فهو في الأصل كان ضابط استخبارات، ولذلك فإن الاستعداد للتحرك أقتطع منه اثنين وأربعين ساعة بعد وصول رسائل غردون. ورغم أن الوقت كان متأخرا جدا إذ قدر غردون أن مدة صموده بعشرة أيام فقط (تنتهي يوم 24 ديسمبر) إلا أن الإسراع كان مهما، لأنه على الأقل لم تصل أي إشارات تنبئ عن سقوط الخرطوم.
    في صباح 24 يناير غادرت الباخرتان (بوردين وتل الهوين) مدينة شندي، كانتا تحملان عشرين من الجنود البريطانيين ومائة وتسعين من السودانيين، وكانت تل الهوين تقطر خلفها صندلا محملا بالذرة ونحو خمسين جنديا سودانيا للحراسة.
    ومنذ تحركهما من شندي كان سوء الطالع، أو بالأصح سوء الإدارة، يترصد لهما. ففي اليوم التالي اصطدمت بوردين بصخور الشلال السادس، وعندما أخرجت بصعوبة بالغة جنحت في الرمال، ثم نفذ خشب وقود غلايات الباخرتين.
    كان التأخير عملا غير مغفور في تلك اللحظات، فطوال أربعة وعشرين ساعة لم تتحرك الباخرتان أكثر من ثلاثة أميال، وبعد أن عبرت القافلة شلال السبلوقة يوم 27 يناير بدأت تتعرض لنيران كثيفة من الشاطئين المقابلين. وفي ظهر ذلك اليوم حمل إليهم صوت جهوري من الشاطئ خبر سقوط الخرطوم ومقتل الجنرال غردون، ولكن كان على قائد الحملة أن يتأكد، ولذلك فبعد أن باتت الباخرة ليلتها تلك استأنفت رحلتها في صباح 28 يناير، وشقت طريقها بصعوبة بالغة وسط نيران الأنصار من جانبي النهر، من الحلفاية وأم درمان، ثم من جزيرة توتي في المرحلة الأخيرة.
    كانت المناظير المكبرة تركز في بحثها على العلم المصري الذي يرفرف على السراي، ولكن العلم لم يكن موجودا، والسراي مهدمة في بعض جوانبها، وكان بعض الأنصار يتجمعون على الشاطئ في مكان رسو الباخرة لمنع الجنود من النزول.
    الآن تحققوا من سقوط المدينة، لقد جاءوا بعد فوات الأوان، ولم يبق إلا أن تتراجع الحملة بحثا عن سلامتها.
    * * *
    إذا عدنا إلى الخرطوم في الأيام الثلاثة الأخيرة لقلنا إن العد التنازلي كان قد بدأ قبل أيام، الطريق إلى النهاية كان واضحا كصفحة كتاب مقروء.
    في يوم 24 يناير نقلت استخبارات المهدي خبرين لعل الفضل يرجع إليهما في حسم موضوع اقتحام الخرطوم. الخبر الأول هو نقل آخر صورة للخرطوم من الداخل، وهي في أقصى حالات ضعفها من الجوع والإرهاق والقلق، مدينة ليس في مقدارها أن تحارب إذا فرضت عليها الحرب. الخبر الثاني هو تحرك القوات البريطانية من قرية القبة، حوالي عشرين ميلا على النيل شمال الخرطوم، واحتمال وصولها خلال يومين، وكان السؤال الذي طرح نفسه على المحاصرين هو : هل من الأفضل أن تدخل هذه القوات وما تحمله من مؤن إلى الخرطوم وتنضم إلى القوات المحاصرة وتفك الضائقة الغذائية، أم الأفضل أن تدخل بعد فوات الأوان مما قد يضطرها للاستسلام أو إلى التقهقر والهروب ؟
    ويبدو أن الإمام المهدي اتخذ قراره النهائي في هذا اليوم، ففي صباح اليوم التالي ـ 25 يناير ـ دعا مجلس الحرب إلى الانعقاد، ووضعت تفاصيل خطة الاقتحام، وبدأ آلاف الأنصار يعبرون النيل الأبيض من أبي سِعِد إلى منطقة ما بين النيلين، وفي المساء عبر الإمام المهدي وخلفائه إلى مقر قيادة الأمير عبد الرحمن النجومي في الكلاكلة.
    * * *
    في داخل المدينة كان الجنرال غردون قد قام بمحاولته الأخيرة، كان يتملكه شعور قوي بأن المدينة لم تعد تصدقه من كثرة ما وعدها بقرب وصول القوات البريطانية، وفي يوم 24 يناير أعلن في المدينة بأنه منذ تلك اللحظة فإن كل يوم يصمدونه في الحصار سيدفع لهم مقابله مرتب شهر كامل، ولعل المقصود بهذا الإعلان ليس كثرة ما سيدفعه لهم من مال، ولكنه تأكيد جازم بأنهم لن يمكثوا في الحصار إلا يوما أو يومين لقرب وصول الحملة.
    وطاف غردون على جنوده شارحا هذا الأمر، وهو يحث الجميع على الصمود، وناشد كل القادرين على حمل السلاح من المدنيين الوقوف بجانب المحاربين. لكن اللعبة كانت قد انتهت تماما، كما كتب غردون نفسه قبل أربعين يوما، فبعد صلاة الفجر من يوم الاثنين 26 يناير، زحف نحو خمسين ألفا من الأنصار، وبصمت شديد، نحو التحصينات، في المقدمة بعض الفدائيين والجنود غير النظاميين، وبعدهم حملة السيوف والحراب، ثم حاملي البنادق، ظل التحرك في صمت حتى اقتربوا من خطوط الدفاع، وفجأة انفجرت المنطقة بأصوات النيران على طول خط الدفاع مختلطة بالتكبير والتهليل والصراخ.
    ولم يكن من الصعب، بعد هذا، أن تنحسر المعركة بعد ساعات قلائل، فالمفاجأة والضعف العام والجوع والخوف كلها كانت من علامات الهزيمة، هذا إذا أضفنا الفارق الكبير بين الكفتين في عدد الجنود، وإذا أضفنا فارق الروح المعنوية.
    * * *
    لم يبق من المشهد إلا لحظات قبل إسدال الستار، أعني نهاية القديس.
    كان غردون قد قضى الليل، أو معظمه، وهو منكب على منظاره يراقب من على سطح السراي، ولم ينم أكثر من ثلاث ساعات، وأستيقظ عند الفجر على صوت انفجار المعركة، فلبس ثيابه الرسمية كاملة، وعلق سيفا على جانبه الأيسر ومسدسا، وكان عدة مئات من الأنصار يتسابقون نحو السراي، وفي لحظات كان حراس السراي يتساقطون، وصعد الأنصار سلم السراي إلى الطابق الأول، عند رأس السلم كان الجنرال يقف بقامته المديدة وجسمه النحيل، وكان كما وُصِف يقف في أنفة ورباطة جأش، ويسراه على مقبض سيفه، تلك كانت اللحظات التي ظل يخطط لها بحساب شديد منذ عدة شهور، ولذلك وقف ينتظرها وهو على أكمل استعداد مظهري ونفسي، لم يقاوم، إذ لا معنى للمقاومة، وامتدت إليه الحراب والسيوف .. وسقط، وقطعوا رأسه وحملوه إلى المهدي.
    واختلفت بعد ذلك الروايات، وظلت تتراوح بين من يدعي أنه بواسطة مدفع رشاش وقف على سطح السراي، وحصد عدة عشرات من الأنصار قبل أن يصعدوا إليه، ومن يقول أنه لم يشترك في القتال وإنما قضى الوقت القصير المتاح في الاستعداد للقاء الموت، على الرواية التي ذكرنا، ولكن الجميع بعد ذلك متفقون على أنه لم ينتحر، ولم يحاول الهرب، ولم يطلب الاستسلام، ولم يجزع.
    أما القديس المنتصر فلم يفرح قط لموت غردون. قبل بدء المعركة أوصى أصحابه بالحفاظ على حياة غردون، ولكن معركة يشترك فيها أكثر من خمسين ألف جندي من جانب واحد، لا يستطيع أحد أن يضمن الانضباط في تنفيذ جزئيات أحداثها، ولقد أستاء المهدي لقتل الجنرال غردون، ولكن من المؤكد أنه لم يكن يريده حيا فقط (ليكبله في الأغلال مثل سلاطين حتى يعتنق الإسلام)، كما يقول ألان مورهيد، فقد كان الإمام المهدي يقدر في غردون شجاعته وشهامته ورجاحة عقله وقوة احتماله، وكان يطمع أن تكون هذه الصفات مدخلا لاعتناقه الإسلام.

    الهـوامــش
    ـــــــــــــــــــــ
    (1) ألان مورهيد، النيل الأبيض، ص 143.
    (2) ثيوبولد، المهدية، ص 93.
    (3) في فبراير ومارس عام 1884م.
    (4) ثيوبولد، المهدية، ص 105.
    (5) ألان مورهيد، النيل الأبيض، ص 249.
    (6) المرجع السابق، ص 250.
    (7) المرجع السابق، ص 252.
    ( المرجع السابق، ص 252.
    (9) المرجع السابق، ص 254.
    (10) المرجع السابق، ص 254.
    (11) المرجع السابق، ص 252.
    (12) المرجع السابق، ص 252.
    (13) المرجع السابق، ص 252.
    (14) ثيوبولد، المهدية، ص 114.
    (15) المرجع السابق، ص 114.
    (16) المرجع السابق، ص 116.
    (17) المرجع السابق، ص 117.
    (1 ألان مورهيد، النيل الأبيض، ص 253.
    (19) ألمرجع السابق، ص 272.
    (20) المرجع السابق، ص 273.
                  

02-04-2004, 12:47 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    صـــــــــراع الثقافــــــــات
    لا أريد أن أستعمل الكلمات العاطفية التي قد تعبر عن (رأي) ربما يعتبر متحيزا منذ البداية، ذلك لأن الذين تناولوا تاريخ السودان دأبوا على استعمال كلمات (فتنة) أو (محنة) أو (ثورة) الأشراف للتعبير عن ذلك الصراع الدموي بين الخليفة عبد الله والأشراف. فكلمة (فتنة) كان يستعملها أنصار الخليفة عبد الله وذلك لتبرير كل أنواع الشدة في مواجهتها، وهو ما فعلة الخليفة عبد الله عمليا. أما كلمة (محنة) فتشير ضمنا إلى حالة الاستضعاف والبلاء والظلم الذي أنصب على الأشراف، فاستعمالها يأتي بغرض كسب التعاطف لموقفهم، وهو يصور ما قاموا به كرد فعل لما حدث من جانب الخليفة، وصمودهم ضد تحرشات السلطة، وعكس ذلك تماما كلمة (ثورة)، فكلمة ثورة تعبير حديث ومعقد لأنها تحمّل الكلمة أكثر من معنى في آن واحد، فهي تعني (التمرد) على النظام أو على الشخص القائم على الحكم بقصد إزالته أو إضعافه، ثم تعني إحلال نظام أو شخص آخر مكانه بقصد التغيير نحو الأحسن.
    هذه المقدمة ضرورية لأن الباحث هنا لا يريد أن يتعامل مع الألفاظ الثلاثة الشائعة، لأنه لو استعمل أي منها يكون قد حدد موقفه منذ البداية، وربما موقف القارئ كذلك، وليس هذا مقصودا على أية حال.
    فالمطلوب في مثل هذا الموقف ليس تحديد من هو المخطئ ومن هو المصيب من بين فريقي الصراع، وإنما الهدف هو تسليط بعض الأضواء على أكبر قدر من زوايا الأزمة حتى تتضح كل أبعادها ويتبين حدود الصراع، مما يتيح الفرصة للقارئ لتكوين رأي أقرب للشمول والموضوعية.
    كذلك ليس المقصود تحديد من هو المصيب ومن هو المخطئ لأنه قد لا يوجد مصيب أو مخطئ بالمعنى المعلوم للكلمتين إذا نظرنا للأزمة من زواياها الأرحب، أي أنها صراع ثقافي وحضاري تفجر في تلك الأيام لأن الظروف الموضوعية قد نضجت لتفجيره.
    * * *
    لنحاول أن نبدأ الموضوع بفك رموز بعض الاصطلاحات :
    أولا : من هم الأشراف؟
    أكتسب مصطلح الأشراف معنى سياسيا مرادفا لصطلحي (أولاد البلد) و(أولاد البحر)، وقد أكتسب بمدلوله السياسي معنى أوسع، إذ أن الأشراف حقيقة هم أقارب الإمام المهدي المنحدرين من منطقة دنقلا، وما زالت جزيرتهم تعرف بجزيرة الأشراف، ومصدر التسمية اعتقادهم بالانتماء إلى الشجرة النبوية الشريفة.
    ولكن بصفة عامة لا يوجد ما يميزهم عن غيرهم من الدناقلة في المنطقة، وترجع أهميتهم التاريخية إلى أن الإمام المهدي أنحدر منهم، وأن مجموعتهم وإن كانت قليلة العدد إلا أنها كانت المجموعة التي لازمت الإمام المهدي في مختلف مراحل الثورة، ثم هم الذين شكلوا النواة الداخلية لمجموعات متجانسة من السكان تمخض عنها ذلك الحزب الجماهيري الكبير الممتد.
    ولفظ الأشراف يحمل مدلولا تفاخريا إما لأنه يعلن انتماؤهم للشجرة النبوية الشريفة أو لأن الإمام المهدي انحدر منهم، ولذلك فإن خصومهم غالبا ما كانوا يحرمونهم من الاستمتاع بهذا الانتماء ولذلك يطلقون عليهم لفظ (أولاد البحر)، وهذا اللفظ يعني القبائل النيلية الشمالية، إذ في السودان يقولون البحر ويقصدون به النهر الذي هو نهر النيل، وهذا اللفظ هو أكثر الألفاظ الثلاثة دلالة على المضمون، لأن تجمع الأشراف في الواقع هو ذلك التجمع الذي ضم كل القبائل النيلية الشمالية ممن لا تربطهم بأشراف دنقلا رابطة دم أو حسب أو نسب. أما اصطلاح (أولاد البلد) فيقصد به إقامة نوع من المقارنة التفضيلية، فالمقابل (لأهل البلد) هو (أهل البادية)، والتفضيل هنا ثقافي وحضاري. كذلك قد يكون المقابل (لأولاد البلد) هو لفظ (الغرباء)، باعتبار أن إدارة دولة المهدية قامت في (بلاد البحر) أي في ديارهم، ولكن أولئك الوافدين هم من الأغراب.
    على كلٍ حال، فرغم تعدد الألفاظ فإن الاصطلاح الذي شاع أكثر من غيرة هو اصطلاح الأشراف، الذي توسع مدلوله كثيراً ليصبح شعارا سياسيا لفئة ممتدة على طول النيل من أقصى الشمال حتى أواسط السودان.
    * * *
    ثانيا : من هم أولاد الغرب ؟
    كان الجانب الثاني في صراع الأشراف مع الخليفة عبد الله هم (أولاد الغرب) أو (البقارة) أو (التعايشة)، ويلاحظ أن كل اصطلاح منها يتسع جغرافيا ليشمل الآخر في داخله، فـ (التعايشة) هم القبيلة التي ينتمي إليها الخليفة عبد الله، وهي من أصغر القبائل السودانية، وهم الذين شكلوا النواة الداخلية للحزب الحاكم، و(البقارة) هم مجموعة القبائل التي تكون قبيلة التعايشة واحدة منها، بينما لفظ (أولاد الغرب) يتسع ليضم كل قبائل غرب السودان، والبقارة فيهم يشكلون أحد حلقات الدائرة.
    هذا هو خط تقسيم الألفاظ الثلاثة جغرافيا، أما من الناحية السياسية فالألفاظ الثلاثة متساوية يتسع بعضها ويضيق البعض الآخر لتعني في النهاية مجموعة أهل الغرب الذين يدعمون سياسات الخليفة عبد الله.
    * * *
    لعل الصراع بين أولاد البحر وأولاد الغرب يرجع في أصوله الأولى إلى أسباب متعددة، لها الوجه الاقتصادي والوجه الاجتماعي والوجه الثقافي. فبينما كان أهل البحر مستقرين يمارسون الزراعة والتجارة، وهي حرف متقدمة تاريخيا، فقد ظل أهل الغرب في معظمهم رعاة رحل لم ينعموا بمرحلة الاستقرار بعد، وترتب على هذا أن أهل البحر استثمروا هذا الاستقرار لتنمية اهتمامات أخرى، فأسسوا الخلاوي لتحفيظ القرآن الكريم وتدريس اللغة العربية وعلوم الدين، وتطلعوا إلى خارج الحدود، إلى مصر والحجاز، حيث أرسلوا البعثات، وأسسوا رواقا خاصا بهم في الأزهر وفي مكة المكرمة عرف باسم الرواق السناري، وقد انعكس هذا الصعود الثقافي على حياتهم الاجتماعية بنفس القدر الذي انعكس به الرخاء الاقتصادي، فعاشوا حياة اجتماعية أكثر انتظاما واستقرارا ورفاهية.
    في الغرب لم تنتظم الأمور بهذه الصورة، ولذلك كانت البيئة أقل رفاهية من الناحية الاقتصادية، وأقل استقرارا من الناحية الاجتماعية، وأقل اهتماما بالعلوم من الناحية الثقافية.
    هذا التناقض بين المجموعتين خلق شيئا من العداوة التقليدية، أو على الأقل خلق شعورا عند أولاد البحر بأنهم أرفع شأنا من أقرانهم في الغرب.
    وعندما جاء الإمام المهدي حاول أن يحطم تلك الحواجز بقوة الدين، فجمع المجموعتين على صعيد واحد، وحاول أن يصهرهم في أتون الثورة، ولكنه لم يغفل عن بعض الحساسيات في موضوع الزعامة، فبينما تولى هو القيادة العامة للحركة أوجد للخليفة عبد الله منصب الرجل الثاني، فعينة أميرا للأمراء ونصبه قائدا عاما لقوات المهدية.
    حدث هذا في الأيام الأولى للثورة، في جبل قدير، في أواخر عام 1881م. ولكن تضخم عدد الوافدين نحو المهدي جعله يفكر بعد شهور قلائل في إعادة تنظيم قوات الأنصار، وهكذا برزت فكرة الرايات الثلاثة. والرايات عبارة عن تنظيمات عسكرية أكثر منها تنظيمات قبلية، وقد روعيت فيها الناحية الجغرافية، وجعل الإمام المهدي لكل راية خليفتها وجيشها وأمرائها. والواقع أن هذا التقسيم ـ رغم كل شئ ـ هو الذي كرّس ذلك الخلاف وأعطاه أبعادا مادية مرئية.
    كان توزيع الرايات كالآتي :
    * الراية الزرقاء وضمت قبائل الغرب، ويشكل البقارة مركز الثقل فيها، وعين الخليفة عبد الله خليفة لها، وهو بدوره عين أخاه الأمير يعقوب أميرا لأمرائها.
    * الراية الخضراء وضمت القبائل العربية على النيل الأبيض والنيل الأزرق كقبائل دغيم وكنانة وبني حسين واللحويين والحسينات، وأختار الإمام المهدي الخليفة علي ود حلو خليفة لها، وهو بدوره أختار أخاه الأكبر الأمير موسى ود حلو أميرا لأمرائها.
    * الراية الحمراء وضمت أولاد البحر كالدناقلة والجعليين وما بينهما من رباطاب ومناصير وميرفاب، وأختار الإمام المهدي ابن عمه الخليفة محمد شريف خليفة لها، ولما كان الخليفة شريف صغيرا في السن فقد أختار له الإمام المهدي الأمير عبد الرحمن النجومي وصيا وأميرا لأمراء رايته، والأمير عبد الرحمن النجومي ليس من الدناقلة وإنما ينتمي إلى الجعليين.
    * * *
    الذي يهمنا في هذا الصراع بين أبناء الغرب وأبناء النيل الجانب السياسي منه، وهو الجانب الذي أطل برأسه بعد اندلاع الثورة المهدية، ثم تطور ليصل إلى قمته في عهد الخليفة عبد الله، حينما تحول إلى صراع مسلح هدد وجود الدولة المهدية من أساسه. كان الصراع أساسا حول السلطة أي خلافة الإمام المهدي على أمر الدولة المهدية، وكان كل جانب يرى أحقيته وأهليته لهذه الخلافة، وبالتالي تمسك بتلك الأحقية : الأشراف أبدوا سببين تقليديين لدعم فكرة أحقيتهم بالخلافة، هما صلة قرابتهم بالإمام المهدي صاحب الدعوة ومؤسس الدولة، ثم ادعاؤهم التفوق الحضاري والثقافي ومعرفتهم للشئون العامة أكثر من أولاد الغرب.
    بينما كان الخليفة عبد الله وأنصاره يرون أن المهدية دعوة عامة للمسلمين وليست إرثا خاصا لأقارب الإمام المهدي، وكانوا يعتمدون على اختيار المهدي للخليفة عبد الله خليفة أولا بين سائر خلفائه، وربما كان أبناء الغرب يرون أن السبب الحقيقي في انتصارات الثورة المهدية يرجع في الأساس إلى الدعم البشري اللامحدود الذي قدموه للمهدي، فهم قوة المهدية الضاربة، وهم الذين لجأ إليهم المهدي هاربا من ديار أهله.
    * * *
    في حياة الإمام المهدي لم يظهر الصراع للسطح بحيث يؤثر على الأحداث، وذلك لقوة شخصية المهدي وهيمنته على كل شئ، ثم لانشغال الناس بالدفاع عن الحركة وهي لمّا يشتد عودها بعد، ولكن برغم ذلك أحس المهدي بالهمس والهمهمات والتذمر من بعض أهله لوضع الأمر في يد الخليفة عبد الله، ولكنه كان يقضي على كل حركة تسعى لجعل المهدية شيئا خاصا لأقاربه تورث كما تورث الأموال، وكان قمعه يشتد كلما اشتدت حركة الناقمين من أهله.
    ـ في مدينة الأبيض أصدر منشوراً بوجوب السمع والطاعة للخليفة عبد الله.
    ـ ثم سمى الخليفة عبد الله خليفة (الصديق)، أي أن مكانة الخليفة عبد الله منه بمكانة سيدنا أبو بكر الصديق من النبي عليه الصلاة والسلام.
    ـ ثم حذر أهله والأشراف أكثر من مرة بأنهم انشغلوا بالدنيا وبمكاسب المهدية.
    ـ وبعد فتح الخرطوم تبرأ منهم في صلاة جامعة في آخر جمعة صلاها قبيل وفاته.
    هذا الرصيد من دعم المهدي هو ما أعتمد عليه الخليفة عبد الله وجعله الحد الفاصل بينه وبين الأشراف، وقد تحرك الأشراف عند وفاة المهدي في محاولة لمبايعة الخليفة محمد شريف وفشلت خطة التحرك، واستطاع الخليفة عبد الله أن يأخذ البيعة لنفسه في اجتماع عام، ثم تعاقب عليه الأشراف واحدا إثر الآخر مبايعين، ولما استقر الأمر للخليفة أستصدر بيانا من الخليفتين لعامة المسلمين والأنصار يدعوان فيه لتأكيد بيعة الخليفة.
    * * *
    ولكن الأمر لم يستمر بهذا اليسر، فالذي كان يغض مضجع الخليفة هو: أين تقف القوة العسكرية في الدولة من هذا النزاع خصوصا وأن الأشراف كانوا، رغم بيعتهم، يتحركون، وكانت عيون الأمير يعقوب ترصد تحركاتهم.
    كان معظم قواد الجيش والأمراء من الأشراف : عبد الرحمن النجومي كان في الشمال يتعقب الجيش البريطاني (حملة الإنقاذ) المنسحب، ثم عاد وعسكر في المتمة، ومحمد عبد الكريم كان يحاصر سنار، ومحمود عبد القادر في كردفان، ومحمد خالد زقل في دار فور، وكرم الله كرقساوي في بحر الغزال، والشيخ محمد الخير كان أميرا على بربر ودنقلا.
    هذا الإحصاء يعني أن كل قادة الأشراف الأقوياء كانوا خارج العاصمة عند وفاة الإمام المهدي ومعهم أكثر المحاربين من أبناء النيل، وفي نفس الوقت كانت قوة الراية الزرقاء متمركزة في العاصمة باستثناء الأمير حمدان أبو عنجة الذي كان يصارع المتمردين في جبال النوبة، وهكذا نجد أن القوة العسكرية في العاصمة التي حسمت موضوع السلطة في أيامه الأولى هي القوة المكونة من أبناء الغرب.
    أدرك الخليفة عبد الله هذا الموقف الصعب فبدأ يتحرك بحساب دقيق وبنفس طويل لتأمين موقفه، وعبر سلسلة بطيئة من عمليات العزل والإبدال لأمراء الأشراف استقر الأمر أخيرا في يد الأمراء التعايشة.
    رأى الخليفة عبد الله ـ أولاً ـ أن يبعد الخليفتين إلى الثغور بحجة إعادة توزيع الجيوش، فأوكل للخليفة علي ود حلو فتح الشرق، وللخليفة شريف فتح مصر على أن تكون الراية الزرقاء في الغرب.
    وبالفعل خرج الخليفة شريف ليعسكر بجيشه خارج مدينة أم درمان ليتحرك منها إلى الشمال لتأمين الحدود مع مصر، وليمهد لغزو مصر المرتقب. وبدأ الخليفة شريف يميل إلى استعراض قواته، الشئ الذي ظنه الخليفة عبد الله محاولة لإرهابه، فثارت مخاوفه ولكنه غض الطرف وظل يداري الخليفة شريف إلى أن هيأ الظروف المناسبة لإعلان تجريد الخليفتين من جيشيهما ورايتيهما، بحجة أنه ما دام الدين واحد فلا معنى لأن تتعدد الرايات، وذلك تحت شعار (الدين واحد والجيش واحد). كان ذلك في مارس عام 1886م، أي قبل أن ينقضي نصف العام على وفاة الإمام المهدي. وبعد ذلك كرت المسبحة وبانتظام على أمراء الأشراف، فعزل الأمير أحمد ود سليمان أمين بيت المال من إمارته لأن معلومات الأمير يعقوب كانت تشير إلى أنه يمثل حلقة الوصل بين تنظيمات الأشراف داخل العاصمة وخارجها.
    وأنتهز فرصة هزيمة الأمير محمد أبي اللكيلك أمام القوات البريطانية في موقعة جنس في ديسمبر 1885م، فنزع إمارة دنقلا من خاله الشيخ محمد الخير بحجة أنه كان تحت إمرته المباشرة.
    وأبعد الأمير عبد الرحمن النجومي إلى دنقلا وعين له وكيلا من التعايشة هو الأمير مساعد قيدوم، وكان في الواقع رقيبا على عبد الرحمن النجومي أكثر من وكيلا.
    وأحال الأمير محمد عبد الكريم إلى التقاعد بعد أن أصيب في حصار سنار عام 1885م، وفي نفس العام عزل الأمير محمود عبد القادر من أمارة الأبيض وعين بدلاً عنه الأمير عثمان آدم جانو وهو من أمراء التعايشة ولما يكمل العشرين عاما من عمره بعد، وفي عام 1888م عزل الشيخ محمد الخير من أمارة بربر وأحل محله الأمير يونس الدكيم.
    كان أكثر ما يقلق الخليفة في مسألة الأشراف هو جيش الأمير محمد خالد زقل الذي يعتبر أقوى جيوش الأشراف عامة، ويبدو أن الأشراف كانوا يعولون عليه كثيرا. والأمير محمد خالد زقل تولى إمارة دار فور بعد استسلام سلاطين باشا عام 1884م، وظل أميرا عليها حتى قرر الخليفة عبد الله عزله مثل سائر الأمراء الأشراف، فاستدعاه إلى أم درمان لتجديد البيعة، فتباطأ في الحضور، وتوالت مخاطبات الخليفة، وتكررت إعتذارات الأمير، وفجأة كتب الأمير للخليفة بأنه في طريقه إلى أم درمان لتجديد البيعة، ولكن مخابرات الأمير يعقوب أكدت للخليفة أن الأمير زقل جاء زاحفا إلى أم درمان عن طريق بارا في عشرين ألف جندي، فكتب إلى الأمير حمدان أبي عنجة ليعترض طريقه ويجرده من جيشه، فنفذ الأمير حمدان قرار الخليفة وقبض على محمد خالد زقل.
    هذه الهجمات من جانب الخليفة على معاقل الأشراف، وردود أفعال الأشراف، كانت تضعف من الثقة بين الجانبين، وأدرك الخليفة بأن أبناء البحر قد صاروا حزبا منظما، وأصبح من المتعذر عليه وضع الثقة في أي واحد منهم، ولذلك التفت إلى أهله أبناء الغرب وجعل منهم حزبا مواليا يصارع به الأشراف. وشهدت الأعوام من 1886م إلى 1888م هجرات جماعية من مناطق التعايشة والرزيقات والهبانية والحمر وغيرهم إلى عاصمة المهدية.
    ولكن الأشراف لم يقبلوا أن يظلوا مستضعفين مستسلمين لهجمات الخليفة عبد الله وحزبه عليهم، فكانوا، كلما اشتدت قبضة الخليفة كلما ازدادوا تماسكا، وأدى هذا التماسك لتكوين ما يشبه الجمعية السرية هدفها البعيد قلب نظام حكم الخليفة، واتصلوا بالأشراف في أنحاء السودان، إلا أن سر هذا التحرك أنكشف بواسطة استخبارات الأمير يعقوب، فقرروا تقديم ساعة التنفيذ، فتجمعوا في ليلة الاثنين 23 نوفمبر عام 1891م حول قبة الإمام المهدي والمنازل المجاورة، حتى نساء الإمام المهدي خرجن يحملن السلاح الناري.
    وأستعد الخليفة في المقابل ووزع السلاح على ملازميه والتعايشة والجهادية، ولكنه لم يكن راغبا في الصدام خوفا مما قد يعقبه من فوضى، لذلك قرر أن يحصر المعركة بقدر الامكان، وألا يتخطى حالة الدفاع، وأن يتنازل ما أمكن حتى يصل إلى صلح معقول مع مناوئيه.
    وبعد مناوشات قصيرة قدم الأشراف شروطهم، وسعى الخليفة علي ود حلو لتسهيل المفاوضات، فتم الصلح على خمس بنود :
    * أن يعفو الخليفة عبد الله عفوا تاما عن المشتركين في الحركة من الأشراف.
    * أن يكون للخليفة محمد شريف مقاما يليق به في مجلس الخليفة.
    * أن ترد له راياته ليجمع حولها من يتطوع لذلك.
    * أن يخصص له راتبا شهريا وكذلك لنساء وأبناء الإمام المهدي.
    * أن يسلم الأشراف سلاحهم على أن يلتزموا بالطاعة التامة للخليفة عبد الله.
    * * *
    ما هو موقف الخليفة عبد الله الحقيقي من هذا الاتفاق ؟
    هل كان يقصد به تصفية المشكلة من أساسها حتى يتفرغ لمشاكل الدولة الأخرى .. أم كان يعتبره خطوة أولية يقص بها أجنحة الأشراف تمهيدا للضربة الحاسمة ؟
    وفي المقابل يتردد نفس السؤال عن موقف الأشراف من الاتفاق : هل اعتبروه نهاية حقيقية لمشاكلهم مع الخليفة .. أم أنهم أرادوه هدنة مؤقتة ريثما يلتقطون أنفاسهم قبل أن تبدأ جولة جديدة من الصراع ؟
    نسوق هذه التساؤلات لأن الأزمة بدأت تتحرك مرة أخرى قبل أن يجف مداد الاتفاق، فبعد ثلاثة أسابيع قبض الخليفة عبد الله على جماعة من الأشراف قيل أنهم اشتركوا في الحركة، وحاكمهم وأدانهم ثم أرسلهم إلى الأمير الزاكي عثمان في فشودة فقتلهم.
    ورفض الأشراف هذا الإجراء، واعتبروا أن السلطة لم تحترم تعهداتها ومواثيقها تجاههم، وأنها تبعث الفتنة من جديد، بينما أعتبر الخليفة عبد الله، معتمدا على معلومات استخبارات الأمير يعقوب، أن الأشراف هم الذين لم يحترموا اتفاقهم، إذ لم تتوقف حركتهم وتنظيماتهم، وأعتبر ذلك نقضا للاتفاق.
    وتحرك ..
    وبدأت الدوامة من جديد. أشتكى الخليفة شريف من ظلم الخليفة عبد الله وأمتنع عن حضور الجمعة والجماعة، ورد الخليفة عبد الله بتكوين مجلس من ستة وأربعين من القضاة والأمراء لمحاكمة الخليفة شريف، وحكم المجلس بإدانة الخليفة شريف وسجنه، فسيق مكبلا في الحديد إلى الحبس حيث قضى فيه أربع سنوات (92-1896م)، ولم يغادره إلا عندما بدأت طلائع جيش الجنرال كتشنر تتحرك من مصر لاستعادة السودان.
    وصب الخليفة جام غضبه على الأشراف، ولم ينج من العقاب حتى أبناء الإمام المهدي وزوجاته، فحبس أبناء الإمام المهدي الثلاثة البالغين، الفاضل ومحمد والبشرى، في منزل جدهم لأمهم الشيخ أحمد شرفي، وقبض على نحو ألف من الدناقلة المتهمين بمشايعة الأشراف وسجنهم وصادر أموالهم، وقبض على الأميرين محمد عبد الكريم وعبد القادر ساتي وأرسلهما في الحديد إلى الأمير الزاكي عثمان، أمير فشودة في الجنوب، فقتلهما في أغسطس عام 1892م، وأستدعى الأمير محمد عثمان أبو قرجة، وكان عاملا على كسلا، إلى أم درمان ومن هناك أرسله سجينا إلى جبل الرجاف بالاستوائية، وفي العام التالي وصل الرجاف الأمير محمد خالد زقل.
    تلك كانت خاتمة مأساة الصراع الاقتصادي الاجتماعي الثقافي بين شقي السودان، ذلك الصراع الذي أطل من خلال صفحة السياسة حتى خاله الكثيرون صراعا سياسيا صرفا حول السلطة.
    وكانت مأساة مروعة.
                  

02-04-2004, 12:49 PM

ود شاموق
<aود شاموق
تاريخ التسجيل: 11-17-2002
مجموع المشاركات: 3605

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: تراجيديا الحياة على ضفاف النيل .. أحمد شاموق (Re: ود شاموق)

    المراجــــــــــع
    مراجع باللغة العربية:
    1. ألان مورهيد: النيل الأبيض، الطبعة الأولى القاهرة، 1961م.
    2. ألان مورهيد، النيل الأزرق، الطبعة الأولى، القاهرة، 1961م.
    3. رودلف سلاطين (باشا): السيف والنار في السودان، الطبعة الأولى، القاهرة.
    4. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، الجزء الأول، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1982م.
    5. عبد الرحمن الرافعي: عصر إسماعيل، الجزء الثاني، الطبعة الثالثة، القاهرة، 1982م.
    6. عبد الرحمن الرافعي: مصر والسودان في أوائل عهد الإحتلال (تاريخ مصر القومي من سنة 1882م إلى سنة 1892م)، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1983م.
    7. محمد فؤاد شكري: دكتور، مصر والسودان تاريخ وحدة وادي النيل السياسية في القرن التاسع عشر (20-1899م)، القاهرة.
    8. مكي شبيكة، بروفسير: السودان عبر القرون، بيروت.
    9. مكي شبيكة، بروفسير: تاريخ المهدية، بيروت.
    10. نعوم شقير: جغرافية وتاريخ السودان، الطبعة الأولى، بيروت، 1903م.
    مراجع باللغة الإنجليزية:
    1. Theobold, A.B., THE Mahdiya: A History Of Anglo-Egyptian Sudan (1881-1899), 5 th. Imp., London, 1958.
    2. French, Lieut. Colonel Gerald, D.S.O.: Gordon Basha Of The Sudan, 1st. ed., London, 1958.
    3. GORDON, H.W,: Events in the Life of Charles George Gordon, 1 st. ed., 1886.
    4. A Biography of the Anglo-Egyptian Sudan from the earliest times to 1937, 2 nd. Ed., 1963.
    5. McMichael, Sir Harold: THE Anglo-Egyptian Sudan, London, 1934.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de