في هذا اليوم (25 مايو) الذي عليه قترة التاريخ نعود إلى حديث انقلاب 1969 والشيوعيين. فوجدت بين سفاسف الثورة المضادة القائمة، بتركيزها المعروف على الحزب الشيوعي، اتهام الحزب بتدبير انقلاب 25 مايو 1969. وأنقل أدناه من مقال لي عنوانه "ويولد الانقلاب من الثورة" (على النت وهو فصل في كتابي القادم "مصادر العنف في الثقافة السودانية" (المصورات) لإلقاء ضوء أفضل على ملابسات الانقلاب ودور الشيوعيين فيه. كان الحزب الشيوعي، الذي ابتلاه الله بثورة مضادة بعد ثورة أكتوبر 1964 قضت بحله، قد انتهى إلى أن العمل الثوري الجماهيري لا الانقلاب هو مربط الفرس في استعادة موقعه في قيادة الثورة الوطنية الديمقراطية. وكانت خطة الانقلاب دائرة على ألسن من نسميهم البرجوازية الصغيرة في الحزب والمجتمع. بل وأضطر أستاذنا عبد الخالق محجوب للرد على هذه الدعوة للانقلاب في الصحف حين دعا لها علناً زميله في لجنة الحزب المركزية أحمد سليمان. وخلص الحزب في موقفه في شجب الانقلاب إلى عبارة سميتها تلمودية (مع الأسف للاضطرار) في إصابة الغرض هي: التكتيك الانقلابي، بديلاً عن العمل الجماهيري، تكتيك يمثل في نهاية الأمر، وسط قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية، مصالح طبقة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة.
وهكذا لقي الحزب الشيوعي انقلاب 25 مايو وهو حزبان في واحد. حزب بروليتاري على رأسه أستاذنا عبد الخالق يدعو لنهج العمل الجماهيري والصبر عليه لتصفية آثار الثورة المضادة. ومن الجهة الأخرى كان حزب معاوية إبراهيم وأحمد سليمان البرجوازي الصغير يدعو للانقلاب. ولما خرج رفاقهم من صغار البرجوازيين في المجتمع والجيش بالانقلاب سُر خاطرهم ولبوا نداء الانقلاب حتى خرجوا على الحزب (أو أخرجهم حزبنا) في أغسطس 1970. لمعرفة أفضل بذلك الصراع بين التكتيكين، الثوري والانقلابي، في عقر دار الحزب سأحكي هنا عن ملابسة موحية. فبذرة من بذور خطة انقلاب 25 مايو مما خرج بها مولانا بابكر عوض الله من هيئة رتبها أستاذنا عبد الخالق بالتحديد لتثبيت القلوب على نهج العمل الجماهيري. فروى لي الصحافي المخضرم محجوب محمد صالح عن تخلق انقلاب 25 مايو في اجتماعات لمناهضين وطنيين ويساريين وقوميين لدستور إسلامي معروض أمام الجمعية التأسيسية في 1968. وكانت الفكرة مما ناقشه محجوب مع عبد الخالق محجوب. وتنادت الجماعة وفيها بابكر عوض الله رئيس القضاء الذي كان استقال لتوه دفاعاً عن استقلال القضاء ونائب رئيس مجلس الثورة لانقلاب 1969 ورئيس وزرائه. وما التقت الجماعة حتى اقترح عليها بابكر ضمن آخرين القيام بانقلاب لتحقيق مشروعها. فوقفت الهيئة ضد الاقتراح بشدة. وواصلت الجماعة كتابة بيانهم البرنامجي لعمل جماهيري لوقف تدهور الوضع السياسي. ولاحظ محجوب تغيب بابكر عن اجتماعات لجنة البيان ومسودته بطرفه. وأطلع محجوب صديقه عبد الخالق بغيبة بابكر فقال له: "بابكر لقى درباً غادي". ولما وقع الانقلاب كان بيانه الأول هو مسودة بيان الجماعة البرنامجي ذاتها غير أنه حذف منه وجوب تكوين جبهة ديمقراطية عريضة، وحرية التنظيم للنقابات والمنظمات الثورية. وحذف كل ما جاء فيه عن مشكلة جنوب السودان في حين ركز على الثورة العربية على فلسطين دون غيرها. وروى الواقعة محمد أحمد محجوب بتفصيل عن عضو بلجنة الحزب الشيوعي المركزية لم يفصح عنه وربما كان الدكتور عز الدين على عامر في كتابه "الديمقراطية في الميزان". وظن عابدين إسماعيل، نقيب المحامين وعضو الجماعة، برفاقه الظنون حين سمع بيانهم بحذافيره تقريباً يلعلع به الانقلابيون بينما كان يرافع في قضية بجنوب السودان. فاقتحم المكتب على محجوب بعد عودته غاضباً: "دا شنو البتعملو فيهو دا؟" فرد محجوب بأن المجيب ليس بأفضل من السائل، وأن بابكر "عملها" من وراء ظهر الجماعة.
لو في زعم الثورة المضادة بذرة حق فهي أن قسماً من حزبنا لم يدبر لانقلاب بل رنا له كمخرج من هجمة الثورة المضادة. ولم يجد شوقهم للانقلاب ودعوتهم له صدى في الحزب الذي التزم بتكتيكه الثابت وهو الهمة الثورية الجماهيرية التي لم يتأخر عن وصفها دائماً ب"العمل الدؤوب الصبور" حتى صارت اكلشيه. ولما خرج قطاع من قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية في الجيش بالانقلاب سره وأتبعوه. ومن أطرف ما قيل عن تكتيك الانقلاب سريع المفعول وتكتيك العمل الصبور طويل النفس ما روي عن النميري ورفيقنا الشفيع أحمد الشيح الزعيم الشيوعي والعمالي الشهيد. فعرض نميري فكرة الانقلاب على الشفيع، عضو المكتب السياسي لحزبنا، فرده قائلاً: "نحن سنصل إلى الثورة الوطنية الديمقراطية طوبة طوبة". فكان رد النميري: "طيب لو في زول جابلكم لوري طوب".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة