عندما تقول إن فلاناً زعم كذا وكذا، فأنت تكذّب فلاناً ذلك، وترى، في ظنك، أن ما قاله ليس صحيحاً. ولهذا عندما قال جرير يهجو الفرزدق: زعم الفرزدق أنْ سيقتل مربعاً /// ابشر بطول سلامةٍ يا مربعُ كان كأنه قال: كذب الفرزدق حين قال إنه سيقتل مربعاً. فالزعم كلام يراه الآخر كذباً بالضرورة، ولهذا ورد الزعم في القرآن نحو خمس عشرة مرة وهو لا يعني، في كل مرة، إلا القول الكاذب: قال تعالى: "زَعَمَ الذين كفروا أَن لن يُبْعَثُوا..."، "فقالوا هذا لله بِزَعْمِهِمْ..." وجاء في لسان العرب: "الزَّعْمُ الكذب ؛ (....) وقال شريح: زَعَمُوا كُنْيَةُ الكَذِب (...) وقال شمر: الزَّعْمُ والتزاعُمُ أَكثر ما يقال في ما يُشك فيه ولا يُحَقَّقُ". وكما نجد كثيراً في لغة العرب من الشيء وضده، هناك من يقول إن الزعم قد يكون صادقاً أو كاذباً. ولكن الاتساق الذي نجده في الاستخدام القرآني لا يدع مجالا للشك: لم يرد الزعم في القرآن، في خمسة عشر مثالاً، إلا معناه القول الكاذب. وعلى ضوء هذا التعريف، حين نقرأ في قناة الجزيرة، صباح اليوم، عن: "تحقيق أممي بشأن مزاعم عن شحنات أسلحة إماراتية لحفتر" يكون من حقنا، لغوياً، أن نفهم مباشرة أن تلك الشحنات ما هي إلا أخبار كاذب في نظر قناة الجزيرة. ولكن ليس هذا، كما تعلمون، ما تقصده القناة، فهي، كالعادة، تكون شبه متأكدة من صدق الأخبار التي تدين "غرماءها". وبالتالي تكون الجزيرة، بسبب جهلها اللغوي، نشرت الخبر بصيغةٍ كان الأولى أن تنشره بها غريمتها قناة العربية. وكلتا القناتين – وغيرهما - في الجهل اللغوي – وغيره - شرقُ.
ونعلم جميعاً أن الادعاء، بعكس الزعم، يمكن أن يكون صحيحاً إن توفرت له البينة، وإلا فسيكون كاذبا. ودليلنا على ذلك: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر". وبالتالي فإن الصحيح أن تستخدم القناة مصطلح ادعاءات وليس مزاعم، فتقول: "تحقيق أممي في ادعاءات بشأن شحنات أسلحة إماراتية لحفتر"
خلاصة القول أن مثالب قناة الجزيرة لا تقتصر على "الانتقائية الإعلامية"، التي تجعلها تتجاهل، في ما تتجاهل، الحراك السوداني الذي أفضى - بفضل الله - إلى اجتثاث أسوء نظام حكم في تاريخ السودان الحديث، بل تشمل تلك المثالب جهلا لغويا وإصراراً عليه. فالقناة، ذات الإمكانات الكبيرة، تضن على نفسها وعلى متابعيها بتوظيف مراجعين ومدققين لغويين يحافظون على سلامة اللغة وذائقة القراء والمستمعين. إن من سوء حظ اللغة العربية، ومن سوء حظنا، أن القنوات الفضائية والمواقع السايبرية التابعة لا تمثل، فحسب، أكبر مصانع لإنتاج المصطلحات والتعابير المستجدة، بل تمثل أيضاً، للأسف، معجنة كبيرة للخلط اللغوي. وكان الأولى بهذه القنوات، ليس فقط أن تحشد اللغويين والمختصين في شتى علوم اللغة، بل أن تنشيء مجامع لغوية خاصة بها للسهر على سلامة ما تنتجه لغوياً وأسلوبياً؛ لكن من سوء حظ اللغة العربية، ومن سوء حظنا، أن القنوات الفضائية والمواقع السايبرية التابعة، لا تدرك هويتها وحقيقتها: كونها مصانع للغة، بل تحسب نفسها مخالب في أيدي الساسة، وواجهات عرض. هذا غيض من فيض وسنواصل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة