بسم الله الرحمن الرحيم (هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ، وَالْمَلآئِكَةُ، وَقُضِيَ الأَمْرُ، وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمور) الإنسان بين الإسلام والحضارة الغربية الإنسان في الإسلام
الباب الرابع الحياة الفصل الثاني الوحدة بعد الانقسام
في مرحلة البشرية الحالية، الإنسان منقسم.. هو منقسم بين النفس ورغائبها من جانب، والعقل الذي يعمل وفق قانون الحلال والحرام من الجانب الآخر.. ولذلك هنالك صراع في البنية البشرية، بين كابت ومكبوت.. ولذلك سميت هذه المرحلة، من مراحل تطور البشرية، بمرحلة العقل والجسد المتنازعين.. والعمل بمنهاج الدين، الغرض منه تجاوز مرحلة الانقسام، وتجاوز الصراع، وصولاً إلى مرحلة العقل والجسد المتسقين.. وهذه هي مرحلة الإنسانية.. ولا يتم الوصول إليها إلا بعد التوحد بعد الانقسام.. وهذا هو معنى التوحيد في الإسلام.. التوحيد هو صفة الموحِّد (بكسر الحاء)، وليس صفة الموحَّد (بفتح الحاء).. فالله تعالى، أساساً واحد، ولا يحتاج أن نوحده نحن، وإنما نحتاج نحن أن نوحد ذواتنا، تخلقاً بأخلاقه تعالى، حتى ندرك واحديته.. وتوحيد ذواتنا يتم عبر مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الكبت الإرادي.. والمرحلة الثانية هي مرحلة فض الكبت، المرحلة الأولى وسيلة، والمرحلة الثانية غاية.. وكذلك توحيد ذواتنا، يتم على مستويين: المستوى الأول هو "وحدة الفكر والقول والعمل"، وهذه تسمى "وحدة ثالوث الفكر".. وهي الوسيلة الواسلة "الوحيدة" للوحدة الكبرى، وهي "وحدة ثالوث الحياة" وثالوث الحياة هو: "العقل، القلب، الجسد"، وهذه نهاية المطاف، وليس للمطاف نهاية.. هنالك الكثير جداً الذي ينبغي أن يقال في هذا المجال، ولكنه ليس موضوعنا في هذا الكتاب. وهناك وجه آخر، لنفس القضية، إلا أننا لا نملك إلا أن نشير إليه هنا مجرد إشارة.. هذا الوجه هو: هذه الحياة الكاملة _حياة الإنسان_ التي نتحدث عنها هنا، إنما تتحقق عن طريق الذكر، الذي هو وظيفة القرآن "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ".. فما الذي نتذكره عن طريق العمل بالقرآن، والتحلي بأخلاقه!؟ نتذكر طبيعتنا الأصلية، بأننا عبيد الله، فنلتزم قيم هذه العبودية!! لماذا استُخدِمَت كلمة (تذكر) بالذات!؟ لأننا شهدنا، فعلاً، لله بالربوبية، ولأنفسنا بالعبودية لله، لكننا نسينا هذه الشهادة.. وقد سبقت إلى ذلك الإشارة.. كان ذلك في الملكوت، في عالم الأرواح، وقد نسينا هذه الشهادة في عالم الأجساد.. وجاء الدين، وجاء القرآن ليذكرنا بها ويردنا إليها، وهذا هو غرض "لا إله إلا الله" التي وُظِفَ القرآن لتحقيقها.. فإذا تمت لنا هذه الشهادة، فتذكرناها حق التذكر، نرد موارد الحياة الكاملة، إذ نتحقق بقوله تعالى: "ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ".. واللين هنا يعني اللطافة، بعد الكثافة.. وبه لا يصبح فينا شيء ميتاً _كثيفاً.. فبذلك تتسع عندنا حياة الفكر، وحياة الشعور.. وهذه هي حياة الإنسان _الحياة الكاملة.. فلين القلوب والجلود يعني إنتشار وظيفة "الإحساس" في الجسم كله، بدل تمركزه في مواضع بأعينها من الجسم، هي الحواس الخمس المعروفة. الغرض مما تقدم، هو مجرد إعطاء تصور عام لحياة الإنسان، في إطار التعريف بالإنسان وطبيعته.. ومن أراد المزيد من التفاصيل، والوقوف على المنهج العلمي والعملي، الذي به تتحقق هذه الحياة، لابد له من الرجوع لكتب الأستاذ محمود، وبصورة خاصة، كتابي "طريق محمد" صلى الله عليه وسلم، وكتاب "تعلموا كيف تصلون"، فهما يتوفران على تقديم المنهج، الذي به تتحقق هذه الحياة الكاملة. الخلود: بقى أن نشير إلى موضوع الخلود، فهو من المواضيع التي تشغل الناس بشدة _ وقد سبق أن أشرنا إلى أننا سنعود إليه عندما نتحدث عن الحياة.. وأعتقد أنه مما تقدم أصبح الموضوع واضحاً جداً.. فطالما أن الحياة في الوجود، هي حياة واحدة، هي حياة الله تعالى في ذاته، تصبح الحياة خالدة بالضرورة.. ولكن ماذا يعني الخلود بالنسبة للأحياء من المخلوقين!؟ ماذا يعني بالنسبة للإنسان بالذات!؟ وكيف يستقيم الخلود مع الموت الذي تحدثنا عنه كثيراً!؟ أولاً، الموت الحسي يتعلق بهذه الدورة من دورات الحياة فقط.. الحياة الدنيا.. أما الآخرة، فلا موت فيها.. بل الذي يموت هو الموت نفسه، وهذا معروف.. الموت الحسي مرحلي، وله نهاية، وهذا وجه أساسي من أوجه الخلود.. فأصحاب النار في النار لا يموتون، وبالطبع أصحاب الجنة في الجنة لا يموتون.. ولكن ماذا عن القاعدة التوحيدية الواردة في قوله تعالى: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ".. وقوله تعالى: "كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ".. القاعدة التوحيدية التي تقوم عليها هذه الآيات هي نفسها دليل الخلود!! ولقد سبق أن ذكرنا أن كلمة "وجه" تعني في المعنى البعيد وجه الله، وفي المعنى القريب، الوجه الذي يلي الله من خلقه.. فوجه الله تعالى هو الباقي سرمداً، والوجه الذي يلي الله من خلقه هو باقٍ سرمداً، ولكن في صيرورة، فيها يلطف كل حين، طالباً بقاء وجه الله المطلق، وهو طلب لا نهاية له، لأن المطلق لا يمكن إدراكه، وإلا أصبح محدوداً، فإن الوجه الذي يلي الله من الأشياء، باقٍ سرمداً، في صيرورة، فيها يكون دائماً في تنقل مما هو لطيف إلى ما هو ألطف.. وهذا هو خلوده.. فالذي يخلد هو الذات، وليس الصورة.. وخلوده يعني تقلبه في الصور، من كمال، إلى كمال أكمل، وهذا سير لا نهاية له. في الواقع صورة الإنسان الحالية، هي الصورة النهائية، ولن يطرأ عليها تغيير من حيث الهيئة، ومع ذلك هي لا تبقى على صورةٍ واحدة، بمعنى أنها دائماً تتحول من كثافة إلى لطافة، ومن نقص في الحياة، إلى كمال.. ومن بعد من الله، إلى قرب.. والبعد موت، والقرب حياة.. فالخلود بالنسبة للإنسان هو تطور دائم في مراقي الحياة. وكل هذا السير في المراقي منهجه الفكر والذكر.. فالناس سائرون إلى الله تعالى في الحياة الدنيا بمنهج "لا إله إلا الله محمد رسول الله".. أما السير في البرزخ وما بعده في النار وفي الجنة فهو بـ "لا إله إلا الله".. والنار مستويات، والجنة مستويات.. وأعلى مستويات الجنة "عند مليك مقتدر".. ولأن السير كله بـ "لا إله إلا الله"، فإن قمتها عند الله، وقاعدتها تنزلت للناس في الأرض، يقول تعالى: "شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ".. فالإنسان بعد أن طُرد من جنة المعاني، في أحسن تقويم، ورد إلى أسفل سافلين، طلب إليه العودة إلى مقامه في أحسن تقويم، بوسيلة العقل _الفكر_، فأصبح العقل هو الرابط بين أحسن تقويم، وأسفل سافلين.. وقد تكفل الله تعالى بإبراز العقل، في مراحل.. وعندما برز العقل المكلف.. العقل الذي يسيطر على الشهوة عند الخليفة الأول، في الأرض _آدم أبي البشر_ كانت تلك البداية الحقيقية لمسيرة الإنسان، نحو تحقيق إنسانيته.. وهي بداية ستتوج بظهور الإنسان الذي تكتمل به شروط الخلافة.. وبذلك يكتمل وعد الله تعالى، الذي جاء في قوله "إني جاعل في الأرض خليفة".. وبذلك تبدأ دورة جديدة من دورات تطور الإنسان في الأرض، في مرحلة الإنسانية _مرحلة العقل والجسد المتسقين_، وهذا ما يبشر به الأستاذ محمود ويؤكد بأن الأرض قد استعدت له بالحاجة إليه، والطاقة به، فهو لابد كائن، قريباً، إن شاء الله.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة