يصادف يوم العشرين من فبراير 2019 الذكرى الثالثة والستين لانتفاضة المزارعين بمشروع جودة الزراعي على الضفة الشرقية من النيل الأبيض جنوب مدينة كوستي. ففي العشرين من فبراير1956 نهض مزارعو المشروع مطالبين بحقهم في تنظيم أنفسهم في اتحاد ومحتجين على شراكة ظالمة جمعتهم مع أصحاب المشروع. ولكن موقف المزارعين لم يرق لأول حكومة وطنية حيث قمعتهم بالسلاح الناري وحبست من لم يصرعه الرصاص في عنبر صغير تابع لحامية الجيش في كوستي ما أدى إلى موت المئات منهم نتيجة الاختناق.
إن محاربة السلطة في السودان للحركة النقابية للعمال والمزارعين ظلت قطعية منذ كانت في البدء ممانعة صريحة في عهد الاحتلال البريطاني إلى ان صارت معاداة اتخذت أشكالاً عدة في فترات الحكومات الوطنية المختلفة. وبلغت هذه المعاداة ذروتها في العهدين العسكريين لمايو والإسلاميين تباعاً. فالعهدان سلكا أسلوب تفتيت الحركة النقابية وشلها تماما؛ فمثلا في حقبة حكم 25 مايو سارت الحكومة على خطى الحكم العسكري الأول (عبود) والغت قانون العمل النقابي ل 1948 تعديل 1956 بغرض إحداث الشرخ في الحركة النقابية؛ والمفارقة أن قانون 1948 وضعته سلطة الاحتلال البريطاني وان العمال استجاروا به في 1964 ورأوا فيه عدلا أكثر من قوانين الحكم الوطني وذلك عندما أدى تحركهم لتفعيله عقب انتفاضة أكتوبر التي أطاحت بالحكم العسكري قبل أن يعود الحكم العسكري الثاني، مايو، ويلغيه مرة أخرى في 1971....
وفى عهد الإنقاذ البغيض وعلى هدى سياسة التمكين تمكنت الحركة الإسلامية من تقييد الحركة النقابية واحتواءها من خلال نقابة المنشأة. إن نقابة المنشأة وضعت فئات مختلفة مصالحها في نقابة واحدة الأمر الذي أعاق عملها في متابعة قضاياها ومطالبها المتمايزة بصوره فعالة أمرأ مستحيلا. والحديث عن أن نقابة المنشأ أضرت بالحركة النقابية العمالية حديث متحفظ، فنقابة المنشأة قضت على حركة العمال المطلبية تماما....
وهكذا، فإن سياسات الحكم الوطني عبر العقود الستة الماضية سلبت الحركة النقابية من الاستقلالية التي تمكنها من النضال لحل المشاكل والمظالم الكبيرة التي تواجه العمال، فيما يتعلق بالحقوق والأجور، وخاصة في القطاع الخاص.
إن القمع الدموي لمزارعي مشروع جودة ولم يكن قد مضى على استقلال البلاد سوى بضعة أسابيع أبان أن جوهر الدولة لم يتغير بعد ذهاب الاستعمار الذي ترك وراءه كيانا طبقيا من ملاك الأراضي البرجوازية الكمبرادورية يرعى مصالحه بعد أن هيأه ومكنه سياسيا للقيام بهذا الدور. وظلت دينامية الاستقلال السياسي تميل كلياً إلى السير على طريق الاقتصاد الرأسمالي التابع للدول الكبرى؛ وهو الطريق المتسم أساسا بالاعتماد الكامل على التمويل الخارجي لتلبية احتياجات الاقتصاد القومي وهي الوسيلة التي تتبعها الدول الرأسمالية الكبرى لتصدير فوائض رؤوس أموالها وجنى فوائد القروض. وهذا ما يجعل التبعية الاقتصادية مسألة موضوعية، وهي السبب الذي ظل يمنع البلاد من الانعتاق من اسار الفقر والتخلف عموما (عدم التكافؤ في المستويات المعيشة والتطور الصناعي بين الدول المتقدمة والسودان)؛ ولتكريس هذا الوضع الاقتصادي المزرى ظلت الحكومات المتعاقبة تعمل على حرمان الشعب من الحرية السياسية وتجريد فئاته من العمال والمزارعين من حق التنظيم النقابي.
من نافلة القول إن الحرية السياسية وحق التنظيم النقابي في البلاد لا يكون تحقيقهما أمراً يسيرا بدون تحرير الدولة من قبضة العصابات المستبدة الفاقدة للإرادة التي تحقق السيادة الوطنية الكاملة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة