عند إكتشاف الحكومات الأوروبية الاستعمارية حجم اللُقى والموجود من الأثريات الكوشية في وادي النيل ، أُصيب مسؤليها بالذهول والحيرة ، تلك التماثيل والجداريات الصخرية المنحوتة ودقة صناعتها ، تقف جميعها في اشكالٍ محدودة .. بما يعني لديها فلسفة ومضمون ، سمع الجميع عن تلك الحضارة .. لكن لم يخطر ببال أحدهم هذا الكم والمخزون الطيفي الجميل واللامتناهي ، وهذه المصوغات الذهبية وأصالة معادنها وأحجارها .. إنها من الذهب الخالص والمطعم بالأحجار الكريمة.. كم كانوا أثرياء ..!! ، البرديات المنتشرة في المدارس المعابد .. انهم كانوا اصحاب علوم ومعارف..!! ، الجثث المحنطة ومحفوظة كحالها كما لو كانت حية وهي المدفونة لعمر يزيد عن ميلاد المسيح بآلاف السنين ، لقد عرفوا الكيمياء وعلوم الطب.
هذه الأهرام العالية.. والدقيقة في هندسة مبانيها ،والمنتشرة علي طول الوادي من الجيزة في مصر شمالاً وحتي هرم النوير الطيني في جنوب السودان ماهي .. وما معناها .. ولماذا تتجه الي السماء ..؟ وما الداعي للشكل الهرمي في مبانيها .؟ توجد دقة وانتظام لا تحده حدود ولا يمكن ان يستوعب عقل في ان تكون كل هذه الأشياء فد حدثت في القرون الأولي .. اننا نتحدث عن الأقدمين .. وقديم الغرب كان متخلفاً .
اننا نحن الآن أمام انسان صاحب حضارة قديمة ، إننا أمام أرض لها تاريخ مجيد ، حضارة ثابتة وراسخة في إنسانها ، مبانيها تحكي أصالتها وعراقتها لتمتد بجذورها لتاريخ ما قبل التاريخ . : ولعمري فإن هذا هو ما أدخل الكساد الموضوعي علي حضارة يونانية وفلسفة إغريقية كان الغرب يعتز بها ويفاخر .. ليجد نفسه في حين برهة أنه مازال في العتبة الاولي من سلم الرُقي والتحضر.
ومن خلال التعبير الذي أوردته مريم ريفولت في ثنايا مقالها حول السلطة ، نستطيع فهم الدافع الفلسفي في داخل المخيلة الجمعية الأوروبية والذي قاد للهيمنة التي قادتها جيوشها للسيطرة علي مقدرات الشعوب وثرواتها (ليس أقل تعبيراً من التناقض بين القدرة علي التكرار وبين القدرة علي الانتشار ، والذي في أصله هو فكرة "الاستعمار" وتكمن في كون التجربة اليونانية والإضافة الرومانية هي مبدأ غير قابل للتكرار لكنه يبقي متاحا له الإنتشار ، فالمدينة التي أسسها الإغريق ليست واحدة فهي قابلة للمضاعفة ودالة علي الجمع وهي تُقال بصيغة الجمع : المدينة اليونانية / Urbs .. روما / Rome هي مدينة واحدة وفريدة وصدورها يعني القوة الخالدة والمؤثرة عبر التتابع الزماني والمكاني ، وقوة سلطتها تظل علي إرتباطها الحميم بقلق الديمومة هذه من خلال المؤسسة). [مريم ريفولت - سلطان البدايات - ص70].
ومن خلال ذلك الدافع المنشئي للشخصية الأوربية فإن القوى الكولونيالية وبُعيد مشاهداتها للجبل المبارك "البركل" الذي يحوي أكثر من 18 معبدا فوق سفحه ، والوادي المقدس في "العوتيب" والنقعة والمصورات ، وتلك الوقائع التاريخية المنحوتة في الحجر المصقول ، والتي تنسف جميع المبادئ ، حينها فقط أدرك ان أولويات العمل يجب أن تتغير .. يجب أن نبدأ ب"الانسان".. نعم العمل هنا لابد من ان يبدأ بوريث تلك الاثريات وحفيدها ، من نحتل الآن هو المعني الاول بالعمل والجهد ، وبالتالي فقد بات من المُهم جداً التأسيس لقيام اجيال جديدة مُبرمجة ومُتعالية علي أصولها..
كان هذا الشغل الرئيس الذي خطط له علماء الإنثربولوجي وقامت بتنفيذه القوة الكولونيالية ، كانت الفكرة الذكية منهم تقوم في مقامها الأول علي بناء جدار أسمنتي عاليٍ وصعب التسلق ، يفصل الأحفاد الورثة عن الأسلاف المؤسسين ، ويجب علي ذلك البناء ان يُعتم الرؤية فلا يسمح بمرور الضوء والإشعاع الفيضي من النهر الجاري ، بحيث تحدث اللاعلائقية التي تفصم ذلك الساكن من الهرم الكائن بجواره ، وبالتالي تهتز فيه أول ما تهتز دلالات العراقة والأصالة وصِلتة بالارض والتراب ودماء السابقين .
هذا مشرع وجب إيلاجه وتجليسه في العقول الراقية منهم "وضعياً" وقسرا من خلال الخطي العلمية ، المشروع يهدف الي بناء "العقول" .. وذلك من خلال تحطيم التراث ، عقل خالي من القديم ، عقل تقدمي ، العقول التي تم بناءها تطرح وجهة النظر تلك من خلال المفاهيم المعنية والخاصة بعمليات التحضر والتقدم .. هذا عمل كبير ، إلتزم الجميع علي تنفيذه بمعدل عالي من الحرفية المهنية والدقة التام .
ولذلك ابتدأ العمل باكراً في تغيير المشهد المنظور ، فإبتدر التنفيذ بتحويل وترحيل الآثار الموجودة والبائنة منها سريعاً ، ففي التركية الأوروبية تمت اول واكبر السرقات وأعمال النقل ، ثم تبعها بعد ذلك العمل الكبير في الاحتلال البريطاني بربط البلاد بخطوط السكك الحديدية الواصلة الي البواخر الأوربية والأمريكية في موانئ الاسكندرية ، كان الجميع حريصاً علي ذلك العمل حتي لا تبقي تلك المشاهد طويلاً في ذاكرة الشعوب ، وستنساها سريعاً ، ولن يشاهدها الأبناء والصغار منهم ، ستكون فقط عبارة عن قصة يحكيها الآباء لهم قبل النوم ، خرافة ونوعاً من الخيال الفكري اللازم لحبة درامية لن تُصدق ، ومن ثم فقد إبتدأ فعلاً تغيير التاريخ..
يقول "سيشرون" : ( ما من مجال تفوق فيه الإنسان بإمتيازٍ أقرب لسلوك الآلهة "Nomen" من تأسيس جماعات جديدة ، ومن الحفاظ علي الجماعات التي تأسست) فإذا كان الماضي يُكرّْس بالتقليد ، وقيمة الحاضر تكتسب أهميتها من الماضي ، كان لابد من قطع الماضي حتي لايبقى حاضراً ذَا قيمة..!!
وهذا ما تم بالفعل .. تم قتل التاريخ القديم الذي مثل (الماضي) من خلال قتل الإنسان القديم (إنسان الحاضر هو إمتداد للماضي) ، واللاقيمه له تكمُن في عدم تجذره وثباته ، والتأسيس السلطوي لنيل "المشروعية" لعملية السرقة الآثارية تلك كان حاضراً ، فقد تم تصغير الأفعال العشائرية ومحاربة الممارسات الشعبية والإبداعية ، يقول تيت ليف Teat Leev : (عندما أروي في كتاباتي الأحداث القديمة ، لاأدري من خلال أي رابط تصبح روحي قديمة ، أظن ثمة ديانة تُمسك بها) وهذا التوصيف الخرافي لحقيقة فعل الماضيوالذاكرة الحضارية هو ما سعي الجميع لحذفه من الأذهان.
إن التراجيديا التي قادها المتعلمون منا لوقف إستمرار النقل الشفاهي للثقافة القديمة ، هو انعكاس يحكي عن الاستخفاف الذي مارسه المستعمر وقام بغرزه في المُخيلة الفكريّة .. ففي الحين الذي بات من الجلي والواضح اهتمام جميع الحكومات في التركية والبريطانية بعمليات الاكتشافات الجديدة والنقل الحي للآثار ، إعتبرت حكوماتنا ومثقفونا تناول هذا الموضوع بالنقد أو مجرد الاهتمام به وحصر المسروقات والمنقولات التي نُهبت من ارضنا وتُعرِّض في متاحف تلك الدول الغربية ، نوعا من الترف الفكري وعدم الشغلة وفراغ الموضوع..!!
انها لدي مسؤلينا وكتابنا وعلمائنا ومثقفونا وأُدبائنا لم تكن سوى خرافات وأساطيل قد حمانا الله منها ، فهي رجعية وتخلف ونوعا من عبادة الأصنام التي حاربها الاسلام لا داعي لها ، وعين إن وجدت فهي توقف تقدمنا - إن كنّا متقدمين - وتزحف بنا الي ملل وأقوم كافرين..!! ، هذا ما تبناه المثقفون منا ، تلك النرجسية المـُتعالية والفارغة بكل بساطة قد وصمت التراث والاهتمام به "الرجعية" بعينها وسبباً يؤشر للتخلف واللحاق بركاب الامم .. تم إهمال الطب البلدي وكلام الحبوبات والشعر الشعبي النم والدوبيت ، وغير ذلك من ما سوف نمر عليه تباعا وسوف نبين مع السطور كيف تم ذلك بالعمل المنظم الذي أوصل البلاد الي ما وصلت اليه الآن. ________________________ نواصل،،،
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة