في احدى العيادات جلست في انتظار دوري... كان هناك حوالي ثلاثة عشر مريضا في الانتظار ..هناك سيدة عجوزة عرفت بعدها ان عمرها تسعين عاما.... المهم هذه المرأة تحاول ان تنام متكئة على يدها... عجوز ولكن عظمها قوي جدا... ذكية وواعية.... معها امرأتان مرافقتان ..احداهما تجلس بعيدا والثانية تجلس قربها ويبدو انها ابنتها او حفيدتها غالبا لأنها ثلاثينية.... كانت كلما حاولت العجوز تعديل جلستها انتفضت الثلاثينية وقالت بصوت مزعج اقرب الى البكاء : - مالك يا أمي؟... تستمر في سؤال الأم وكأن امها تحتضر وتودع الحياة ... صوتها كبوق نفير الحرب ... ذلك الذي يخرج كالشيطان من الظلام ... معلنا فناء البشرية.... صوت يتوسط الجهر والصراخ... ذلك الذي يخرج من اعماق الرئتين. تكرر ذلك في كل حركة من حركات العجوز ... التي بدت لي انها معتادة على اسلوب حفيدتها هذا... تصرخ الفتاة بجزع : - مالك يا أمي..؟ فنلتفت جميعنا نحو العجوز لأننا نظن أن المرأة قد لفظت انفاسها بسبب صوت الثلاثينية الهلوع. لكننا نجد العجوز تتلفت يمينا ويسارا بشكل طبيعي جدا. -مالك يا أمي؟ عندما تكرر هذا الصوت البومي الكئيب قررت انتظار دوري في الخارج.... حقيقة النساء في القرى لديهن هذه الثقافة .. ثقافة الجزع وتوقع الموت بشكل مستمر....ونواح القرويات يختلف تماما عن نواح الحضريات....النواح في الثقافة السودانية سبب لي ازمات نفسية شديدة في الصغر ؛ خاصة عندما كان ينطلق عند موت احدهم عند اقتراب الفجر، فالنساء يصرخن نائحات كالشياطين ويتحول الليل الى جاثوم مخيف وكأننا في يوم الحشر. لم اتخلص من قلق نواح النساء الا قريبا جدا ... النواح الكئيب ثقافة سودانية أصيلة بل وكل ما كان نواحا كئيبا عبر عن قيمة الميت حتى ولو كذبا.... هناك عائلة وحيدة التقيتها لم يكن فيها اي نواح بل ولا حتى اي تعبير عن وجود ميت في عزائها... حقيقة لم يتبق لهم في ايام العزاء عندهم سوى ان يشغلوا دي جي باغنية (كيكي دو يو لف مي)...النساء يجلسن صامتات يتلقين العزاء بصمت...ليس ذلك من باب التدين ولكن من باب التحضر....واعتقد ان اغلبهم ملحدين وملحدات... اذا دخلت الى صالون العزاء فستتلفت يمينا ويسارا لتتأكد انك لم تخطئ المكان.... على اية حال فمسألة النواح هذه ايضا لم تعد كما كانت في السابق ، فالنواح الآن لم يعد يأخذ ذلك الوقت الذي كان يأخذه قبل سنوات... في السابق كان النواح يستمر لأسبوع او اكثر ، الآن اصبح يستمر لساعات ، وبعدها ينقلب مكان العزاء الى هرج ومرج.. اما في الايام التالية يتحول العزاء الى مكان لتجمع الأحباب والاصدقاء لتمضية وقت سعيد ، بعض القبائل الافريقية تلبس جثة ميتها كامل هندامه وتأخذ في الغناء والرقص ليشعر الميت بالسعادة ويتخلص من كآبة الموت... نحن نتجه الى ذلك.... وربما يوما ما سنتجه لحرق الموتى..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة