قبل نحو عام كنت أزور قاهرة المعز.. انتهت الإجراءات بسلاسة.. حين وصلت مرحلة تحميل حقائبي في عربة الأجرة انتبهت إلى أن جهاز الحاسوب الصغير ليس ضمن المتاع.. بدأت كل الهواجس حاضرة.. حينما عرض سائق العربة مساعدتي ظننت أن الفاصل الثاني في مسرحية النصب سيكتمل.. بمعنى سأفقد ما تبقى من ممتلكات.. لكن أخيراً توكلت على الله حينما رأيت حماس صاحب التاكسي.. وجدت هاتفي في الحفظ والصون.. موظف الجوازات أشار إلى إحدى عاملات النظافة مؤكداً أنها صاحبة الفضل.. حاولت أن أخفز العاملة البسيطة ولكنها رفضت.. قالت بحزم "ممنوع يا باشا".
أمس عقدت هيئة قيادة شرطة ولاية الخرطوم اجتماعاً دورياً.. الهيئة اطمأنت على سائر أحوال الخرطوم.. في بند أشياء أخرى أوصت بتحفيز أحد الجنود وترقيته إلى الرتبة الأعلى.. ماذا فعل الجندي المحظوظ..؟ وجد مبلغاً من المال أمام بنك النيل.. الشرطي الأمين سلم المبلغ لمدير البنك على حسب الخبر المنشور.
قبل أيام ورد خبر يحمل ذات الدلالات والايحاءات.. حيث وجهت رئاسة الجمهورية بتحفيز أي قوات شرطية تضبط سلعاً مهربة خارج حدود الوطن.. الحافز يمثل نسبة معلومة ومحددة سلفاً من السلع المضبوطة.. بالطبع بذات المنطق من حق القوات العسكرية الأخرى أن تطالب بحقها من الغنائم في يوم الحصاد.. على ذات النسق يطالب أعضاء الهيئة القضائية أو المراجع العام بذات المعاملة التفضيلية.
منذ مدة بدأت أشعر أن رد الأمانة على كافة المستويات بات عملاً استثنائياً يستحق الاحتفاء والإشادة.. مثلاً قبل سنوات كدنا أن ننصب تمثالاً لراعٍ سوداني رفض أن يبيع إحدى أغنام كفيله وهو على الهواء مباشرة.. بمعنى رفض العرض تحت ضوء كاميرات التصوير.. بلغ الاحتفاء بالرجل الحد الذي كاد أن يدفعه للترشح لانتخابات رئاسة الجمهورية كما فعلت المذيعة لوشي المبارك.
في تقديري أن ارتفاع حواجب الدهشة مع كل فعل يتعلق بالأمانة يجب أن يولد أسئلة.. الطبيعي في معظم الأحوال أن يتعامل الناس وفق منظومة الأخلاق وموجهات الأديان.. لكن هنالك تغيير كبير حتى في أعراف المجتمع.. باتت السرقة نوع من الفهلوة.. التعامل مع اللصوص لا يحتاج إلى تقية.. من هنا علينا أن نقرع أجراس الخطر.. بات رد مبلغ من المال يقابله من الاحتفاء أن يصبح واحداً من هموم البلد في اجتماع جنرالات الشرطة.
بصراحة.. من المهم جداً أن نمارس قدراً من جلد الذات.. نحن وصلنا الدرك الأسفل.. فقدنا بفعل فاعل أساس البنية التحتية التي تحافظ على تقاليدنا المجتمعية.. في السابق يكفي أن تقول أنت سوداني فتفتح لك الأبواب في الخليج العربي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة