لا نستطيع أن نقول إن الضمير الأمريكي يمكن أن يكون متواطئا أو متغاضيا عن جريمة مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي التي مثلت زلزالا هزّ الضمير العالمي كله، لكن الذي يمكن قوله بدون تردد إن الإدارة الأمريكية التي يمثلها الرئيس دونالد ترامب وفريقه متورطة حتى أخمص قدميها في محاولات إبعاد الأنظار عن الجاني الحقيقي والرئيسي. وبيان النيابة العامة السعودية الأخير الذي طالب بإعدام أشخاص بعينهم باعتبارهم المتورطين الوحيدين في الجريمة دون غيرهم، يمكن تفهم الأسباب والدوافع التي حددت متهمين بعينهم دون غيرهم، فالنيابة العامة كجهاز حكومي سعودي ليس أمامه إلا سبيل واحد وهو التدليس والتغبيش. وأوضح البيان أن دعوى جزاءية أقيمت بحق المتهمين مع المطالبة بإعدام من أمر وشارك في تنفيذ الجريمة منهم وعددهم 5 أشخاص و»تطبيق العقوبات الشرعية» على البقية. وتماهياً مع الرغبة الرسمية السعودية، اعتبرت وزارة الخارجية الأمريكية أن بيان النيابة العامة السعودية «خطوة أولى جيدة» في «الطريق الصحيح»، ودعت واشنطن السلطات السعودية إلى المضي قدماً في تحقيقاتها، ومن جهة أخرى وفي محاولة لطمأنة الضمير الأمريكي، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرض عقوبات على 17 سعودياً لدورهم في الجريمة. لكن إدارة ترامب لن تستطيع الإجابة عن كثير من الأسئلة والاستفسارات من البيان السعودي الذي أظهر بشكل سافر مدى الارتباك الذي يعتري الحكومة السعودية، لم يسم البيان الأشخاص المتهمين مع أنه يفترض فيه أنه بيان قانوني صادر عن الجهة المعنية بالادعاء العام في الدولة. وفي عدم التسمية فرصة لتحديد الأسماء لاحقاً وفقا للظروف ومسارات الأزمة انتظاراً لمخرج تصنعه التقاطعات الدولية ورغبة الإدارة الأمريكية الحالية على وجه الخصوص. ولم يرد البيان السعودي أن يسمي الأشياء بأسمائها؛ فلم يقل إنها جريمة شنيعة، كما عمد إلى إيجاد الأعذار والتبريرات للجناة، مما يشير إلى أن المحاكمات المعلنة تسير في مسار التمييع والالتفاف على الحقيقة. ولعل تركيا مطالبة أكثر من أي وقت مضى بكشف الأدلة التي بحوزتها للمجتمع الدولي، خاصة بعد أن قال وزير خارجيتها تعليقا على بيان النيابة العامة السعودية «لا أجد بعض هذه التصريحات مُرضيا، يقولون إن هذا الشخص قد قتل لأنه قاوم، بينما الجريمة كان مخططا لها مسبقا». وأضاف الوزير التركي: «مرة أخرى، يقولون إنه قد قطعت أوصاله. ولكن ذلك ليس عملا تلقائيا. فالأشخاص والمعدات الضرورية كانت جُلبت مسبقا لقتله وتقطيعه لاحقاً». ويقول الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو في طريق العودة من زيارة إلى فرنسا، إنه ناقش مقتل خاشقجي مع زعماء الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا على العشاء في باريس. بيد أن هذه الحكومات لا يرجى منها تحركاً جدياً إلا من خلال الضغط الإعلامي. وعليه فإن تركيا ليس أمامها إلا أن تسرب هذه الأدلة للإعلام العالمي الذي يمثل الضمير العالمي الحي. فلا يكفي أن تعطي أنقرة التسجيلات الخاصة بعملية القتل إلى الحكومات، وقد أكدت أنه استمع إليها جميع من أرادها، بما في ذلك السعودية والولايات المتحدة وفرنسا وكندا وألمانيا وبريطانيا، وها هي إدارة ترامب تركت الأدلة التركية التي قدمت لها وطفقت تروج للبيان السعودي وتجمّل وجهه. وكان اتهام أردوغان واضحا بأن عملية القتل كانت متعمدة ومخططاً لها، وأن الأمر بها جاء من المستويات العليا في السلطات السعودية، مستثنيا الملك سلمان بن عبد العزيز، يعظم من مسؤولية تركيا تجاه هذه القضية الإنسانية ذات البعد الدولي. ولا يبدو أن لدى الحكومة السعودية ما تقوله بعد هذا البيان الذي مثل أقصى ما يمكن أن تدلي به الرياض في هذه القضية.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
د. ياسر محجوب الحسين
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست