ربما لا يكشف عن ميل ادمغتنا الى الانتظام سوى الموسيقى.. فالموسيقى ليست سوى نقاط صوتية هي لوحدها لا معنى لها بل قد تكون مزعجة ..ولكنها حين تنتظم يتقبلها العقل ويمنحها بعدا استطيقيا ميتافيزيقيا ما وشعورا داخليا لا يمكن فهمه ولا استيعاب سبب انبثاقه عن قطعة موسيقية معينة .. مالذي يجعل ادمغتنا تستوعب ان قطعة موسيقية ما هي حزينة ام سعيدة ام راقصة ولماذا غالبية البشر يمكن ان يتفقوا على هذا الوصف ؟؟؟ لماذا يميل الدماغ الى افراز هرمونات السعادة والحزن بحسب طبيعة ما تنقله الأذن من موجات صوتية يتم ترجمتها دماغيا بشكل عجيب ومدهش الى مفاهيم وجودية عميقة ؟؟؟ هل القضية في الموسيقى إذا أم في الدماغ... هل يمكن ان يعمل دماغنا على عكس ترجمته فيجعل ما هو حزين سعيدا او العكس؟ هل ستعتبر الاغلبية ذلك نشوزا واختلالا عند الفرد...اي تعطيه قيمة الصحة والخطأ... إن ادمغتنا تميل الى الانتظام ... تميل الى منظومة يمكن ترجمتها وفهمها ولا تميل الى الفوضى والعشوائية؟؟ فحتى الروك اندرول رغم صخبه لابد ان يتمتع ولو بقليل من الانتظام لنعطيه مسمى يميز انتظامه عن باقي انتظامات الانواع الأخرى من الغناء. مع ذلك دعنا نتساءل عن حالات اا يبدو فيها الانتظام الصوتي واضحا ، كزقزقة العصافير مثلا!!! رغم انها تبدو عشوائية ، وغير منتظمة إلا أن دماغنا يترجمها الى شعور سعيد ودافئ ومريح... فلماذا؟ اعتقد انه في هذه الحالة لا يكتفي الدماغ باستقبال الصوت وانما ايضا باستقبال صور محيطة بالصوت صور مرئية وخبرات بشرية تجاه مصدر الصوت (انطباعات)... لاحظ مثلا شقشقة العصافير ، فالعصافير ليست وحدها التي تشقشق ، فالضب أو الوزغ ايضا يشقشق او يصدر صوتا شبيها بشقشقة العصافير ، مع ذلك فلم يقل أحد بجمال صوت الضب كما يقال عن صوت العصافير ، وذلك ليس لأن صوت الضب قبيح ولكن لأن الضب نفسه قبيح ، فصوته لا ينتقل الى الدماغ وحده بل ينتقل مع صورته ، فيمتزجان وهكذا ينفر الدماغ من ترجمته ترجمة جمالية كما يفعل للعصافير الجميلة ، ففي حالة العصافير لا ينتقل الصوت فقط الى الدماغ بل الصوت والصورة ، انطباعنا العام عن رقة وجمال العصافير ، في مقابل قبح الضب ، كانت لدى مروحة سقف مزعجة جدا ، كانت تستقسق وتجأش ، وكان ذلك يمنعني من النوم ، في النهاية وعندما عدمت الحيلة قررت ان اعتبرها عصافير جميلة تسقسق ، او شلال مياه يصب الماء بخريره الجميل ، لم يتغير الصوت ولكن تغيرت الصورة الانطباعية وبالفعل صرت انام على اصوات العصافير وشلالات المياه بكل اطمئنان وعمق... ادمغتنا تبحث عن الانتظام لفهم الجمال وتنفر من العشوائية ، تنفر من الفوضى ، وعندما يضطرب هذا النمط من التفاعل العقلي نعتبره اختلالا فنحن نقوم بعملية استنباطية دائمة ننتقل بحكمنا وتقييمنا فيها من العام الى الخاص... اما من نعتبره مجنونا فهو يفعل العكس (استقراء) فهو ينتقل من الخاص اي من ذاته الى العام ، ويرانا جميعنا مجانين... ولذلك فدائما يردد:(أنا مش مجنوووون ...انتو اللي مجانين)..
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة