|
جراب الرأي - صالح فرح ...
|
جراب الرأي
كم من مرة ردد صديقي قوله التبريري: إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. لا أزعم أنني أدري مصدر المقولة وظروف قولها، ولكني أعلم عن مقولة أخرى. فلقد حكوا أن الناس في غرب السودان اعتادت أن تسمي بـ" الخبير" من إذا جئته في أي شأن وجدت عنده رأيا تفيد منه، فهو في حالات المرض طبيب وفي الزراعة زارع وعند بذل النصيحة ناصح ـ وهلم جرا. كان واحدا من هـؤلاء النفر حول أحد سلاطين الفور. في مجلس سمر ضمه مع السلطان سأله الـسلطان (أو لعله استدرجه): الخبير، من تقول أغنى رجل في سلطنتي؟ فطلب الخبير أمان السلطان قبل أن يجيب، فأمنه السلطان. فشرع الخبير يعدد أمواله من الإبل والضأن والبقر وأن يوما واحدا لن يكفي لسقيها من آبار حددها عرفت بأنها غنـية بالماء، وانتهى إلى تقرير أنه أغنى رجل في سلطنة السلطان.
ثم تولى السلطان الدور لنفسه، فقال للخبير: في تعداد مالي أنا، قل ـ الخبير وماله، ولم يترك الخبير السلطان ليتم تعديد ماله، وإنما جثا عند قدمه يقبلها طالبا عفوه لأنه اجترأ فادعى ما ليس له. فعفا السلطان وأردف: يا الخبير في علمك ده كلو ما عرفت سلطان للعرقوب ولا مال للرقبة! تلك مقولة ربما ناسبت مفهوم السلطة في زمن غابر وما عادت تصلح لزمننا الحاضر.
ومهمـا يكن، ترى أي الرأيين قد وعى الإخوان! هم في ما قالـوا قد جاءوا بهدي القول الأول ليزعوا بالسلطان ما لا يزع الله بالقرآن ـ أي حيث لا تعمل الهداية كما فهمها الدين لا بد من قهر السلطان، فمثلا حين لا يجدي منع السرقة وحده لا بد أن تقطع يد السارق، وحين يوصي الله بأداء الأمانات لأهلها لا يسطا على المال العام، وحين تستوجب الرشوة لعنة طرفيها تصبح مباشرتها في دائرة الحرام فيقتضي العقاب. ومع ذلك لم تقطع يد سارق أو يقف الاعتداء على المال العام أو يستنكف الناس عن قبض الرشوة لأنها ـ في المفهوم الجديد للأخلاق ـ حافز. وهم لم يكتفوا من الهدي الثاني بحد السلطان إلى العرقوب وإنما أرادوه سلطانا للركبة وربما ارتقوا بحده ليصل الرقبة حتى يتناسب مقدار السلطة مع مقدار المال. ولا يهم إن كانت هذه الممارسة للسلطة تعارض مفهوم العصر للسلطة، فنحن نعيش في عصر خارج تأريخ هذا العصر.
ومهما يكن، فإنه مع زحف الاختصاص في كل جانب من جوانب الحياة رأى أهلنا في الغرب ألا يكون "الشـور" من اختصاص الخبير فوجد في مجتمعهم من عرف بـ"جراب الرأي". والجراب مستودع (شنطة) تتخذ من جلد الذبيحة بعد معالجته. وجراب الرأي هو المستشار في لغة اليوم. عندهم سمعنا كلمة جراب ولم نسمع أو نعرف لها جمعا.
لرئيس الجمهورية في السودان 19 جراباً كما أفادنا محاور في قناة الجزيرة الفضائية. ترى، ما هو المخزون من الرأي في كل تلك الجربان؟ وكيف الاهتداء إلى أن كل واحد منهم في حق نفسه جراب؟ وكيف يتم التعيين؟ بالنطق السامي أم بفرمان؟ وكيف تتم الاستشارة؟ في ونسة أم بوثيقة مكتوبة حتى تكون شاهدا للتاريخ؟ وهل يستشارون في جمع أم فرادى؟ أم أن وظيفة مستشار هي في الواقع تأمين للجانب، أو سبيل إلى التكسب من المال العام، أو الاسترضاء، أو الإدخال في "فضل" السلطة!
صالح فرح السوداني - 2007-07-28
|
|
|
|
|
|