|
رجل من أشجع الرجال
|
آل عمر الإمام.. أسرة عاصمية عريقة.. وإن كانت جذورها ترجع إلى نهر النيل في قرى الضفة الغربية ما بين الكمير وسقادي. كان الشيخ عمر، ووالده الامام قبله، من أئمة الخرطوم المعروفين. ونشأ الاستاذ المجاهد يس عمر الامام في أسرة من العلماء الكبار. فقد كان إخوته من أشهر علماء السودان المجاهدين، قضاة وأئمة ومعلمين ودعاة. فمن منا لا يذكر الشيخ الحافظ عوض عمر الامام.. إمام وخطيب مسجد أم درمان الكبير في خسمينيات وستينيات القرن الماضي. ومن منا في أنحاء السودان لا يذكر تلاوته المميزة التي كانت إذاعة (هنا أم درمان) تفتتح بها برامجها كل صباح لقد كان مع الشيخ محمد بابكر ـ رحمهما الله ـ من أجمل القراء صوتاً وأعذبهم تلاوة لآي الذكر الحكيم . وكان الشيخ عوض عمر أول من إنتسب لجماع الاخوان المسلمين في السودان. وقد سجن القاضي الشيخ التاج عمر والشيخ المجاهد حامد عمر ـ أمد الله في أيامه ـ مع بقية إخوتهم في المظاهرة الشهيرة التي قادها الشيخ محمد محمد صادق الكاروري رئيس إتحاد طلبة المعهد العلمي وسُجن بسببها عدد من شباب الإخوان المسلمين في المعهد العلمي. وهي نفس المظاهرة التي شارك فيها الزعيم إسماعيل الأزهري وقد خرجت ضد الانجليز وقيام الجمعية التشريعية. هذه لمحة عابرة عن الاسرة التي نشأ فيها الاستاذ المجاهد يس عمر الامام. إلا أن الاستاذ يس ورغم ما أحاط به من بيئة إسلامية غالبة نحا منحى فكرياً مختلفاً.. فقد نشأ في أسرة تنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا فجذبته الأفكار الاشتراكية. ودفع به العداء للإستعمار أن يختار الموقع الآخر في الصراع العالمي الذي كان يدور بين المعسكر الشيوعي والمعسكر الرأسمالي الغربي. وهكذا انضم للحزب الشيوعي الوليد وأصبح الأستاذ يس من جيل المؤسسين فيه. مع مرور الايام وإزدياد معرفته بالحركة الشيوعية ونضج تكوينه الفكري تخلى عن الحزب الشيوعي.. ومر بفترة من التأمل والعصف الذهني قادته إلى الالتزام الكامل بالإسلام . ومن ثم إنخرط في حركة الاخوان المسلمين. وساعده إتصاله بإخوته الكبار الشيخ عوض عمر والشيخ حامد عمر وهم من المؤسسين في الحركة أن يلعب دوراً رئيساً في بناء قواعد الحركة في وقت مبكر.. وشارك الاستاذ في توحيد حركة التحرير الاسلامي التي كان يقودها المرحوم بابكر كرار ومحمد يوسف محمد وميرغني النصري في جامعة الخرطوم مع حركة الاخوان المسلمين الناشئة والتي كان قوامها الطلبة العائدين من مصر في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات. وكان من أبرز المشاركين في مؤتمر بيت المال عام 1954م الذي أعلن عن توحيد ا لحركتين تحت إسم الاخوان المسلمين. درس الاستاذ في الكلية القبطية بالخرطوم.. وكان المرحوم الاستاذ احمد عبد الحليم وهو اليساري السابق الذي إنتهى به الأمر إسلامياً وإنقاذياً كان حينما ينظر إليه يس متهكماً من هذا التحول يمازح يس قائلاً : أنا أعرفك يا يس منذ أن كنت شيوعياً وطالباً في الكلية القبطية!!). بعد الكلية القبطية عمل الاستاذ يس معلماً في مدارس وزارة المعارف السودانية. وتقرر إبتعاثه للجامعة الامريكية في بيروت.. وكان هذا هو النظام المعمول به. وقد سبقه إلى بيروت الزعيم اسماعيل الازهري من الجيل السابق، في هذا الاثناء قرر تنظيم الاخوان ان يذهب يس إلى عطبرة ليعمل بالسكك الحديدية عاملاً حتى يساهم في نشر الدعوة بين العمال! تخلى يس عن بعثته في آخر لحظة وأخذ القطار لمدينة عطبرة. ولما سئل كيف لم يسع إلى تغيير هذا القرار غير الموفق؟ كان رده أنه لا يريد أن يضع سابقة بأن أحد الاخوان كلف بعمل فاعتذر أو تردد بسبب شخصي !! لله درك من مناضل! ظل يتعرض لمضايقات البوليس السري فاضطر للعودة الى سلك التدريس . ولم يمض وقت طويل حتى جاءه التكليف بالرحيل الى الشمالية ليقوم بتأسيس خلايا الدعوة في تلك المديرية النائية. فشد الرحال إلى كرمة ليعمل في مدرستها الاهلية ردحاً من الزمان. ثم أناب أحد الاخوة الخريجين في موقعه كناظر للمدرسة ورحل الى كريمة وكان في تلك الاثناء يتجول في المنطقة ويتصل بالمواطنين داعية ومعلماً فتربى على يديه أجيال من الشباب حملوا مشاعل الدعوة ودفعوا بالعمل الاسلامي سراً وعلانية أيام الحكم العسكري في أوائل الستينيات. وأذكر أنني إلتقيت بالمناضل العمالي الاخ السر وراق الذي كان شيوعياً ناشطاً من عمال السكك الحديدية ومن قدامى الشيوعيين.. ثم إنضم الى الاخوان المسلمين. ذكر لي الأخ وراق أنه تأثر كثيراً بشخصية يس عمر الذي إلتقاه في كريمة حينما كان عاملاً في محطتها. (كان يس يمضي يومه معلماً يحظى بإحترام وحب تلاميذه الذين تعلقوا به. وفي العصر تجده في ميادين الرياضة بجسده الفارع ولحيته الكثة يقود فريق كرة السلة! ثم تراه بعدها يؤم الناس في الصلاة وقت المغرب.. وفي المساء تجده في النادي يلعب الكونكان مع رواد النادي. كان محبوباً لدى الجميع.. وكان مزيجاً من الحب والاعجاب والاحترام. فقد كان مثقفاً ومتديناً وشجاعاً مهاباً (وأخو أخوان). رأيت فيه مناضلاً صادقاً يختلف عن الذين عشت معهم في الحزب الشيوعي.. فجادلته في أفكاره وكان ملماً بعلوم الاسلام وبالفكر الماركسي وله تجربته في الحزب). وقد تقلب يس في تجارب العمل العام والحركة السياسية السودانية ولم يبق سجن لم يزره حبيساً وناضل بجهده وعرقه وقلمه ولسانه. لم تفتر له همه ولم تلن له قناة ولم تهزمه نوائب الدهر. فقد إبتلى كثيراً وفقد من الابناء والاحباب وهو في السجن الكثير وأعدم المتمردون إبنه المجاهد أبو دجانة الذي أخذوه أسيراً بعد سقوط ياي الأخير لما عرفوا أنه ابن يس عمر وكان من مجاهدي الدفاع الشعبي. كان رجل المهام الصعبة وكان المصادم الجسور وكان الرجل الطاهر الزاهد النظيف.. لا يحمل من الدنيا إلا هم الدعوة وهموم إخوانه في كل مكان في العالم. لم يكسل يوماً ولم يتوقف ولم ينشق ولم يتطلع لمنصب وكان دائماً مستعداً للتضحية. في الفتنة الاخيرة.. لعب دوراً صادقاً لرأب الصدع وقادة مبادرة مخلصة للتقريب.. ولما أعيته الحيلة قرر أن يعتزل في منزله. قال لي : يا قطبي نحن إلتحقنا بهذه الدعوة ليوصلنا دربها إلى الجنة. ما يجري الان سيأخذنا الى جهنم. أنا لا أريد أن أذهب لجهنم. وكدت أن أنضم إليه في إعتزاله لولا أنني رأيت أن اعتزال الفتنة شيء واعتزال العمل شيء آخر . فقررت أن أذهب إليه وأراجعه في هذا. لكنني سافرت فجأة خارج السودان في رحله عمل وهناك جاءتني الأنباء بحركة ٤ رمضان. ويبدو أن الاستاذ يس لم يرض عن ذلك الاجراء.. فبقى مع الجانب الآخر. لكنني كنت متيقناً دائماً من صدق وإخلاص يس. ومن رأيه الحر وأنه لا يجامل في الحق على تمسكه الشديد بعلائقه القائمة على الأخوة في الله. تحدثنا في عمان في إحدى زياراته الاستشفائية. قال لي إنه في الخارج لا لون حزبي له لذلك في كل لقاءاته يتحدث باسم الجميع ويساند الجميع ويدافع عن السودان دولة وشعباً. تذكرت هذا يوم ان جهر بموقفه من التدخل الاجنبي في دارفور. كانت معاييره الموضوعية فوق الحزبية والذاتية. وكانت المباديء الاصيلة تتجاوز التعصب الحزبي الرخيص الذي جعل بعض القيادات تستجدي التدخل الاجنبي مكايدة للإنقاذ وطمعاً في الكرسي الذي سيخلو لهم بفضل تدخل القوات الإستعمارية . ذلك هو يس عمر الذي إن حمل الوفاء للإحتفاظ بصلاته القديمة ، فإننا نذكر جيداً أنه في مؤتمر العيلفون الشهير كان في الطرف الآخر مع إقتراح الشهيد الزبير. وأنه طلب يومها أن يترشح ضد الدكتور الترابي لمنصب الامين العام لولا أن أصر عليه الناس ليفوز الترابي بالاجماع. لقيته أمس الأول معزياً في حذيفه فوجدته كعادته متماسكاً يحدثك في كل شأن إلا في المصيبة التي نعلم أن قلبه الشجاع يدمي لها سراً، ويمازح كعادته كل من يلقاه. رأيته وقد هدّه المرض . قلبه الكبير الذي حمل همّ الاسلام والمسلمين في كل مكان أنهكته عمليات القلب المفتوح المتوالية. وجسده الواهن الذي صارع كل الأمراض العضال قد ضاق أخيراً بهذه الروح المتوقدة وتلك الهموم الكبار. وإذا كانت النفوس كباراً ❊ تعبت في مرادها الأجسام ولا يزال المجاهد الكبير شامخاً في الميدان لم ينسحب ولم يتوارَ. ولايزال عطاؤه الباذخ سخياً في سبيل الله، خالصاً بلا رياء، لا يرجو إلا ثواباً من الله تعالى. لعله قد آن الأوان أن نقدم للأجيال هذا الغريب الذي يعيش في غير زمانه.. فطوبى للغرباء قضبى المهدى
|
|
|
|
|
|