|
دَارْفُورْ: شَيْلُوكُ يَطلُبُ رَطْلَ اللَّحْمِ يَا أَنْطونْيُو! ... كمال الجزولي
|
ختمنا مقالة الأسبوع الماضى بالتحذير من مغبَّة إكراه حركات دارفور على التوقيع على وثيقة الوسيط الأفريقى التى سكب فيها موقف الحكومة التفاوضى بأكمله ، متنكراً لأهمِّ مطالب الاقليم العادلة ، وعبَّرنا عن خشيتنا من أن ذلك من شأنه أن يبدِّد فرصة (السلام) الحقيقى ، ويهئ لانفجار الأوضاع مجدَّداً ، وبأشرس من ذى قبل.
لم تكن تلك نبوءة ولا حتى تحليلاً فذاً ، بقدر ما كانت قراءة متاحة لكلِّ من ألقى السمع وهو شهيد! فليس مِمَّا يحتاج إلى عبقريَّة ، لو صدقت النوايا ، إدراك العدالة فى المطالبة بوحـدة إلاقليم ، وتعويض الضحايا ، ومنصب نائب لرئيس الجمهوريَّة ، ونسـبة مئويَّة من الثروة القوميَّة ، واحتفاظ الحركات بقواتها خلال فترة انتقاليَّة بضمانات ملائمة ، مقابل حلِّ مليشيا الجنجويد ، وما إلى ذلك. ولا يعقل أن يكون استيفاء مثل هذه المطالب كثيراً على مهر إطفاء حرائقنا الوطنيَّة الهائلة ، لا فى مستوى الاقليم فحسب ، بل وفى مستوى السودان بأسره.
لكن بوادر ما كنا حذرنا منه ، وحذر منه كثيرون غيرنا ، وقعت ، للأسف ، قبل أن يرتد إلينا طرفنا. فما كاد القائد منى أركو مناوى يوقع على (الوثيقة التاريخيَّة) بتاريخ الجمعة 5/5/06 ؛ وما كاد الوفد الحكومى المفاوض يفرغ من تبادل عناق الفرح مع وسطاء أبوجا ، وإصدار بيانات الشكر للرئيس النيجيرى ، والاتحاد الأفريقى ، والشركاء ، والمسهِّلين ، والمراقبين ، ومندوبى الاتحاد الأوربى ، والجامعة العربيَّة ، مناشداً ".. الجميع أن يضعوا (ما مضى) خلف ظهورهم ، وأن يتطلعوا إلى المستقبل بروح التفاؤل .. ويشحذوا الهمم بمساعدة المجتمع الدولى لتنفيذ الاتفاقيَّة على الأرض" (الرأى العام ، 8/5/06) ، كأن شيئاً من هذا مِمَّا يمكن تحقيقه بمحض (المناشـدات) ؛ وما كاد مجلس الوزراء فى الخرطوم يعبِّر ، بتاريخ الأحد 7/5/06 ، عن سروره بتوقيع مناوى ، معتبراً إياه ".. نقطة تحوُّل أساسيَّة فى مأساة أهل دارفور" (المصدر نفسه) ؛ حتى عاد ما كان الوفد الحكومى قد عَدَّه ، قبل قليل ، ضمن (ما مضى) ، كما عَدَّه مجلس الوزراء (نقطة تحوُّل أساسيَّة) ، ليصمَّ الآذان ، فى اليوم التالى مباشـرة ، بدوىُّ مدافعه فى (تلتل) ، قرب (بيضا) بغرب دارفور ، مِمَّا أسفر عن عشرات القتلى والجرحى ، حسب مصدر رسمىٍّ أشار إلى أن المتسبِّب فى الحادث ".. بعض عناصر الحركات المعارضة" ، وإن كان قد عزا الهجوم ، بالأساس ، إلى "قوات تشاديَّة .. بدبابتين ورتل من العربات ذات الدفع الرباعى المحملة بالدوشكات!" (المصدر نفسه).
ثم ما لبثت الاحداث أن تداعت يوم الاثنين 8/5/06 ، فتحت وطأة الاحساس الشديد بخيبة الأمل تجاه (الاتفاق) أطبق آلاف النازحين الغاضبين فى مخيم (كلما) بجنوب دارفور على وفد إيان إيجلاند ، مساعد الأمين العام للأمم المتحدة للشئون الانسانيَّة ، فقتلوا مترجمه بالفئوس والحجارة ، وكادوا يفتكون به هو نفسه لولا أن غادر على عجل ، وأحرقوا خيمة قوات الاتحاد الأفريقى ، كما أصابوا خمسة من أفراد الشرطة بجراح ، وأعلنوا أنهم لن يغادروا المخيم ".. حتى يأتى إلينا عبد الواحد بنفسه .. ليقول لنا إن هناك سلاماً" (السودانى ، 9/5/06). ولكن عبد الواحد ما زال متمترساً عند موقفه المعلن: "لم ولن نوقع على الوثيقة إلا بعد تعديلها وإدخال مطالبنا فيها" (الرأى العام ، 8/5/06).
وفى الخرطوم سيَّر طلاب دارفور بالجامعات ، فى نفس يوم الاثنين 8/5/06 ، موكباً إلى مقرِّ السـفارة الامريكيَّة ، ومكتب البعثة الدائمة للأمم المتحدة ، ومكاتب ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ، حيث سلم مندوبوهم مذكرة أعلنوا فيها رفضهم (لاتفاق أبوجا) ، كونه ، كما قالوا ، لا يعبر عن تطلعاتهم ، مطالبين بالحكم الذاتى الاقليمى لدارفور ، والتعويضات الفرديَّة والجماعيَّة ، والتمثيل فى مؤسَّسة الرئاسة بمنصب نائب لرئيس الجمهوريَّة ، وضبط القوات الحكومية خلال الفترة الانتقاليَّة ، والمشاركة فى السلطة والثروة على أساس حجم السكان ، وإرسال قوات حفظ سلام للاقليم بأسرع ما يمكن ، وتقديم كلِّ الذين ارتكبوا جرائم حرب فى الاقليم للمحاكمة (السودانى ، 9/5/06).
وبداهة ، فإن على الاتحاد الافريقى ، ومن يقف خلفه من القوى الدوليَّة ، أن يحاولوا (اكتشاف) شئ ما فى تلقائيَّة التزامن هذه بين نفس المطالب ترتفع فى (شارع الجامعة) بالخرطوم وفى (مخيم كلما) للنازحين بجنوب دارفور ، وفى أوساط الدارفوريين فى شتى مهاجرهم ومغترباتهم! أوَليست هى ذات المطالب العادلة التى طاش الوقار من عقل (الشيخ) أوباسانجو إزاء صلابة (الفتى) عبد الواحد فى الاصرار عليها ، فعمد إلى (طرده) من (قصره) فى أبوجا قبيل توقيع مناوى (الرأى العام ، 6/5/06) ، ثم أليست هى نفسها تلك التى فقد السيد برونك ، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة فى السودان ، أعصابه حيالها ، فتخلى عن كلِّ ما علموه من (كياسة الدبلوماسى) المفترضة ، لينحدر إلى قيعان (البذاءة) و(الصفاقة) ، واصفاً الرافضين للتوقيع تمسكاً بها بأنهم "جبناء .. لا يملكون إرادتهم"؟! (الصحافة ، 9/5/06).
واهمٌ ، بطبيعة الحال ، من يتصوَّر قوى النظام العالمى الجديد وتوابعها الاقليميات بلا مصالح أو أجندات خاصَّة فى مواقفها بإزاء مشكلاتنا الوطنيَّة. وكنا أشرنا فى مبحثنا بعنوان: (وما أدراك ما الآى سى سى) إلى أن مشروعيَّة التدخل الدولى لأجل (الانسانيَّة) ، قد أقرَّها فقه القانون الدولى ، من الناحية التاريخيَّة المعرفيَّة ، مؤخراً جداً. وأشرنا ، فى ذات الوقت ، إلى أن ذلك لا ينبغى أن يفهم كعاصم لهذه المشروعيَّة من سوء الاستخدام لمصلحة الدول الكبرى على حساب الدول الصغرى ، خصوصاً إذا أخذنا جدل السياسة الدوليَّة فى الاعتبار. على أننا استدركنا أيضاً بأن ذلك أمر آخر خاضع لتعديل موازين القوى العالميَّة ، فلا يصحُّ أن يُجابه بإنكار مبدأ (المشروعيَّة) ذاته المحروس الآن بإرادة ملايين الناس فى العالم. ولعلَّ ذلك هو ما يجعل هذا المبدأ يتجلى ، فى اشتغاله العملى ، كظاهرة شديدة التعقيد. ومع ذلك ، فإن السؤال الأكبر الذى ما ينفكُّ يهشُّ ، منذ حين ، بإلحاح هو: كيف يمكن فضُّ طلاسم التناقض البيِّن فى مواقف هذه القوى من قضيَّة دارفور؟! وربما يفضل البعض طرح السؤال بشكل أكثر مباشرة: لماذا تغيَّر موقف هذه القوى من قضيَّة دارفور فى الفترة الأخيرة؟!
د. عبد الوهاب الأفندى يقدِّم ، فى معرض الاجابة ، تفسيراً لا يخلو من وجاهة ، وإن كنا نتحفظ فى الاتفاق معه. فهو يرى أن حركات التمرُّد فى الدول الصغرى محكومة بأن تخدم أكثر من أجندة. حرب الجنوب ، مثلاً ، كانت لها أهداف موضوعيَّة ، ولكن الدول الكبرى استخدمتها أيضاً لتصفية حسابات أخرى مع الانقاذ. وما أن استنفدت تلك الحسابات ، حتى صار لزاماً دفع الطرفين لتوقيع اتفاق سلام. الأمر نفسه حدث الآن فى دارفور ، حيث للأزمة شقان من زاوية مصالح القوى الدوليَّة: التمرُّد نفسه كموضوع اهتمام هامشى محدود ، وردَّة الفعل الحكوميَّة المبالغ فيها كمحور إدانات دوليَّة مكثفة. فتوقيت (تمرد دارفور) أغضب تلك القوى التى (استثمرت) حثيثاً فى (اتفاق نيفاشا). لكن نظرتها للمشكلة سرعان ما تغيَّرت بعد ردَّة فعل الحكومة العنيفة التى استقطبت الاعلام والرأى العام العالميَّين ، بحيث أصبحت دارفور أخطر أزمة إنسانيَّة فى القرن الحادى والعشرين ، مِمَّا ولد ديناميات سياسيَّة فرضت على الحكومات الغربيَّة أن تتحرك لمعالجة الأزمة. وكان لا بُدَّ أن ينعكس ذلك على ميزان القوة فى المنطقة ، حيث ساند المجتمع الدولى المتمردين ، ومارس ضغطاً على الحكومة التى أصبحت معرَّضة لعقوبات دوليَّة ، حتى أجبرها على القبول بدخول قوات أجنبيَّة (قوات الاتحاد الأفريقى). لكن حركات التمرد ، بقلة خبرتها وانشقاقاتها ، تلهت بهذا السند الدولى الذى لم يكن موجهاً لها بقدر ما كان موجهاً ضد خصمها ، ففشلت فى استثمار تلك الفرصة الذهبيَّة لانتزاع التنازلات من الحكومة. وهكذا عادت نفس ديناميات الحراك الدولى لتلعب ضد الحركات ، حين فتر الاهتمام الاعلامى بالقضيَّة بعد أن تحقق استقرار نسـبى خفف الضغط على الحكومات الغربيَّة التى ظلت تفصل ، أصـلاً ، بين الجوانب الانسانيَّة والجوانب السياسيَّة ، فأضحت تطالب بحلٍّ عاجل للأزمة ، مدفوعة بثقل الانفاق على الاغاثة وعلى بعثات الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقى. ثم جاءت تهديدات بن لادن الأخيرة لتجعل من انهاء النزاع أولويَّة لدى الغرب. ولهذا كان لا بُدَّ أن يأتى (سلام أبوجا) باستجابة محدودة لمطالب التمرد ، مع الوعيد لمن لا يمتثل (الصحافة ، 9/5/06).
|
|
|
|
|
|