* ما الذي تخشاه الإنقاذ وأجهزتها من النشر حول جريمة اغتيال الشهيد محمد طه؟ انها تخشى ان نصدع بالحق- بأن جريمة الاغتيال، ومهما كانت أيادي القتلة الملعونين الذين باشروا عملية الذبح، فإنها تتعدى هؤلاء، الى جذور فكرية واجتماعية وسياسية، جذور مهدت وبررت وساعدت على الجريمة، وهي جذور بذرت أغلب بذورها الانقاذ، مما يضعها - جنباً الى جنب القتلة المباشرين - في قفص الاتهام! وهذه خلاصة تود الانقاذ لو تتهرب منها ومن استحقاقاتها، خصوصاً فيما يتعلق بالشهيد محمد طه، ولكن مثل هذا التهرب، خلاف استحالته، فإنه بلا جدوى، ويجردنا جميعاً، من أهم أسلحة مواجهة مثل هذه الجرائم، بما يجعل من جريمة اغتيال الشهيد محمد طه، على بشاعتها، ليست سوى قطرة في هطول قادم يحيل الخرطوم الى بغداد أخرى! * ولجريمة الاغتيال جذورها الفكرية المتصلة بثقافة العنف الأعمى - ثقافة استسهال القتل، بما في ذلك قتل المدنيين العزل والأبرياء، وهي ثقافة تتبناها الجماعات الأصولية وتسميها (جهاداً)، وقد ادخلتها إلى البلاد ولوثت بها الحياة العامة حركة الاخوان المسلمين، ورغم أن بيئة السودان المتسامحة والمستنيرة قد حدت كثيراً من غلواء وشطط الايدلوجية التأسيسية للجماعة، إلا ان صعودها الى السلطة بالعنف، ومن ثم احتفاظها بها بالعنف، اضافة الى تداعيات الحرب الأهلية التي صعدت الى السلطة في سياقها، وما استدعته من تعبئة حربية جهادية، كل ذلك اطلق العنف إلى حدوده القصوى - أي الى حدوده الفاشية. وكما كرة الثلج، فقد بدأت طاحونة الدم صغيرة، ولكنها ظلت وعلى الدوام تتنامى وتستقل بدينامياتها الذاتية لتدور حتى على الأيادي التي أشادتها. في البداية كانت عنفاً ضد (الكفرة)من أبناء القوميات المهمشة في الجنوب وجبال النوبة والانقسنا، وهناك أرسيت آلياتها وتقاليدها في استسهال القتل بلا سقوف قانونية أو أخلاقية، ثم امتدت لاحقاً لتطحن مسلمي دارفور الذين ألحقوا بمنزلة الكفرة، في أسوأ نماذج العنف الهمجي المنفلت، ثم دارت على الاخوة في الشعبي، تماماً كما على الآخرين في أقبية التعذيب، ودارت على الطلاب العزل في الجامعات، وعلى المتظاهرين المدنيين في بورتسودان وأمري والخرطوم! وفي كل دورات طاحونة العنف كانت الايديولوجية المغلقة والوثوقية جاهزة دوماً للتبرير- لتبرير ما لا يمكن تبريره، قتل العزل والأبرياء! بل ولولا القناعة الوثوقية بأنها لله لكانوا أكثر رحمة بخلقه!! ولا أذكر هذه الحقائق، من باب التجريم، ولا من باب القبوع في الماضي، وانما اشفاقاً على المستقبل، ولا مستقبل لاتفاقات السلام ولا للبلاد دون اقتلاع ثقافة العنف وبذر ثقافة السلام في موضعها. والانقاذ الآن في مفترق طريق، إما أن تغير أنموذجها في الحكم، وبالتالي تعيد بناء ايدلوجيتها وممارستها السياسية على أساس ثقافة السلام، أو تواصل نهجها المعتاد، وعليها اذن ان تيقن بأن العنف لعبة صفرية، ومهما كانت قوة قبضتها الأمنية، فإنها ستثير بأفعالها ردود فعل مساوية لها ومضادة في الاتجاه، وتماماً كما رشحت بانقلابها العسكري البندقية كآلية للوصول إلى القصر الجمهوري فذهب العديدون على سنتها، فإنها كذلك ستجعل من استسهال القتل نمطاً للعيش في البلاد! وهي نتيجة، عاجلاً أو آجلاً، سيخسر منها الجميع، كما تؤكد وقائع الحياة البغدادية اليومية! * وكذلك لجريمة الاغتيال جذورها الفكرية الفقهية، في فكر وفقه الجماعات التكفيرية والظلامية، وهي جماعات ترى الكفر مبيحاً في ذاته للدم، وهذا غلو، ما في ذلك شك، لأن المبيح للدم القتال وليس الكفر في حد ذاته، ولكن الاخطر انها ترى في كل خلاف - صغر أم كبر - سواء في ظنيات السياسة أو أولويات الدعوة أو أقضية الفقه - تراها كلها كخلافات في العقيدة، وبالتالي فإن خلافاً حول نواقض الوضوء- دع عنك الاختلافات في حقوق النساء- مما يوجب عندها الاخراج عن الملة وبالتالي سفك الدم وجز الرؤوس! وقد سبق ووضعت هذه الجماعات فقهها البائس موضع التنفيذ، حين فتح الخليفي النار على النساء والاطفال في مسجد الثورة، بل وبرر سفك دماء الأطفال باستشهاده المأفون بأن الكفرة - بحسب زعمه - لن يلدوا إلا فاجراً كفاراً!! وقد ظللنا لسنوات نحذر من مخاطر هذه الجماعات، ولكن ظلت الانقاذ تغض طرفها عنها وتداجيها، بسبب القربى الايدلوجية والسياسية، وبوهمها بإمكان حصر وظيفتها في استهداف خصومها وحدهم، وهذا يعود الى جهل الانقاذ بالتاريخ، بل وبالحكمة الشعبية (البلد المحن لابد يلولي عيالهن)!! وفي قضية الشهيد محمد طه تحديداً، تجلى بؤس وقصر نظر الانقاذ، فقد كانت تستخف بفتاوى تكفير واهدار دم محمد طه، وتتفرج على مئات المتظاهرين يهتفون ملء حناجرهم (الحد الحد للكلب المرتد)! يهتفون وهم يحملون كفناً وعنقريب المقابر! تفرجت عليهم في استخذاء ومزايدة رخيصة، ولم يتبقَ لها سوى توزيع المرطبات عليهم! كانت مظاهرات للتحريض على القتل وعلى الفوضى وعلى أخذ القانون باليد ومع ذلك تعاملت معها أجهزة الانقاذ بأريحية استثنائية! وليتها كانت تفعل هكذا مع كل التظاهرات! قارن بين اريحيتها مع دعاة القتل و بين تفريقها الوحشي لمظاهرة الصحفيين أمام المشرحة يوم اغتيال الشهيد، رغم ان الصحفيين لم يدعوا الى قتل أحد، كانوا يهتفون ضد الارهاب، وضد اللامبالاة، ولم يكونوا يملكون سوى اقلامهم، ومع ذلك، انقضت عليهم الاجهزة بالهراوات والغاز المسيل للدموع! أو قارن أريحية الانقاذ مع الظلاميين ووحشيتها مع متظاهري أمري، أو مظاهرة الاعتراض على زيادات الاسعار!! والامر هنا يتجاوز مجرد الكيل بمكيالين، وهذه من سمات الانقاذ في (تطبيق القانون)، وانما يتعداه الى نهج الانقاذ الثابت في مداجاة الأفاعى، وهو نهج بائس ذلك ان هذه الجماعات، وبحكم تصوراتها الظلامية، بلا قدرة على التمييز، ولذا فحين ينفجر عنفها الأعمى، فإنه لا يفرق بين الاخضر واليابس ولا بين القريب والبعيد! هذا ما تؤكده تجارب التاريخ المختلفة، ولكن ما أكثر العبر وما أقل الاعتبار! وغداً أواصل بإذنه تعالى.
09-25-2006, 01:12 PM
خالد خليل محمد بحر
خالد خليل محمد بحر
تاريخ التسجيل: 07-19-2006
مجموع المشاركات: 4337
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة