|
الدكتور منصور خالد يكتب عن ''الأب الحاني'' والمدينة الدافئة ''امدرمان''
|
الاثنين2 مايو2005 – الراى العام
الدكتور منصور خالد يكتب عن ''الأب الحاني'' والمدينة الدافئة ''امدرمان''
عندما اومأ إلى الأخوان أحمد حسن الجاك وميرغني سليمان خليل أن أشارك في حفل تأبين أمين التوم قلت، هذا هو أدنى الواجبات نحو رجل أسميتُه عِند نعيه: الأب الحاني، والأخ الكريم، والمرشد الذي لا يضل من يقتفى أثرَه. لم يكن من خُطتي يومذاك أن أشارك بشخصي في هذا الحفل، كما لم يكن في وهمي أن يصبح منبرُ الحفل أولَ منبر عام أرتقيه بعد عودتي إلى مدينتي الدافئة، ام درمان. أقول أعود إلى مدينتي، ولا أقول أعود الى الوطن إذ ما فئت أجوب في الوطن أرجاءً لا يذكرها الذاكرون مع فرط تغنيهم بوحدته وسلامة أراضيه. فالوطن يا ويلاه، لا يشمل مواقعَ مُغيبةً عن الخارطة الذهنية عند كثيرين، حتى وإن تضمنتها الخرائط الجغرافية. وعلى كُلٍ، فلحكمة يعلمها الله توافق هذا الحفل مع موعد وصولي للمشاركة في مناسبة تاريخية سيكون لها ما بعدها: افتتاح أعمال المفوضية القومية للدستور، والتي لن نألوا جهداً في أن تكون قومية بكل المعاني.
نعم، عدت إلى المدينة الدافئة بعد عقدين من الزمان لم تغب فيهما عن الخاطرِ المدينةُ وأهلُها من ذوي القربى وذوي الود. ولئن قال قائل ان ''الغربةَ سفر في رحم الأيام العاقر''، نزيد نقول إن كل ما ظل المرء يبذل من جهد خارج وطنه ـ حتى وإن أفلح فيه ـ هو محاولة لتخصيب رحم عاقر. فالرخاء والنماء ورحابة الجناب تبدأ بالوطن. لهذا، فإن تناءت بحساب الجغرافيا المسافات بيني وبين ذوي القربى وذوي الود في هذه المدينة الدافئة، إلا أن المدى كان قريباً بين القلوب. ولا تصدقن الحنين الذي ظلت تفضحه بين الحين والآخر رسائلُ أكتبها للصحاب، أو خواطرُ أسجلها في الكتاب. أم درمان وأهلها كانت تحل معي وترتحل اينما حط بي الرحل، أو خَذَفت بي الرواحل، وانا جَواب أرض. ولعل ذلك الحنين العجائبي الملتاع هو الذي عناه الشاعر
ےومن عجب أني أحن إليهم واسأل عنهم من لقيتُ وهم معي
وتطلُبهم عيني وهم في سوادِها ويشتاقُهم قلبي وهم بين أضلعي
اليوم أعود بمثل البدء، والعود أحمد. ولكني أعود كما يعود البادون في الاعراب الى مضارب الخيام ومناهل الماء والرسوم الدوارس. غاية هَمِ هؤلاء ليست هي الارتواء من المناهل بعد ظماً، بل البحث عن الأهل والصحاب والسلف ذوي الفضل، الأحياء منهم والأموات. فالوطن في نهاية الأمر معارف ومذاهب وتجارب. ولعل مثل هذه المناسبات، مع ما يحيط بها من حزن وأسى، هي مناسبات مُثلى لاستذكار الماضي، إن لم يكن لإعادة إنتاجه. وإن كان في مقدور الإنسان أن يعيد إنتاج كل تجاربه، الصالح والطالح منها، إلا أن الأمر الوحيد الذي لا يسطيعه هو إعادة انتاج العمر بعد انقضائه، فالحياة أمد والموت أبد. هذه هي جدلية الموت والحياة
يُدَفنُ بعضُنا بعضاً ويمشي أواخرُنا على هام الأوالى
لمع ذلك، يظل دوماً للأوالى الراحلين أثر سرمدي باقِ هو ما استنوا من سنن، وشادوا من صروح، وخلفوا من أثر.
اليوم نلتقي لتأبين واحد من أولئك الراحلين، الراحل العظيم أمين التوم. إلا أنني أهتبل الفرصة لاستذكر بين من استذكر حادي أم درمان وشاديها، علي المك. لعلكم تذكرون خريدته النثرية فيها: ''مدينة من تراب''، وتراب ام درمان تبر. وأنا معكم في هذه الدار الشامخة: كلية الأحفاد الجامعية لابد لي من أن استذكر أيضاً الرجل الذي أرسى قواعدها، وشاد بناءَها حتى رَسُخ اصلُها في الأرض، وبَسقَ فرعُها في السماء: العميد يوسف بدري رفيق درب أمين التوم. هما رجلان تَحُسن فيهما المراثى بعد الموت، من بعد أن حَسُنت من قبلُ فيهما المدائح. كان يوسف رجلاً بحجم الدنيا إلا إنه كان من أزهد الناس فيها. لقيته في مناسبة حزينة قبل سنوات من رحيله المفاجئ، جاءني ليعزي في وفاة ام درماني ملأ حياتنا رواءً، هو الخال مصطفى الصاوي. همس يوسف في اذني بعد العزاء قائلاً: ''كلنا لهذا المصير، ولكني أسأل الله ان يبقيني خمس سنوات أخرى''. سألته وأنا مدهوش: ''لماذا خمس سنوات؟'' قال: ''حتى أكمل تأسيس مكتبة الكلية''. عجبي لرجل لا يريد مزاحمة الأحياء في دنياهم إلا ريثما يستفرغ جهده في تحقيق أغلى امانيه. عجبي، لرجل ليس كالناس، فكل الناس ''يأمل مداً في الاجل، والمنايا هي آفات الأمل''
يوسف بدري، بحق، كان الرجل الشمس في ام درمان، بل كان هو الشرق والغرب للشمس. ظل ثابتاً كرضوي حين انخذل كثيرون، او تقاصروا، في معارك التغيير الاجتماعي التي افترعها والده العظيم، وما أنفك ـ حتى قُضى ـ يقتحم أحراش الواقع الاجتماعي، ويتسور في جسارة سدود التزمت المجتمعي. لهذا أحببته وأهديت له شيئاً من أغلى ما أملك: كتابي (النخبة السودانية وإدمان الفشل ج2). قلت في الإهداء: '' إلى الأستاذ العميد، يوسف بدري فرد لا أحد له بين أبناء جيل توارثته الحوادث، وضرسته الأيام، ما تخشع رهبة في أداء رسالتيه اللتين وهب حياته لهما: تعليم الناس وتحرير أم الناس. وفي أخريات أيامه وقف كالسيف وحده حتى لا يسود ''باطلهم'' على ''حقنا''. هذا ما قلته يومذاك، وبلا مراء كان يوسف بدري ناراً نقتبس منها، ونوراً نستضئ به. ولئن باخت نارُه فلم ينطفِ أبداً أوارُه او يخفُتَ ضوءُه. على ذلك تشهد هذه الدار الشامخ.
أما أمين، الأب الحاني والأخ الكريم، فقد كان لي كذلك منذ بداهة عهدي بالحياة العامة بعد التخرج من الجامعة. وكان يميز أميناً حنو غريب، كان كالنسمة العافية، لم يكن عبئاً على من يجالسه، أو كَلاً على من يقاعده، وهذه نعمة كبرى من نعم الله في عالم فيه للثقلاء باع لا يلحق شأوه. أمثال هؤلاء كالعافية للبدن. وعندما دلف أمين الى ميدان السياسة ـ مثله مثل أبناء جيله من الخريجين ـ كان يحدوه ما يحدوهم من شعور وطني جارف لتحقيق الاستقلال، وتمكين أهل السودان من إدارة بلادهم وتصريف شئونها. تلك لسوء الحظ تجربة لم توفق، وإلا لما انتهينا على مدى خمسين عاماً نطارد الأوِز البري ''wild goose chasing''. فرغم كل ما اختزن الوعي الوطني من تجارب سياسية، إلا أن ذلك الوعي لأبناء القرن الذي مضى لم يستوعب الصورة السودانية بكل تجاعيدها الجغرافية، وتضاريسها الإجتماعية.
على أن أميناً ـ على غير الكثيرين من أبناء جيله ـ كان من القلة الناقدة للتجربة، فمذكراته ''ذكريات ومواقف في طريق الحركة الوطنية السودانية، دار جامعة الخرطوم للنشر ''1987 محاولة جريئة لنقد الذات، والاعتراف بالداء هو الخطوة الاولى في علاجه. لم يخلط أمين الواقع بالفانتازيا، ولم يمنعه التزامه الحزبي الصارم من الاعتراف بالدور الرئيس الذي لعبه خصومه السياسيون في تحرير الوطن وبناء دولته، ولم يتردد في الاعتراف بخطل بعض القرارات التي أصدرتها حكومة ينتمي إليها مثل حل الحزب الشيوعي، ولم يتراكض كما فعل آخرون ـ وما زال بعضهم يفعل ـ وراء التبريرات للأخطاء، والمعاذير التبريرية يشوبها دوماً الكذب.
أمين التوم لم يغرق أيضاً في بحر السياسة، ولا يغرق فيه إلا من يخوضه بغير هدى، أو يلجه بحثاً عن مغنم. وفي رباعيات الشاعر صلاح جاهين قال رائعة في هذا
قالوا السياسة مُهلكة بوجه عام وبحورها خشنة مش من ريش نعام غوص فيها تلقى الغرقانين كلهم شايلين غنائم والخفيف اللى عام
لقد جاء أمين إلى الدنيا خفيفاً، وخرج منها خفيفاً، لهذا نظلمه إن قارناه بمن غرق في بحورها وذهبوا ـ كما يقول أهلنا ـ ''جنازة بحر''.
ألم تَر إن السيف يُزرَي بقدره إذا قيل هذا السيفُ أمضى من العصا
لهذا نأى الراحل العظيم في أخريات أيامه بنفسه عما أغرق غيره، استعصم بداره وانهمك يدون مذكراته، ويرعى أبناءه وأحفاده، ويفئ بظله على جيرته الأقربين، واهلنا منهم، وقد عرفوه وفياً في الرفيهة وفي الكريهة. ثم ارتحل ولم يفته من الدنيا ما يحزن عليه، لأنه خلف فيها أثراً محموداً وفروعاً رياحين هم أبناؤه وبناته، والفروع لأصلها كما يقول الفقهاء
|
|
|
|
|
|
|
|
|