|
ثقـافة العنف .. القتـل
|
مشهد طبيعي: فتاةٌ تخرج من بيتها؛ لتزاول عملها كمحاضرة وأمينة مكتبة بجامعة نيالا .. مشهد مؤلم: يدُ غدر تحمل سكيناً وتغرسها في ظهر الفتاة، ثم تخرجها لتغرسها مرة أخرى .. أستشعر الآن آلام هذه الطعنات. مشهد دموي: بقعة من الدم على الأرض .. متعلقات الفتاة (القتيلة) متناثرة حول البقعة .. حذاء بيج غامق .. شنطة يد صغيرة بنفس اللون .. أوراق في (جكت) أحمر أو ربما مذكرات .. قفازان .. وغيرها .. وفي الجانب الأيمن من بقعة الدم أثر حذاء في أكثر من موضع .. هذه هي رؤيتي لمقتل الأستاذة الجامعية (إبتهال عبد الرحيم محمدو)، الفتاة الطموحة الطيبة الجميلة صاحبة الصوت الملائكي الذي يأسرك ويحبسك في مجال ذبذباته.. كثيرون ربطوا هذه الحادثة الفظيعة والمؤلمة والمبكية إلى حد كبير بالسياسة، وبالأخطبوط ذي الألف ذراع الذي وُلد أو استولد وكان له (شرف) قتل المئات بل الآلاف، بالطبع أتحدث عن (الجنجويد)، وبعضهم ربطها بأحد أجهزة الدولة وأن الإثنين واحد.. بعيداً عن كل هذا – إلى أن تستبين الحقيقة – فإن رؤيتي للأمر تكمن في هذه القدرة والغدر والوحشية التي تراكمت في نفس اليد القاتلة التي قتلت من الخلف. في مشاهدتنا ومتابعتنا لما يحدث هنا وحولنا أن العنف أصبح هو المنطق الوحيد والمتسيِّد لكل الحوادث .. العنف أصبح هو الكلمة الفصل في كل إشكال .. أضحى هو حجة، وسلاح، ودفاعات، وهجوم، وتكتيك، وتخطيط، أصبح هو الحصان الرابح الوحيد الذي يراهن عليه الكل. وأصبحنا نفيق من صدمة لندخل في غيبوبة صدمة أخرى أكثر بشاعة منها وأكثر إيلام.. ما السبب في إندلاع الحروب ؟ في تكوين جماعات القتل الجماعي وتنظيمها؟ حرق القرى الآمنة بكل ما فيها حتى دوابها، تبيت القرية بليل لتصبح في الصباح بقايا رماد وسواد تعبث بها الرياح..؟ السبب في الخطف والاغتصاب..؟ في زعزعة الآمنين وتشريدهم .. في القتل ..؟ في قتل كل شيء .. وفي قتل إبتهال..؟! هل قتلها يكمن فقط في نفسية هذا القاتل وترسبات وعقد .. أم أن قتلها هو شيء حتّمي ولدَّه ما نعيش فيه من عنف وخراب ودمار نفسي أولاً، ثم تأتي بقية الأشياء ..؟ هل ما يحدث الآن هو الذي أعطى الحق والشرعية لهذا القاتل لينفذ عمليته باعتبار أنها مكملة أو جزء لا ينفصل في سلسلة العنف التي نعيشها ونكتوي بنيرانها ..؟ هل يشعر بأنه أقدم على جريمة أم يقنع نفسه أن ما فعله طبيعي في عهد العنف الطبيعي في هذا الزمن غير الطبيعي..؟ ابتهال لم تكن لم تكن مجرد فتاة تقوم بأعمال البيت وتنتظر صاحب النصيب .. كانت فتاة فاعلة تخدم نفسها وأسرتها ومجتمعها وبلدها الذي قتلها .. فيا عجبي من بلد يقتل أبناءه..! نحن بحاجة إلى ألف بل مليون ابتهال.. في ذات الأثناء تغيب ابتهال .. نحتاج أمثالها ومثيلاتها ليرفعوا هذا البلد الجاثي على ركبتيه بالعلم وليس بالبندقية والسكين .. ابتهال فتاة العلم درست الجامعة وحضرت الماجستير وكانت تتأهب للدكتوراه فماذا فعلت أيُّها القاتل .. ماذا فعلتم بها أيُّها القتلة 000؟ ماذا فعلتِ يابلد00؟ مشهد من الذاكرة: يرن الهاتف 00 تناديني أمي .. صديقة من نيالا تطلبك .. لا استغرب فهي الوحيدة التي لدي هناك .. يأتيني صوتها الجميل الذي يغازل مسمعي الآن وكل حين، بطريقة حديثها التي تخصها وحدها: رانيا إزيك .. أرى بخيالي ابتسامتها.. أحاول أيضاً إيصال لفرحتي بها إليها .. نتحدث كثيراً والكلمات تسيل بغزارة وكثافة تمد لسانها للسنين التي لم نر بعضنا فيها وتقول لها: مهما تكاثرتِ لن تؤثري عليّ .. وعلى حميميتي.. أن يكون لديك صديق عزيزي القارئ بعييييد لم تراه لسنوات والتواصل متواصل ولو على فترات.. صديق يشعرك أن ودكما صادق وقوي ويجعلك تشعر بإنسانيتك عندما تتصل لتطمئن عليه .. كانت هي ابتهال بالنسبة لي. التي فقدت حياتها نتيجة العنف و شيوع ثقافته التي يجيدها الكثيرون الآن والتي نبدأها نحن في بيوتنا ومع أطفالنا بأساليبنا التربوية الخاطئة والعنيفة.. اللهم ارحم ابتهال .. واغفر لها .. وعوض شبابها الجنة... واسكنها فسيح جناتك ... والهم آلها الصبر.. اللهم آمين.
* عمود (ذات بوح) بصحيفة الأضواء
|
|
|
|
|
|