|
موت اللغة
|
قراءة من رواية "لغة السر" للكاتبة نجوى بركات
دائماً كان للكلمة وقع السحر علي . تملأ رأسي فأطردها كما لو كانت من الفراش أجمع منه المتداول والنادر والغريب . أغفو وأنا أستعيد ما غبّته عيناي طوال النهار من كلمات تشربتها عبر قراءة المعاجم بقديمها وحديثها ، وكانت مطالعتها لسنوات ولعي الوحيد . إلى أن أضحت الكلمات كائنات حية تقاسمني العيش فأحاورها وتخاطبني وتطيب بيننا الأحاديث ... واللغة مسكني بل عالمي ومملكتي ، وفيها أنا الملك والمملوك ، أشيدها ثم أدك معمارها لسبر سرائر هندسة تستعصي بقدر ما تهون ، تتعقد وتتركب ، لكي تستوي من ثمة على انبساط ووضوح . تعمقت في معرفة اللغة متمكناً من أدواتها وموادها ومختلف التقنيات ، من الاشتقاق إلى الإبدال والقلب ، ومن الجناس والطباق إلى التشبيه والكناية والاستعارة والمجاز ، ومن البديع إلى النحو والصرف والنسب والجمع والتصغير والموازين والأفعال والمصادر ، بحيث تحولت إلى قارة زرت كل بقاعها وتعرفت إلى بلدانها ومدنها وقراها ، ووطئت أصغر أحيائها وأزقتها وزواياها التي لا تظهر لعين قارئ عادي .
لكن ، ذات يوم ، إذا بي أصحو على مملكة أشبه بمتحف لا أثر للحياة فيه . ثري بروائعه ، وإنما ناء وعلى برودة وسكون .
ضربني الملل واستبد بي شعور هائل بالخواء ، فغادرت مملكة اللغة للسلوى بمطالعة كتاب شريته ولداً قبل انتسابي إلى الأخوية كمريد ، حين كنت في مرحلة شغفي الأول بالألفاظ . في طيه ، وقعت على تلميح إلى نقاش دار على عصور ولم يتسن لي السماع به من قبل ، ويتعلق بسؤال يمكن إيجازه على هذا النحو : هل اللغة توقيف أي وحي ، أم هي اصطلاح بالتواضع أي من صنع الإنسان ؟
أرعبني هذا السؤال بمثل ما أحياني . المهم ، أحرقت السؤال ودفنته في تراب الواحة ، وعاودت الاستلقاء على صخرة إيماني الراسخ بأن اللغة معجزة اجترحها الرب وقدمها هبة لأبينا آدم إلى أن تمددت اللغة جثة عجوز امتنع عليه النماء وتعذر توالده ، فقضى ومات كما تقضي جميع الأحياء " .
|
|
|
|
|
|