|
كان بدرى عليك تودعنى وأنا مشتاق ليك
|
طه بشير من أبناء كوبر شاب فى مقتبل العمر ممتلىء حيوية ونشاط أكمل الثانوية ثم اغترب الى المملكة العربية السعودية وكان ذلك فى عام 1976 عند بدايات عهود الهجرة الأولى عندما كان المغنى يقول لأمه رسلى لى عفوك ينجينى من هول الزمان وجمعتنا الصدف السعيدة فكنا حوالى العشرة أشخاص كلنا ممتلىء شبابا وحيوية ولدينا طموحات كالجبال وآمال عريضة لتحسين الأوضاع وتبديل الهم والغم الى حال من اليسر والحبور فاستأجرنا منزلا كبيرا فى الرياض فى حى شعبى يقبع خلف وزارة الدفاع وكان اسمه حى الدفاع وكنا كلنا غير متزوجين أى مصنفين عزابة وكان من بين ذلك النفر الكريم محجوب حسن على من أبناء برى يغنى بالعود لأحمد المصطفى والذى أضفى لغربتنا نكهة خاصة وكان من بينهم شقيقى أبوعبيدة شيخ الدين وطه بشير وأبوالقاسم سليمان لطفى المليونير الذى بدأ حياته براتب 1500 ريال ما يعادل مبلغ 400 دولار وكان وقتها أصغرنا سنا وغيرهم وغيرهم من شباب أمة الأمجاد وكان معظمهم متعاقدون مع وزارة الصحة فى ذلك العهد القديم وبالفعل كنا أسرة واحدة فى زمن كان الإغتراب فيه يعادل الإستشهاد فى سبيل الوطن
استمرينا على هذا الوضع لعام كامل بالتمام والكمال توطدت خلاله العلاقات وتعمقت فصرنا كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى
وخطط طه بشير لمستقبل أفضل فالتحق باحدى الجامعات المصرية وجاءه القبول من هناك وكان ذلك بغرض تحسين وضعه فى الإغتراب بعد أن عرف أن الشهادة الجامعية ستمنحه دفعة قوية نحو تحقيق آماله العريضة خاصة أنه من أسرة متواضعة تركن عليه كثيرا لنشلها من هموم الحياة العصيبة التى بدأت مؤشراتها فى السودان فى ذلك الزمان
وحانت ساعة الفراق ورتب حجوزاته وأنهى كل متعلقاته بالسعودية وصادف أن كان المطار قريبا من بيتنا وكانت ساعة الفراق متزامنة مع وقت خروجنا للدوام فى المكاتب
فركبنا السيارة سويا يرافقنا أبوعبيدة وطه بشير نفسه فى المقعد الأمامى وآخرون من الزملاء الكرام فى المقعد الخلفى وأنا أسوق السيارة المتجهة الى المطار ومن ثم الى العمل
فركبنا فى موكب صامت حزين لوداع أخ عزيز وكانت المفاجأة أن أدرت محرك السيارة ودوى صوت المسجل فى أغنية حزاينية عجيبة
كان بدرى عليك والأنس جميل وأنا مشتاق ليك فى سكون الليل كان بدرى عليك وعلى وداعك يا المغرى وفاتن ابداعك تودعنى وأنا مشتاق ليك كان بدرى عليك
ففقدت حينها أعصابى وبكيت بدموع حرى علما بأننى عصى الدمع شيمتى الصبر إلا أن الموقف حركنى وهزنى ولم أتمكن من تكملة القيادة فطلب منى الأخوة أن أترك القيادة لشقيقى أبوعبيدة
وكانت آخر مرة أشاهد فيها طه بشير الذى ذهب الى مصر وأكمل أوراق التحاقه بالجامعة ثم ذهب بعدها بوقت قصير الى السودان لرؤية أهله ووداعهم قبل أن يعود الى مصر المؤمنة
ولكن القدر كان اسرع منه فقد صدمه القطار المتجه الى حلفا وانتقل طه بشير الى الدار الآخرة بنفس راضية مطمئنة واختاره ربه الى جواره وهزنا خبر انتقاله وأفجعنا وأجرى دموعنا دما وصمت صوته الى الأبد وكان عزاؤنا
كان بدرى عليك تودعنى وأنا مشتاق ليك
ولم أسمع هذه الأغنية الى يومنا هذا
انا لله وانا اليه راجعون فهذه لحظة وفاء أهديها لروحه الطاهرة وأسأل الأخوة والأخوات الأفاضل أن يترحموا على هذا الشاب الوديع الذى رحل عنا فى صمت مهيب وكأنما فعلا قال المغنى هذه الكلمات من أجله
رحمة الله عليك يا طه بشير
|
|
|
|
|
|
|
|
|