لو عاش “كمال الجزولي” مائة عام أخرى أو تزيد، لما انتهت الحكاية، ولما خَفُتَ بريقها، ولما قلَّت مُتعتها، ولما ضلَّت الطريق، بل ولظلَّت غيداء حسناء تمشي الهُوَيْنا، قاصدة مرافئ الحق والجمال نحو أفُقٍ بعيد. أحسَنَ القصص من أم دُرمان، من غنى الحارات نشيده، من ضفاف النيل مندى سوابق المحاكم عندما تُحيلها الحكاية إلى رواية مُفعَمَة بالحِكمة والمُتعة وتُبدِّل الخِصَام إلى جمالٍ، أيَّام الطُّفُولة والصِّبا الباكر، وسنوات الطَّلَب في موسكو، وما زلنا نُعافِر أيَّام السَّجنِ وتحت الأرض وارتفاع الصَّوت بالهُتاف، والبطل يُساقُ إلى المشنقة، الحزبُ والحربُ والرِّبح والحبر بين الماركسيَّة والأنصاريَّة، بين المهدي ولينين، وكيف يجمع المُثقف السُّوداني كُلَّ ذلك النسيج ويصنع منه سجَّادة فارسيَّة يزيدها الزمان جمالاً، ذكرى مُثقفٌ مصري مغمور، أضاء للحظة ونسي الجميع اسمه، ولكن “كمال الجزولي” لا ينسى الإلهام الأوَّل، الذى منحه إياه، ويأبى إلا أن يستعيد سيرته ويُضئ وهجه من جديد، ومحظوظٌ من تقفَّى أثره “كمال” بدأبه واصطباره وجَدِّه الذي لا يهُن.. وسوى القلَّة القليلة الذي أسعدها الزمان بلُقياه والجُلوس إليه وسماع الحكاية، تظل جماعاتٌ من القُرَّاء استمتعت بما كتب “كمال الجُزولي” واستفادت، فقد ظلت كتابته مهما تكُن زينة للنظر، يُحلِّي جيدها البَاسِق انتظام الحرف ونظمُ الشَّكل فما مِن حركة تفلت من نظره الثاقب ودقته المُتناهية قبل أن يأخذك جمال الحكاية عن كُلِّ ذلك، كيف استطاع “كمال الجُزولي” أن يُضفي على قضيَّة فلسفيَّة شديدة التعقيد، مثل الدِّين والدَّولة، دفقاً من حِسِّه الخاص، الموسوم بالحكاية ويُحوِّلها إلى مُتعة أخرى في صورةٍ بالغة الطَّرافة لعتود الدَّولة، وأمامَه المُصْحَفُ السنَّاري العتيق والحاجب يصيح: “مَحْكَمَة”.. ما قصَّر “كمال الجُزولي” والله في حقِّكم يا قُرَّائه الكثيرين وهو ينفحُكُم كُلَّ أسبوع برُزنامةٍ تسير في الأيَّام بالمُتعة والجمال ولا تَنِئ، بل كيف استعاد “كمال الجُزولي” الكلمة الفارسيَّة وطرَّز بها مقاله الرَّاتب، ومنحها الحياة ودعى خيرة الكاتبين ليُساهموا معه من فينة إلى أخرى في إمتاع قُرَّائِه، ويا له من تحدٍ صَعْب، أن يدعوك “كمال الجُزولي” لتكون ضيفه على الرُزنامة لذلك الأسبوع، وكم حفَّز ذلك التحدي أولئك الكُتَّاب ليُعطوا أحسن ما عندهم وإلَّا كيف تجلس في المحفل الأنيق بالإهمال والأسمال؟ أهدتني الصَّديقة العزيزة أميرة محمَّد خير نصيحة قيِّمَة، عندما أشارت لأحدُهُم أن “كمال الجُزولي” كُلٌ مُتكامِل، لك أن تأخُذه كُلُّهُ أو تترُكه كُلُّه، فقد يَلقى البعض بصراحته وصِدقه فَيَزْوَرَّ عنه، وتُصوِّر له شقوته أنه ترك شخصاً صَعْباً شديداً ولكن في الحقيقة، ترك خيراً كثيراً عندما صَرَفَه الطَّارئ الظاهر عن الجَّوهر الجميل، وفي الحقيقة فقد فَاتَتْهُ الحكاية في أسمى صُورها وأنفعها، فاتَهُ أنَّ الحياة نفسها هي الحكاية التي حَمَلَهَا الأنبياء كما حَمَلَهَا الفنَّانون والأدباء، وحَمَلَتها الكُتب والمُقدَّسة، وحَمَلَها أرسطو وشكسبير، كما حملها نجيب والطيب صالح، وكما حملها ديستوفسكي وهيمنغواي وميلان كونديرا، وكما حملها “كمال الجزولي” صوتاً وحرفاً. لكن، ما أبعد جمال الحكاية عن مُدوَّنات القانون الصَّارمة وسُوح المحاكم وخِصَامها قبل أن يُقاربها “كمال الجُزولي” ويقترب بها من الحكاية فتصير رواية، حكى لي ذات مرَّةٍ عن صديقٍ مُشترك من قادة الأحزاب، لقيه “كمال” وكيلاً عن خصمه توهَّم الزعيم الشاكي أنَّ “كمال الجُزولي” في مُسائلته إنَّما يعرض بماضيه عندما كان جُندياً في الصُّفوف قبل أن يتدرَّج باجتهاده ليكون من ضُبَّاط الكُليَّة الحربيَّة، فطفق يخطُبُ في حماسةٍ وانفعال عن فخره بجُنديَّته واعتزازه بمسيرته، من صَفِّهم إلى صفِّ القادة، قابل الأستاذ انفعال خصمه بجمال الحكاية، قال له: «هل تظن أني أسخرُ من ذلك؟ لا والله، فقد كان والدي صُفُوفِيَّاً تدرَّج حتى بلغ مُفتش السِّلاح الطبي، ثمَّ أنا مِمَّن يعتزُّ بنضال الضُّعفاء مذهباً نذرتُ له حياتي عُمَّالاً أو جُنُوداً» ترك الخصم مِنصَّة الشاكين وطفق يحتضن خصمه، يكاد يذرف دمعه، «هل أنت إبن عم الجُزولي؟ يا سلام.. يا الله»، ابتسم القاضي، وتحوَّلت المحكمة ساحةً للسَّلام والمُطايَبَة، وانحلَّت القضيَّة بالحكاية، وتأثُّر الجميع وماذا عساهُم أن يفعلوا وليس أمام القاضي سوى الابتسام والانصراف، فقد كانت المحاكم التي يرتادها “كمال الجُزولي” طوال حياته هي أكبر مصادر سوء الفهم لشخصيَّة المُثقَّف وهي كذلك أكبر مَدَدٍ بالأصدقاء متى ثاب الخُصُوم إلى العُقول وهدأت النفوس وغادرت شُحها. والحقُّ، أنَّ القصص كلها ليست مُزدانة بجمال الحكاية، ففي عُمره القصير الطويل، وفي تاريخنا القريب، سوالف يَندَى لها الجَّبين، حفظها أمانةً للتاريخ وظلَّ يحكي أحداثها المُروِّعة لخاصَّة من صَفوَته، وضمن القصَّة التاريخيَّة الكبيرة دائماً لـ“كمال” حكاية خاصة ساقته إلى ظُرُوفها وصُرُوفِها أحياناً عمله في المُحاماة، وأحياناً أخرى كثيرة مسارات النضال والكتابة، فضمن مُعتقلات نظام مايو وزنازين ومكاتب أجهزة الأمن، كانت له حكاية مُوشَّاة بالدَّم والدُّمُوع وفي سياق مأساة دارفور وبُعدِهَا المَحَلِّي والدَّولي يحفظ خاصة رحلته وحكايتها، وربَّما بسببٍ من تلك الوقائع، ومن حادثات زماننا المُضطرب أضاف “كمال الجُزولي” لحِسِّه القانوني إحساساً مُرهفاً بالعدالة، تجلَّى في اهتمامه الوثيق بأُطروحة العدالة الانتقاليَّة ودراسة تجاربها كافة، واجتهاده لتخرُج النُّسخة السُّودانيَّة ضمن تجاربها الكثيرة، ومَن أجدَرَ منه بالإضافة والإسهام، ومَن أعرَفَ منه بأعرَاف أهل السُّودان وثقافتهم ومِحَنِهِم. زُرتُهُ في حضرته الأخيرة بصُحبة الصَّديق الدكتور الواثق كمير، بعد أن أصيب بحادثٍ عارضٍ عطَّل قدمه ومنعه من الحركة، وهو يتلقى العلاج ويتأمَّل شفاءً قريباً، يعود بعده يكتب ويرتاد ساحة العمل والنشاط، فقد كان كذلك من القلة ذات الثقافة الرَّفيعة التي لا تستنكف عن مُكابَدَة العمل ومُخَالطة النشاط، بالطبع حملته الحرب إلى حيث لم يتوقع أن تنتهى به الأيام مُصاباً ولاجئاً.. إلى مصر، التي كم ارتادها سائحاً وكاتباً وشاعراً وشقيقاً ونديداً، ولكنها الحرب تثقل في القلب ثمَّ ما لبثت جلستنا على قِصَرِها أن إنثالت تحكي عن الثورة وقصَّة ثورة، وعن الخُبث المُستميت الذي يُصِرُّ على وأدِها وتجريدها من مضمونها الحق في الحُريَّة والديمقراطيَّة، وعن سُبُل الخُرُوج، وعن آفاق الحُلول وعن الحُزن الأكبر إذا ضاع الوطن أو تمزَّق، ولا ريب أنَّ “كمال الجُزولي” من رهط صلاح أحمد إبراهيم، الذي كان يُلِحُّ في الدُّعاء أن يلقى الله قبل أن يلقاه مصير الوطن وقد تبدَّد أجزاءً، ولكنه كان على القناعة الأتم، أنَّ ثورة ديسمبر هي نقطة التحوُّل في تاريخ السُّودان المُعاصر وأنَّ مبادئها وقِيَمِها هي الهادية، وأنَّ الحرب حادثٌ عارض، ولكن السُّودان وشيكاً سيستعيد مساره الأصيل. ودَّعناهُ وأودعناهُ أمنياته الطيِّبة وتركناه مع أمله، الذى لقي عليه الله، يُوقنُ أنه سيكون قريباً مهما استبدَّت المحنة الرَّاهنة وأسدلت غَمَامَتِها السَّوداء ظلمة دَهْمَاء غطَّت سماء الوطن. ستلقى أجيال السُّودانيين المُقبلة كُتُب “كمال الجزولي” ومقالاته، وسترد عندها مُعيناً صافياً لا ينضب، وستبقى عندنا من مُعاصريه حسرةً لا تنحسر، أنه من القلة التي غادرت قبل أن تُكمِل مشوارها، فما زال لديه الكثير والحق أنَّ الأيام التي غادرنا “كمال الجُزولي” والأسابيع المُمتدَّة لأشهُرٍ كانت مزدحمة بالرَّاحلين من المُضيئين كالنجوم، ولكن أغلبهم سوى غيابه الشخصي قد أكمل مساره وأعطى ما عنده، ولكن بقى “كمال الجُزولي” ثاني إثنين إذ سبقه الطيِّب صالح، وما زلنا ننتظر الجزء الثاني والثالث من بندر شاه، وربَّما الرَّابع والخامس كما كان يَعِدُنا، وكما كان مشروع الرواية مُكتملاً فى رُؤاه وخياله، ولكن يا حسرةً على الموعد، كذلك غادرنا “كمال الجزولي” وما زالت الحكاية صبيَّة في ينعها ليحل الصَّمتَ والحُزن. لن أبرح حتى أذكُر جانباً مُهمَّاً في “كمال” المُثقف، اهتمامه الصَّافي بالفن والفنَّانين وقد ظلَّ أغلب حياته مُحاطاً بجمالهم، شُعراء ومُغنيين وتشكيليين وسينمائيين ومعماريين، أذكُرُه يعرج بنا في أمسيات الاستراحة في المحافل التي أحسن الحظ إلينا فيها وجمعنا معه، خاصةً خارج السُّودان وهو يستفيض في قصَّة الأغنية وحكاية الشَّاعر والمُغني، وما استشكل على المُستمعين والنَّاقد، وما قارنه إلى الشعر العربي كما يفعل كبار النُقاد حين يجمعون شعرنا إلى شعر الجاهليَّة، وإلى شعر الإسلام، ثمَّ هو الفن يتجلَّى في زيِّه وبيته وأغلفة كُتُبِه التي يختارها بعناية، أذكُرُ أني كلما زُرتُه في داره الأنيق بمدينة بحري شمال الخُرطوم أقف مُتأمِّلاً اللوحات التي تُزيِّن الجُدران وتملأها بالحياة لكبار التشكيليين، الذين تركوا بصماتهم من المُخضرمين ومن الأجيال التي تلتهُم، فقليلٌ ما همَّ من مثقفي السُّودان يهتم بأن يضُمَّ بيته لوحة أصل لفنانٍ أصيل فضلاً عن القِمَم النَّادرة التي لا تلقى أعمالها إلا نادراً.. أذكُرُ في إحدى زياراتي إليه مع صديقٍ نابهٍ يعمل في مجال المقاولات، جاء لأنه يريد أن أساعده ليقبل “كمال الجُزولي” أن يكون وكيله في قضيَّة مُعقَّدة غفل الصَّديق لوهلة عن قضيَّته وهو يتأمَّل جمال البيت، وسألني عن المعماري الذي صمَّم البيت، فأجبتُهُ دون أن أنتبه لقيام الأستاذ خلفي مباشرة، قُلتُ: «“كمال الجزولي” يزعُمُ أنه هو من صمَّمه»، فأكمَلَ كمال العبارة: «وإنتَ طبعاً ما مُصدِّق»! وفي آخر مكالمة لي معه كُنتُ أطلُبُ منه الإدلاء بإفادة مُختصرة لفيلم وثائقي يُخرجه صديق شاب من أولي العزم، سألنى الصَّديق عن حادثٍ يعودُ إلى ستينات القرن عندما زار مُناضلٌ أممي الخُرطوم وقابل مسؤولين فيها، أكَّدتُ له أني لم أسمع بالحادثة، ولكن سأدله على من يعرف آخر الأوتاد في أزمنة تكاثر الزعازع، قبل “كمال الجُزولي” فوراً أن يُدلي بالإفادة ولكن قدَّر الله لذلك ألا يتم أبداً، إذ تأخَّر التصوير وتعجَّل “كمال”! المُهم في تلك المُحادثة، حدَّثنا عن شوقه لبيت الله الحَرَام وإتمام العُمرَة وكان ذلك في إطار الحكاية روى لي أنه ذهب إلى المملكة فى إطار دعوة ضمن المدعُوِّين لحُضُور مهرجان الجنادريَّة، وكان ضمن المدعوين الدكتور منصور خالد، وكيف أنه تقدَّمه وهُم يصطفون لمصافحة سُمُو الملك وأنَّ الملك هشَّ لدى رؤية منصور، واستوقفه لبضع دقائق وسأله عن أحواله، ومن يومها أخذ الدكتور لمنزلة أخرى، إلَّا أنَّ دقائق خادم الحرمين قد أفاضت على بقيَّة الوفد، فدُعوا جميعاً لأداء العُمرَة وأنَّ الأمر كله قد رُتِّب بعد تغيير مسار العودة ليكون من المدينة إلى الخُرطوم، بدلاً عن الرياض.. قال لي “كمال” مُتحسِّراً: «كُنتُ أريدُ أن أزور البيت الحرام أشعثاً أغبراً وليس في ضيافةٍ ملكيَّة» فتعذَّر بأنَّ له موعداً لن يخلفه، واعتذر عن الزيارة، ثمَّ أردف “كمال” بصوتٍ متضجرٍ أعرفه عنه: «أنظر بالله كيف فوَّت عليَّ جُنُون الأيديولوجيا تلك الفرصة الثمينة»!؟ رَحَلَ “كمال الجُزولي” بعد أن بهَرَنا بالكثير الذي لا يُصدَّق، وترك لنا الرِّواية وما الرِّواية سوى الضحكة، وما الضحكة سوى الميراث الأجمل، الذي يتركه الإنسان، كما يقول الرِّاوئي التشيكي ميلان كونديرا، كما ترك لنا حُزناً مُقيماً بغياب شخصه الجميل، وعلى الحكاية التي لم تكتمل.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست