في حرمٍ يُفترض أن يكون ملاذًا للعلم، وساحة للفكر، يجد طلابٌ سودانيون من إقليم دارفور أنفسهم محاصرين لا بجدران المعرفة، بل بأسوار من الشك والتهميش. تقرير صادر عن المجموعة السودانية للديمقراطية أولاً بعنوان "قضايا التمييز ضد الطلاب السودانيين المنحدرين من إقليم دارفور في الجامعات السودانية"، يرصد بجرأة وعين حقوقية ما يتعرض له هؤلاء الطلاب من انتهاكات ممنهجة، لا تختلف في جوهرها عن عنف الحرب، وإن اختلفت في أدواتها.
الطرد من القاعات... والحق من الدستور يعرض التقرير عشرات الشهادات الموثقة لطلاب حُرموا من حقهم الأساسي في التعليم. حُرموا من الجلوس للامتحانات، طُردوا إداريًا دون مسوغات قانونية، وأُجبر بعضهم على تقديم استقالته تحت الضغط الأمني أو الجسدي. في المقابل، يكرّس الدستور السوداني الحق في التعليم كمبدأ لا يُمس، ما يجعل هذه الوقائع لا مجرد مخالفات جامعية، بل خروقات دستورية واضحة.
■ الصورة النمطية: الطالب كمتهم جاهز في كل فصل من التقرير، تتكرر جملة صادمة بصيغ مختلفة: "نحن لا نُعامل كطلاب". بل كمشبوهين، أو أعضاء في حركات مسلحة، أو "مخربين". وهنا تتجلى كارثة: حين تُرسم صورة نمطية جماعية على أساس الجهة أو اللون أو الانتماء الجغرافي، فإن القاعة تتحول من فضاء تعليمي إلى مسرح أمني.
■ الجلد والضرب والدم... باسم "النظام" توثق الشهادات تعذيبًا جسديًا طال العديد من الطلاب، داخل وخارج الجامعات. ضرب، جلد، وإهانات عنصرية. بل وسُجلت حالات اغتيال مباشرة. ولا يتوقف الأمر عند ذلك، بل يُحاكم هؤلاء الطلاب في محاكم خاصة بأحكام مشددة، غالبًا دون تمثيل قانوني حقيقي، ما يحوّل المسار القضائي إلى أداة تنكيل.
■ عندما يُصدَّر الصراع من دارفور إلى الجامعة السؤال المؤلم: لماذا هذا العنف ضد طلاب دارفور بالتحديد؟ الإجابة تكمن في أن الحرب لم تنتهِ تمامًا، بل غيّرت مسرحها. من الجبال والمزارع إلى الجامعات والداخليات. هؤلاء الشباب، القادمون من معسكرات النزوح والحرب، يحملون وعيًا سياسيًا مختلفًا، وغالبًا ما يتصدرون الحراك الطلابي. وفي ذلك تهديد للنظام الذي يسعى لإعادة إنتاج المركزية السلطوية حتى في التعليم.
■ التبعات النفسية والاجتماعية: وطنٌ يطرد أبناءه بعيدًا عن الأرقام والوقائع، هناك بعدٌ آخر لا يُقاس: شعور الطالب بأنه غريبٌ في وطنه، مُطارد لأنه مختلف، ومعزول لأنه من دارفور. النتيجة: جرحٌ نفسيٌ عميق، قد لا يندمل بسهولة. واغتراب داخلي يجعل المصالحة الوطنية الحقيقية أمرًا أكثر صعوبة.
■ ما العمل؟ التقرير يقدم توصيات واقعية:
مساءلة إدارات الجامعات.
إصلاح البنية القانونية.
وقف الإفلات من العقاب.
حماية الحق في التعليم.
كسر الصورة النمطية.
لكن المطلوب أكثر من ذلك. نحن بحاجة لحملة وطنية ضد التمييز داخل الجامعات، وإشراك الإعلام والمجتمع المدني ونقابات الأساتذة والطلاب في بناء ثقافة جديدة، لا تُقصي أحدًا بسبب أصله.
■ خلاصة: الجامعة التي لا تُنصف، تُخرّج ظلماً التعليم ليس امتيازًا يُمنح، بل حقٌ يُصان. والمجتمع الذي يسمح بإهانة طالب بسبب لونه أو قبيلته، إنما يهين نفسه أولاً.
ما يحدث لطلاب دارفور في الجامعات السودانية هو مرآة مأساوية لأزمة الوطن مع نفسه. وإذا لم نضع حدًا لهذا التمييز الصامت، فإننا نُخاطر بإنتاج جيل جديد، لا يحمل كتابًا، بل يحمل جرحًا.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة