في كتابها الساحر Why We Swim، تتجاوز الكاتبة الأميركية بوني تسي حدود الرياضة، لتطرح عبر السباحة أسئلة وجودية عن البقاء، الهوية، الحرية، والانتماء. الكاتبة، وهي مساهمة بارزة في نيويورك تايمز، لا تكتب عن الماء فقط، بل عن الإنسان عندما يواجه ذاته في أعمق تجلياته: في الحركة، في العزلة، في النجاة، وفي التوق للاندماج مع الطبيعة. الكتاب، الذي اختير ضمن قائمة أفضل كتب العام من قبل Time وNPR، يتنقّل بين السيرة الشخصية والتحقيق الصحفي، وبين التاريخ والأنثروبولوجيا، ليجيب على سؤال بسيط في ظاهره: لماذا نسبح؟ في فصل "البقاء"، تسرد تسي حكاية صياد آيسلندي سقط في مياه متجمدة، ونجا بطريقة أقرب إلى المعجزة. القصة ليست محض توثيق، بل استعارة كبرى للسباحة كغريزة دفاع عن الحياة. أما في "أنت كائن بري"، فتفكك الكاتبة الفكرة الرومانسية بأن الإنسان يولد سبّاحًا، مؤكدة أن السباحة تعلم ومثابرة — مثل الحياة نفسها. في فصل "دروس من بحر البدو"، نغوص مع قبائل "الباجاو"، سكان البحر الذين يعيشون حرفيًا في الماء. يسبحون، ويغوصون، ويتنفسون تحت السطح كأنهم وُلدوا هناك. إنهم المثال الأوضح على انسجام الجسد مع الطبيعة، وعلى أن السباحة ليست رفاهًا، بل وطنًا.
ثم تأخذنا الكاتبة إلى أروقة "الهوية" والعدالة. في فصل "الوصول"، تطرح سؤالًا سياسيًا مؤلمًا: من يملك حق السباحة؟ وتستعرض التمييز العرقي في تاريخ المسابح العامة بأميركا، وكيف حُرم السود والفقراء من تعلم السباحة لأجيال — تركة ما زالت تدفع ثمنها الأسر حتى اليوم.
أما في فصلي "الرفاهية" و**"علاج الماء"**، فتكشف تسي عن الجانب العلاجي للسباحة. ليس فقط للشفاء الجسدي، بل كمساحة للتأمل، لإعادة تركيب الذات المنهكة، وللصمت الذي لا نجده خارج الماء.
ثم تصل إلى ذروة الكتاب في "التدفق" (Flow) — حيث يصبح الجسد والعقل في حالة تناغم مطلق داخل الماء، وكأن السباحة تفتح بوابة سرية إلى طاقة داخلية لا توقظها سوى تلك اللحظة التي نطفو فيها على الحافة بين السيطرة والانسياب.
بين السطح والعمق "لماذا نسبح؟" هو كتاب عن الماء، لكنه أيضًا عن البرّ الذي نفرّ منه. عن العالم اليابس الذي نخوض فيه صراعات الجندر والطبقة والعِرق، فنعود إلى الماء بحثًا عن خلاص مؤقت.
الكتاب يفضح امتياز اللغة، ويطرح تساؤلًا نقديًا عن استخدام النخبة الثقافية للغة فصيحة منمّقة — تلك اللغة التي تفصلهم عن الناس، وتعيد إنتاج الهيمنة ذاتها التي ينتقدونها. فالماء هنا ليس فقط ساحة سباحة، بل مرآة للنظام الاجتماعي كله.
السباحة كفعل مقاومة السباحة، كما تكتب تسي، ليست مجرد تمرين جسدي. إنها مقاومة ضد الموت، ضد النسيان، وضد الانفصال عن الطبيعة. إنها الفعل الذي نعود فيه إلى رحم الحياة، إلى لحظة ما قبل اللغة، ما قبل الانقسام، ما قبل أن نصبح "نخبًا" و"هامشًا".
"ما يظهر على السطح ليس سوى بداية الحكاية"، تقول تسي. وتُضيف — من دون أن تكتبها حرفيًا — أن السباحة لا تعلّمنا فقط كيف نطفو، بل كيف نغوص عميقًا في دواخلنا. وفي هذا العالم الذي تتكاثر فيه الضوضاء والادعاءات، ربما نحتاج جميعًا إلى قليل من الصمت... وقليل من السباحة.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة