قراءة في تطور النص الغنائي بين الحرفة والريادة مقدمة: كما دأب منتدى الدكتورة هند الحكيم على مناقشة قضايا سودانية ذات طابع جاد، تجمع بين الوعي الثقافي والاهتمام بالفنون كرافعة للهوية الوطنية، فقد لفت انتباهي مؤخرًا حديث مستفيض شارك فيه عدد من المثقفين عن كتاب جديد حول الأغنية السودانية. وقد وجدتهم يتداولون أطروحات قيّمة حول مفاهيم "الصياغة" و"الأستاذية" في النص الغنائي، وتاريخ تطور الأغنية بين الشعر والموسيقى، واشتباكها مع الذوق العام والسياسة. وبحكم انشغالي المتواصل بقضايا التعبير الفني في السودان، أحببت أن أدلي بدلوي عبر هذه القراءة التي تحاول الربط بين الجانب الفني والتاريخي، وبين التحول الثقافي الذي طرأ على الأغنية السودانية، من عصر الروّاد حتى زمن المنصات الرقمية.
مدخل: من التلاوة إلى التلحين.. ولادة الأغنية السودانية الحديثة ترجع بدايات الأغنية السودانية كمزيج من الكلمة المغناة والموسيقى المصاحبة إلى نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، تحديدًا مع أنماط المديح والمدائح النبوية، ثم الأغاني الشعبية ذات الطابع القبلي والمناطقي التي مثّلت الذاكرة الجمعية لمجتمعات الريف والبوادي. لكن التحول الحقيقي جاء مع بروز ما يُعرف بـ"أغاني الحقيبة" في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين، حيث تحوّلت القصيدة من المديح والدوبيت إلى الغناء العاطفي والمديني، على يد شعراء وروّاد مثل:
خليل فرح (صاحب "عازة في هواك")
عمر البنا
عبد الرحمن الريح
تاج السر الحسن
ومع تأسيس الإذاعة السودانية عام 1940، بدأ التوثيق الرسمي لهذه الأغاني، ودخلت الموسيقى مرحلة الاحتراف التدريجي، بدايةً من العود، ثم الكمان، فالأكورديون، حتى وصول البيانو والأورغ في أواخر الستينات. هذا العصر هو ما يمكن أن نسميه عصر "الصياغة المؤسسة"، حيث تبلورت ملامح الأغنية السودانية من حيث:
بناء النص الغنائي (من البيت الشعري إلى اللازمة الغنائية)
الشكل اللحني المتصاعد والمنضبط بالمقام
صوت المغني بوصفه "ناقلًا أمينًا" للنص والمعنى
الفصل الأول: الصياغة.. حين يكون الشعر ابن الإيقاع في هذا السياق، برزت الصياغة كحرفة مستقلة، تتعامل مع القصيدة المغناة ككائن فني حي، يحتاج إلى توازن بين الخيال الشعري والنبض الموسيقي. فالكاتب الغنائي الناجح لم يكن مجرد شاعر، بل ملمًا ببنية الإيقاع السوداني ومزاج المستمع ومدى قابلية النص للتلحين والأداء. تجلى هذا في نصوص مثل:
"الليل الهادي" – كلمات: عبد الرحمن الريح، لحن وأداء: أحمد المصطفى
"المامون على عهد الهوى" – كلمات: محمد بشير عتيق، أداء: الكاشف
وكان التحدي دومًا: هل تكتب الأغنية لتُغنّى؟ أم تُغنّى لأنها مكتوبة بشعر جميل؟
الفصل الثاني: الأستاذية.. الهيمنة الشعرية على اللحن من خمسينيات القرن العشرين وحتى السبعينيات، ظهر ما يمكن تسميته بـ"جيل الأساتذة"، وهم الشعراء والمثقفون الذين فرضوا معيارًا صارمًا لما يجب أن يكون عليه النص الغنائي. أسماء مثل:
محجوب شريف
محمد يوسف موسى
محمد الفيتوري
سيد عبد العزيز
فضل الله محمد
هؤلاء لم يكتبوا أغنيات فقط، بل نقلوا الشعر الغنائي إلى فضاء فلسفي، رمزي، قومي، وأحيانًا سياسي. في هذه المرحلة، لم يكن الفنان يجرؤ على غناء نص "ضعيف" لغويًا، لأن الهيئة الشعرية كانت تقود المشهد، حتى أن بعض الألحان كانت تؤجَّل شهورًا حتى يُرضي الشاعر عن أدائها.
الفصل الثالث: هل تحررت الأغنية من سلطة الأستاذ؟ ابتداءً من التسعينيات، ومع تحوّل الإنتاج من المؤسسات الرسمية إلى الأستوديوهات الخاصة، وظهور فنانين شباب بعلاقات مختلفة مع الكلمة، بدأت الأغنية السودانية تشهد تحوّلًا نوعيًا وجيليًا. لم يعد النص الغنائي يمر من بوابة "الشاعر الأستاذ"، بل ظهر منتج الأغنية كصاحب القرار، في كثير من الأحيان، ومعه المغني، وتراجع دور الشاعر إلى خلفية العمل. هذا ما جعل كثيرًا من الأغنيات تعتمد على الإيقاع واللازمة الرائجة أكثر من الجودة الأدبية، ما أدى إلى فجوة واضحة بين الأذن النخبوية والذوق الجماهيري العام.
خاتمة: من الطنبور إلى الأوتوتيون.. ما الذي تبقّى من الغناء السوداني؟ لقد مرّت الأغنية السودانية بمراحل متعددة: من الصياغة المحترفة إلى الأستاذية النخبوية، ثم إلى موجة التحرر الجمالي والفوضى الإنتاجية. اليوم، في ظل سطوة التكنولوجيا ووسائل التواصل، تغني بعض الأصوات الجديدة بنصوص ضعيفة وموسيقى معلبة، بينما يواصل عشاق الفن الحقيقي البحث عن بقايا الذائقة القديمة في أصوات مثل: مصطفى سيد أحمد، وعثمان حسين وحمزة علاء الدين، ووردي.
فهل نعيش زمن نهاية الأستاذية الشعرية؟ أم أن الصياغة العظيمة ستعود لتنتصر، مهما تبدلت الأصوات وتغيّرت المنصات؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة