في مشهد ملؤه التحدي والرمزية السياسية، أهدى مهرجان "كان" السينمائي في دورته الثامنة والسبعين جائزة السعفة الذهبية للمخرج الإيراني المعارض جعفر بناهي، عن فيلمه الجريء "مجرد حادث". الفيلم، الذي تم تصويره في السر يعدّ صرخة فنية في وجه القمع، وحكاية مؤلمة عن السجن والتعذيب والعدالة المؤجلة، وجاء تتويجه في لحظة فارقة من تاريخ السينما الإيرانية التي تقف منذ عقود على تخوم المقاومة الإبداعية.
المخرج البالغ من العمر 64 عاماً، والذي طالما واجه الاعتقال والملاحقة بسبب أفلامه الناقدة للنظام الإيراني، حضر للمرة الأولى منذ أكثر من عشرين عاماً إلى كان، حيث تسلّم جائزته من رئيسة لجنة التحكيم الممثلة الفرنسية جولييت بينوش. وكانت آخر مشاركة شخصية له في المهرجان عام 2003 بفيلمه "الذهب القرمزي"، الذي نال آنذاك جائزة لجنة التحكيم.
يروي فيلم "مجرد حادث" قصة وحيد، الرجل الذي يبحث عن العدالة بعد أن دُمّرت حياته في السجن تحت التعذيب. حين يعثر على رجل يشبه جلاده القديم، يبدأ رحلة لتحقيق العدالة بمعايير فردية قاسية ومؤلمة، مستحضراً الأسئلة الكبرى عن الانتقام الذاكرة، والحرية. الفيلم يعكس ببراعة السينما الإيرانية التي لا تزال تحفر، رغم المنع والمراقبة، في أكثر الجراح الوطنية إيلاماً.
في كلمته بالمهرجان، دعا بناهي الإيرانيين داخل البلاد وخارجها إلى تجاوز الخلافات والالتفاف حول "حرية الوطن"، في نداء يعكس عمق التمزق الوطني وتطلعات جيل مقموع.
إلى جانب بناهي، شهد المهرجان تكريماً لوجوه سينمائية بارزة، منها البرازيلي فاغنر مورا الذي نال جائزة أفضل ممثل عن أدائه القوي في فيلم "العميل السري" للمخرج كليبر ميندونسا فيليو. مورا، الذي اشتهر بدور بابلو إسكوبار في "ناركوس" لعب دور أستاذ جامعي تطارده السلطة في ظل حكم ديكتاتوري، في محاكاة صريحة لمآسي أمريكا اللاتينية مع القمع السياسي.
أما جائزة أفضل ممثلة، فقد نالتها الفرنسية الشابة نادية مليتي عن دورها في فيلم "الأخت الصغيرة" للمخرجة حفصية حرزي، حيث جسدت شخصية فتاة مسلمة تكتشف مثليتها في بيئة محافظة، في معالجة شجاعة لقضية الهوية والتعددية في المجتمع الفرنسي. الفيلم مستوحى من رواية فاطمة دعاس، وهو عمل يمثل امتداداً لسينما الاعتراف والتحرر.
إن تتويج بناهي، إلى جانب أعمال أخرى تلامس قضايا الحرية والهوية، يكرس مهرجان "كان" كمنبر فني لا ينفصل عن التحولات السياسية الكبرى. وفي هذا العام، بدت السينما المعارضة، من إيران إلى البرازيل، وكأنها تتحدث بلغة مشتركة مقاومة القمع بالعدسة، وفضح الظلم عبر الصورة، والبحث عن وطن في قلب الفن.
لقد أهدت كان هذا العام للعالم إشارات لا تخطئها العين: الإبداع لا يقف عند حدود السجون، والفن حين يكون صادقاً، يعلو على السياسة ويكتب تاريخاً آخر.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة