نبوءة النار: أوراق من تحت الركام" في الليلةِ التي انكسرت فيها النجومُ على جباهِ الثائرين، خرجتُ أحملُ جرحًا قديمًا كخريطةٍ للكون. لا شيء في هذا العالم يوقف الدمع المنهمر من عين النازح؛ الدمع المنسكب بلا هدنة، بفعل كآبة الواقع، وفقدان الأعزاء، وخيانة الأصدقاء. الأرضُ هنا ليست ترابًا، بل شظايا مرايا تُعيدُ تشكيلَ وجهِ القاتلِ كلما مشيتُ. أسألُ نفسي: من يُصلحُ المرايا إن تشظّتْ بصيرةُ الناظرين؟ من يعيد للضعفاء ضوءهم؟ ومن يغيثهم حين يعز الغوث؟ وهل يُستجاب الدعاء من فاجرٍ فعل كل الموبقات ثم ركن إلى باب الغفران متأخرًا؟
سقطَ الظلُّ على الميدانِ مثلَ جثةِ حمامةٍ بيضاء. الشهداءُ يرقصونَ تحتَ المطرِ الحارق، يغنونَ بلغةِ الدم: "نحنُ لا نموتُ، نحنُ نُزرعُ". والذين يبكوننا في العلن سرقوا دموعَنا في الخفاء ليرووا بها حدائقهم المسوّرة بالظلم.
في زمنِ الاختناقِ العظيم، صارَ التنفسُ جريمةً. أطفالي يتعلمونَ الكتابةَ على جدرانِ الزنازين، يتركونَ أسئلتهم للريحِ كي لا تسجنها أقفالُ الرقيب. وأنا أمضي نحو الخلاص لا كمن يهرب، بل كمن ينهض من الرماد، كمن قرر أن يحمل روحه كرايةٍ فوق خرائب الأمل. أمي تُعلّمُني كيفَ أصنعُ نورًا من رمادِ الذكريات، تقولُ: "الظلامُ ليس عدوكَ، بل عيناكَ اللتانِ ترفضانِ أن تعتادا العمى".
زرتُ قبورَ الأحرارِ في منتصفِ الليل. الأمواتُ هنا لا يحتاجونَ شموعًا، فقلوبُهم ما زالتْ تشتعلُ كشموسٍ سوداء. همسَ لي أحدهم: "لا تبحثْ عن خلاصٍ، اخترعْهُ! فالسماءُ التي تنتظرُ صلواتنا هي نفسُها التي أمطرتْ رصاصًا على مظلّتنا". لا شيء يستحق الاحتفاء سوى موتٍ نظيف، موتٍ لا تلاحقه ديون، ولا دماء، ولا ظلم للأقربين. فموت العظماء، هو نهاية الطهارة في هذا العالم. وقد تركتُ لهم الدنيا عن وعي، لأنهم أوضع من الوضاعة، أرخص من العهر، وأحط من تراب زريبة البهائم.
اليوم، قررتُ أن أكون إعصارًا. سأجرفُ كلَّ أسوارِ السجونِ بيديّ العاريتين، وأكتبُ اسمي على جبينِ العاصفة: "لستُ ضحيّةً.. أنا الكارثةُ التي انتظرها الظالمونَ طويلًا".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة