كل ما رش منك الندى جمرة، قربت موقدا ..... ان سرقة المتحف ليست حدثا سياسيا عابرا سيسقط بالتقادم، انما مراة تعكس الفشل السياسي المتراكم، الذي بلغ ذروته في هذه الحرب المتخلفة. ان اسباب الانحطاط السياسي المتوارث منذ قيام الدولة الوطنية، يمكن حصرها في قضيتين لا ثالث لهما، غياب التنمية المستدامة والوحدة الوطنية، والقاسم المشترك بينهما هو التراث الثقافي المادي الذي اضعنا. يسمح الانتماء الى المكان وتاريخه بتعزيز الثقة في الذات البشرية وهي اساس التنمية التي تشعر المواطن بالامن والشراكة في بناء المستقبل، وفي غياب الوحدة الوطنية التي تعترف بالتنوع ستصبح الدولة هشة قابلة للتفكك عند اول ضربة كما هو الحال الان. فلنعترف بان الحرب الحالية ليست وليدة خلاف اني، بل نتيجة لسنوات طويلة من تاجيل الاسئلة الحقيقية، والانحراف بالوعي الوطني. الكارثة الكبرى ان نهب المتحف القومي الذي لا يحتمل التناسي قد فضح زيف الشعارات المرفوعة. كيف يمكن لحرب يقال انها من اجل الكرامة ان تقف صامتة امام اهانة الذاكرة؟ واي ديمقراطية تلك التي لا تبدا بالاعتراف بتاريخ الشعب وحماية ارثه؟ في خضم كل ذلك يطرح سؤال رئيسي من يحمي هوية السودان؟ الدولةغائبة، منهارة وربما لها اولويات اخر. النخبة الثقافية اما صامتة او منهكة. وحده الشعب المنسي والمغييب و المستغل لا يزال يحمل في وجدانه هذه الهوية، التي تجلت عندما هتف الشعب باسم تهارقا. فلنتذكر ان القطع المسروقة لم تكن مجرد مقتنيات محفوظة خلف الزجاج، انها قصتنا الممتدة منذ 300 الف سنة مضت وحتى دولة سنار. هي الحلقات التي تروي تاريخ الانسان في هذا المكان كيف عاش ، وكيف امن، وكيف بنى حضارته. هذه المجاميع المتحفية هي ثمرة جهد علمي بدا منذ الفترة الاستعمارية، وما زال مستمرا حتى اليوم، شاركت فيه بعثات من كبريات الجامعات والمتاحف العالمية ، وتعاونت فيه العقول السودانية مع نخبة من الباحثين والخبراء الدوليين في عمل دؤوب طويل النفس دقيق وصادق. وربما لا تعلم ايها السارق، ان كل ما غدرت به موثق بعناية في السجل الاثاري الوطني، ومعلوم موقعة وتاريخه ووصفه ورقمه المتحفي لكل من له صلة بحقول المعرفة والمتاحف في العالم. فما سرق ليس مجهولا ولن يمحى بل هو حاضر في ارشيفات الحضارة ولا يليق به ان يباع في سوق مظلم. رسالتنا الى الدولة، نقولها بكل وضوح ان الهيئة العامة للاثار والمتاحف كانت الجسر الوحيد الذي ربط السودان بالعالم، حين انقطع كل شي، كانت الوجه الذي لم يخجل من تاريخه، والصوت الذي لم يصمت في عزلة السياسة. رفعت راس هذا البلد عاليا في زمن النشوز والانكفاء والانكسار. وان كانت هذه الحرب قد انهكت اجسادنا ومزقت نسيجنا، فان راحتنا ورقعتنا الوحيدة التي نلتحف بها هي اثارنا. سنستردها قطعة قطعة رغم جهلكم وتجاهلكم يا ايها العابرون على وطن.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة