هذه المقولة للفيلسوف والمفكر السوداني أبو القاسم حاج حمد تُلخِّص رؤية نقدية عميقة لطبيعة انتقال السلطة في السودان بعد الاستقلال (1956)، وتكشف عن إشكالية تأسيس الدولة الوطنية في ظل غياب مشروع تحرُّري حقيقي، واستمرار هيمنة البنى الاستعمارية. إليك تفصيلًا لفهم هذه الفكرة:
السياق التاريخي: البريطانيون "المُنهَكُون" ما معنى "إنجلترا المنهكة"؟ يشير إلى حالة الضعف التي عانت منها بريطانيا بعد الحرب العالمية الثانية (1939–1945)، حيث خرجت مُثقلة بالديون، وفقدت قدرتها على الإمساك بزمام مستعمراتها، فبدأت في منح الاستقلال الشكلي لدول مثل السودان، مع الحفاظ على مصالحها عبر نخب محلية موالية.
مثال: اتفاقية 1953 بين مصر وبريطانيا لتقرير مصير السودان، والتي أُجريت في ظل توازنات إقليمية ودولية، لا إرادة شعبية سودانية خالصة.
الاستقلال "المُعطى" لا "المُنتزَع": لم تكن ثورة مسلحة أو حركة تحرر شعبية واسعة هي من أنهت الاستعمار، بل تسوية سياسية بين القوى الكبرى (بريطانيا ومصر)، مما سمح لـنخب سودانية – شُكِّلت في أحضان النظام الاستعماري – بالوصول إلى السلطة دون قطيعة جذرية مع الموروث الاستعماري.
طبيعة النخب السودانية: وريثة الاستعمار لا مناهضته النخبة "المُتعلمة" على النمط الاستعماري:
تلقَّى أفراد هذه النخب تعليمًا غربيًا (مثل خريجي كلية غوردون التذكارية)، وتولوا مناصب إدارية تحت الحكم البريطاني، فحافظوا على هياكل الدولة الاستعمارية (كالبيروقراطية والعسكرية) دون تطويرها لخدمة مشروع وطني.
مثال: استمرار النظام الإداري البريطاني (المركزية الشديدة) بعد الاستقلال.
الانقسامات الداخلية:
انقسمت النخب إلى أحزاب تُعبِّر عن مصالح جهوية أو طائفية (مثل حزب الأمة المرتبط بالطريقة المهدية، والحزب الاتحادي المرتبط بالختمية)، مما أفقد الدولة القدرة على بناء هوية جامعة.
الصراع بين "الأنصار" و"الختمية" حوَّل السياسة إلى معارك شخصانية، بدلًا من صراع أيديولوجي حول مستقبل الدولة.
التبعية الاقتصادية:
حافظت النخب على الاقتصاد الاستخراجي (مشروع الجزيرة للقطن كمثال)، دون تطوير بنية صناعية أو زراعية مستقلة، مما جعل السودان ساحة لتنافس القوى الدولية على موارده.
عواقب وصول النخب "المنفصلة عن الشعب": غياب الشرعية الثورية: لم تُبنَ شرعية الحكم على أساس إنجازات وطنية (كتحرير الأرض أو تحقيق العدالة الاجتماعية)، بل على التحالفات القبلية والدينية، مما سهَّل انقلابات العسكر (مثل انقلاب عبود 1958).
استمرار التمركز حول المركز: تجاهلت النخب الحاكمة مطالب الأطراف (دارفور، جنوب السودان، شرق السودان)، مما أدى إلى تمردات مسلحة وانفصال الجنوب في 2011.
الدولة كـ"غنيمة": تحوَّلت مؤسسات الدولة إلى أدوات لخدمة مصالح فئوية، عبر المحسوبية والفساد، بدلًا أن تكون أداة لتحقيق التنمية.
رؤية أبو القاسم حاج حمد: النقد الجذري للحداثة الوهمية يرى حاج حمد أن النخب السودانية تبنَّت "حداثة مزيفة" – تقليدًا شكليًا للغرب دون فهمٍ لروح الحداثة الحقيقية القائمة على العقلانية والعدالة – مما أدى إلى:
استنساخ النظام الاستعماري تحت شعارات وطنية.
فشل في بناء مشروع حضاري يُجيب عن أسئلة الهوية والتنمية.
تحوُّل الصراع السياسي إلى مباراة على السلطة، لا معركة فكرية من أجل المستقبل.
هل ما زالت المقولة صالحة لفهم أزمات السودان اليوم؟ نعم! فالأزمة الحالية (الحرب بين الجيش والدعم السريع، وتفكك الدولة) هي نتاج تراكمات ذلك الإرث:
العسكر كامتداد للنخب القديمة: ما زال الجيش السوداني – رغم شعارات الثورة – يحمل نفس العقلية الأمنية الاستعمارية، ويعامل السلطة كـ"ميراث".
الحركات المسلحة كرد فعل على التهميش: ظهور قوات الدعم السريع يعكس فشل النخب في إدماج الأطراف في المشروع الوطني.
التدخلات الخارجية: سهَّل غياب المشروع الوطني تدخل دول مثل الإمارات وروسيا ومصر لاستغلال الفراغ.
الخلاصة: السودان بحاجة إلى "نخب جديدة" لا إلى "تغيير النخب" المطلوب ليس إعادة تدوير النخب القديمة تحت شعارات ثورية، بل تفكيك النظام السياسي – الاقتصادي – الثقافي الذي أنتجها، وبناء عقد اجتماعي جديد يقوم على:
العدالة الجغرافية (إنهاء مركزية الخرطوم).
اقتصاد منتج (بدلًا من اقتصاد الريع).
هوية جامعة تُعترف فيها بالتنوع الثقافي والديني.
كما قال حاج حمد: «المشكلة ليست في من يحكم، بل في طبيعة النظام الذي يَحكُم».
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة