|
Re: تذكرة عودة (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
** لم يكن لقاؤنا به صدفة كما كنا نظن، فكل شيء وفق ترتيب إلهي: الزمالة، ثم التعارف، ثم الصداقة، والثقة حتى الغضب، والشك، وسوء الظن المتبادل. فنحن في النهاية بشر. جئتُ للعمل معهم في تلك المؤسسة وكان له في تلك المدينة الخليجية حوالي الخمسة عشر عاما. كان وقتها في حوالي الأربعين من العمر. كان اسمه في البطاقة "شيخ رؤوف"، ولكن للإيجاز يُطلق عليه اسم "رؤوف" فقط. كان الجزء الأول من اسمه:(شيخ) مثير للتساؤل هذا المجتمع الخليجي، فهذا الاسم يحمل في الخليج معانٍ وإحالات مبجلَّة لا تتوفر إلا لقلة، ولا تتوفر له هو بطبيعة الحال. بالتأكيد هو يعجبه هذا اللقب ، ولربما كان يزهو به في قريته. فالانتماء للثقافة الإسلامية إرث مقدس في منطقتهم وفي ولاية كيرلا كلها. كان كثيرا ما يسرح ويتذكر قريته وتفاصيل الحياة فيها.
عندما نتهلل ونبارك لبعضنا نزول المطر كما يفعل أهل البلد، كان هو يضحك هازئا فشتان ما بين المطر هنا والمطر عندهم هناك. عندما تواتيه الفرصة فسحة من الوقت يرينا صور للمطر الصيفي في بلده. كان أحيانا يحكي ويسترسل كيف يهطل المطر مدراراً كأفواه القِرَب، وكيف تستجير الطيور بأعشاشها في قمم الأشجار السوامق. وأحيانا عندما يكون في مزاج رائق يحكي تفاصيل أخرى عن حياتهم في القرية. فيحكي عن جلسات المساء الندية مع أصدقائه، و هم يحتسون الشاي مع خبز البُراتا، وقطع الدجاج المبهرة، وكرات البطاطس المحشوة. وأحيانا يحكي عن طفولتهم وكيف كانوا يلهون وهم يجرون خلف الفراشات الملونة وهي تلثم لؤلؤ الندى من أوراق الزهر وكيف يحصلون على العسل بعد ما يطردون النحل. كنت أقول له مداعبا كيف تلاشى شوقُك الذي تزعم للمطر الصيفي، والسحب الخطاطيف الطوال وأصوات العصافير في قمم الأشجار السامقة والفراشات الملونة والندى الصباحي؟ وكيف أنساك عيشك هنا في الخليج كل ذلك؟ فيكتفي هو بابتسامة هازئة تعقبها تنهيدة عميقة حزينة، دون أن يتكلم.
***
| |
 
|
|
|
|
|
|
Re: تذكرة عودة (Re: محمد عبد الله الحسين)
|
(ولا تدري نفس بأي أرض تموت). جاء رؤوف للخليج في بواكير عمره مع بريق ووهج الهجرة للخليج التي داعبت أحلام كل الشباب وقتذاك. جاء وهو يُمنِّي نفسه بالعمل بضع سنوات ليكوِّن نفسه ثم يعود إلى قريته ليعيش وسط أسرته. ولكن تمر الأيام والسنون، لتطول إقامته في الخليج لأكثر من أربعين عاما. فما كان قد تمناه و خطط له كان حلما بل سرابا يتراجع لؤم وخبث كل ظن انه اقترب منه. نعم الجميع تقريبا وقع في نفس الفخ يا رؤوف، فهناك واقعٌ آخر. فالمرتبات مصممة بخبث مرصود لتظل تعطي سنوات بل عقود دون أن تتمكن من العودة السريعة. نعم يا رؤوف هناك واقعٌ آخر لا علاقة له بالحلم، واقع يمتص بلا رحمة، الجهد والعمر، مقابل مبالغ لا تكفي الاحتياجات إلا قليلا، دعك من أنها تحقق الحلم. ذلك واقع شرحه يطول واقع يفقد فيه الجميع أعزاءهم دون أن يلقوا عليهم نظرة الوداع الأخيرة. وهناك من يفقد كل ذلك ويفقد كذلك أن يحتويه تراب بلده. كان رؤوف يهدده من حين لآخر هاجس وجودي ثقيل وهو أن يدفن بعيدا عن وطنه أو يعود إليه في صندوق. قصة رؤوف تقف كمثال شاهد لمغتربين كُثر. كانت متطلبات الأسرة تتضاعف عليه يوما بعد يوم والعمر يتناقص عاما بعد عام والحلم يتراجع ومساحة الأسى تزداد في النفس مع كل صباح. شروط العمل والرواتب مُعَدَّة بحيث تمتص عمرك وطاقاتك وجهدك قطرة فقطرة إلى أن تصل إلى أرذل العمر أو قبل ذلك قليلا. فلا غرابة إذن أن ظل رؤوف في الأسر مقيما ردحا من الزمنٍ طويل. تعلمنا من حالة رؤوف أن الاغتراب ليس اختيارا كما يبدو بل هو قيدٌ لا تتبين ملامحه إلا حين يدركك السأم من الغربة أو من سوء المعاملة، أو حين ترغب في اللحاق بمن تبقوا على قيد الحياة لتنعم بباقي العمر بينهم ومعهم. نعم الغربة اختيار إجباري، فهو كالحبل المرخي كما وصف طرفة ابن العبد الموت.: (لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى لَكَالـطِّـوَلِ المرخـى وثِنْيَاهُ باليـد(- أي الموت كالحبل المرخي ولكنه طرفاه ممسوكا بيدٍ غير ظاهرة). جاء رؤوف إلى الخليج ليعمل في بادئ الأمر عاملا في مقهى، ثم نادلا في فندق، وأخيرا انتهى به الحال ليعمل في هذه المؤسسة الحكومية الكبيرة، نادلا ليقدم القهوة والشاي. قضى رؤوف السنوات الأولى بغرض تكوين نفسه. ثم تزوج بعد بضعة سنوات. انتهى شهر العسل وعاد سريعاً وهو يحمل مسئولية أسرة جديدة وأفراد جدد. مرت الأعوام ولم تعد الأمور كما كانت، فقد صار مسئولا عن إعالة أربعة أفراد إضافيين بالإضافة إلى عائلته الكبيرة. جرت مياه كثيرة تحت الجسر ولم يعد الخليج هو الخليج ولا أسرته هي الأسرة، فقد كبر الأبناء وأدخِلوا المدارس وزادت الأعباء.
| |
 
|
|
|
|
|
|
|