تمر الحركة الإسلامية السودانية بمرحلة حرجة تُعَدُّ الأصعب في تاريخها، إذ كشف مؤتمرها الأخير الذي عُقِدَ في تركيا بعيداً عن الأضواء عن تحوُّلات عميقة في بنيتها التنظيمية والفكرية، ما يطرح تساؤلاتٍ حول مصيرها ككيان سياسي مؤثر بعد ثلاثة عقود من الهيمنة على السلطة.
مؤتمر السرية: انكماشٌ عائلي وغياب الرؤية لم يكن مؤتمر تركيا مجرد لقاء روتيني، بل مثّل إعلاناً ضمنياً عن تحوُّل الحركة من تنظيم جماهيري إلى شبكة مصالح ضيقة، يهيمن عليها الأمنيون ورجال الأعمال وعائلات القيادات الهاربة من الملاحقة عقب سقوط نظام البشير. وقد لفت انعقاد المؤتمر تحت غطاء السرية، وبحضور 412 مشاركاً (بينهم 122 امرأة و30 طالباً)، الانتباه إلى تضاؤل القاعدة الجماهيرية التي كانت تُشكِّل مصدر قوّة الحركة، خاصة في أوساط الطلاب الذين تحوّلوا من رافعة تجنيدية إلى حضور شرفي.
صراعات الهيمنة: أمنيون ضد ماليين كشف المؤتمر عن انقساماتٍ حادّة، أبرزها الصراع على منصب الأمين العام بين محمد عطا (الجناح الأمني المدعوم من أحمد هارون) وأحمد الشايقي (تيار رجال المال المرتبط بعلي كرتي). فوز عطا، المدير الأسبق للأمن، يعكس هيمنة الأجنحة الأمنية التي تُراكم تحالفاتها مع كتائب مسلحة، لكنه يكرّس أيضاً عزلة الحركة دولياً، خاصة مع وجود عطا على قوائم العقوبات الأمريكية. وهذا الاختيار يُظهر إصرار القيادات على نهج المواجهة بدلاً من المراجعة الفكرية، رغم إدراكها أن شبح الملاحقة القانونية يطارد معظم الحاضرين، الذين يُوصَفون بـ"أثرياء النظام البائد".
الخلاف الاستراتيجي: تحالف مع الجيش أم مواجهته؟ انقسام المؤتمر حول العلاقة مع الجيش السوداني كان بمثابة اختبارٍ لتماسك الحركة. فبينما يرى فريقٌ أن التحالف مع قائد الجيش البرهان ضرورة لاستعادة النفوذ، يعتبر آخرون – بقيادة عبدالحي يوسف – أن الجيش "عدو رئيسي"، في مؤشرٍ على غياب الرؤية الموحدة للتعامل مع المشهد السياسي المتغيّر. هذا الجدل يعكس أزمة وجودية للحركة التي فقدت أدواتها التقليدية للهيمنة، مثل السيطرة على الدولة وأجهزتها الأمنية.
مآلات التردي: من الانتحار السياسي إلى التفكك باتت الحركة أشبه بتحالف هشٍّ بين كيانات متنافرة: رجال أمن سابقين يبحثون عن حماية من الملاحقة، ورجال أعمال يسعون لحفظ مصالحهم، وعائلات قيادات تحوّلت إلى لوبي داخلي. غياب المثقفين والمفكّرين عن المشهد – بعد أن كانوا واجهتها في تسعينيات القرن الماضي – يُؤكِّد تحوّلها إلى "مافيا مصالح" بعيدة عن المشروع السياسي. والأخطر أن خياراتها الراهنة، مثل التعويل على الكتائب المسلحة، قد تدفعها نحو صراعاتٍ دموية مع بعضها بعد انتهاء المعركة الحالية، خاصة مع تنامي الخلافات بين كتائب إبراهيم محمود وأحمد هارون.
نهاية حقبة أم بداية انتحار؟ يُشكِّل مؤتمر تركيا إشارةً على أن الحركة الإسلامية السودانية تخوض معركة بقاء وجودية. فبعد أن أدارت الدولة لعقود، تعجز اليوم عن تقديم رؤيةٍ حتى لأعضها، وتستبدل المشروع السياسي بصراعات الزعامات. صمودها المراهن على القوة الأمنية والمال الفاسد قد يؤخر سقوطها، لكنه يحوّلها إلى "ظلّ" لنظامها السابق، في مشهدٍ يُذكِّر بمصير الإخوان المسلمين في دولٍ عربية أُخرَى. السؤال الآن: هل يكون هذا المؤتمر بداية النهاية لتنظيمٍ لم يعد قادراً على اختراع ذاته من جديد؟
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
زهير ابو الزهراء
فيس بوك
تويتر
انستقرام
يوتيوب
بنتيريست