منذ اندلاع الحرب في السودان، كنت أعتقد – ولو بشيء من التفاؤل الحذر – أن نخبنا السياسية قد تعلمت من دروس الماضي، وأنها ستقف، ولو لمرة واحدة، موقفًا مبدئيًا يُعلي من شأن الوطن فوق المصالح الضيقة. لكن سرعان ما تلاشى هذا الأمل، وسقطت الأقنعة، ليكشف المشهد عن واقع مرير، لا جديد فيه سوى تواريخ الأحداث وأسماء الفاعلين.
لقد كانت صدمتي بالغة حين رأيت سياسيين، يُفترض أنهم يمثلون القوى المدنية، يتسابقون إلى التحالف مع طرفي الحرب، وكأن الدماء التي تُراق ليست سببًا كافيًا لأن يراجعوا حساباتهم. ما كان يجب أن يكون خيارهم الوحيد هو إعلاء لغة الحوار، فإذا بهم يختارون السلاح وسيلةً للتفاوض، لا من أجل إنهاء الحرب، بل من أجل ضمان حظوتهم في ما بعد الحرب. أي رجال هؤلاء؟
إنه لأمر مفجع أن يصبح الطموح السياسي مجرد سباق نحو المناصب، لا مشروعًا وطنيًا يسعى إلى بناء الدولة. نراهم اليوم يتسابقون إلى أبواب العسكر، يقفون هناك في انتظار فتات الموائد، تمامًا كما فعل أسلافهم منذ الاستقلال. يتكرر المشهد ذاته: زعامات تدّعي تمثيل الجماهير، لكنها في الحقيقة تبحث عن نصيبها في السلطة، لا عن حل لأزمات البلاد.
وقل إن مرد ذلك كله أن من يشتغل بالسياسة في بلدي ليسوا رجال دولة، ولا ساسة بالمعنى الحقيقي، بل سفهاء يجمعهم الطمع في الكسب المادي والحضور الإعلامي. لا يحركهم واجب أخلاقي، ولا رؤية وطنية، بل شهوة التربح والظهور، حتى لو كان الثمن هو مزيد من الخراب والتشرذم.
مأساة السياسة السودانية ليست في غياب الكفاءات، بل في افتقارها إلى الاستقلالية والمبدئية. لم يكن يومًا منطق الدولة هو المحرك الأساسي، بل حسابات الربح والخسارة، والمناورات التي لا تخدم إلا أصحابها. وإلا فكيف نفسر هذا الضعف الكامل أمام الطموحات الشخصية؟ كيف نفسر هذا العجز عن تجاوز المصالح الفئوية نحو بناء رؤية وطنية جامعة؟
لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح: ما لم تتحرر النخب السياسية من ارتهانها للعسكر، وما لم تدرك أن الدولة لا تُبنى بالسلاح، بل بالمؤسسات، فإن الدائرة ستستمر في الدوران. وستظل البلاد تدفع الثمن، فيما يتكرر المشهد ذاته، بأسماء مختلفة، ولكن بالخيبة نفسها.
02-16-2025, 11:27 PM
Nasr Nasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11355
Quote: لقد آن الأوان أن نقولها بوضوح: ما لم تتحرر النخب السياسية من ارتهانها للعسكر، وما لم تدرك أن الدولة لا تُبنى بالسلاح، بل بالمؤسسات، فإن الدائرة ستستمر في الدوران. وستظل البلاد تدفع الثمن
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة