آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنحويد صلاحيتها!!؟.

مرحبا Guest
اخر زيارك لك: 06-15-2025, 11:15 PM الصفحة الرئيسية

منتديات سودانيزاونلاين    مكتبة الفساد    ابحث    اخبار و بيانات    مواضيع توثيقية    منبر الشعبية    اراء حرة و مقالات    مدخل أرشيف اراء حرة و مقالات   
News and Press Releases    اتصل بنا    Articles and Views    English Forum    ناس الزقازيق   
المنبر العام
نسخة قابلة للطباعة من الموضوع   ارسل الموضوع لصديق   اقرا المشاركات فى شكل سلسلة « | »
اقرا احدث مداخلة فى هذا الموضوع »
02-05-2025, 08:54 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنحويد صلاحيتها!!؟.

    07:54 PM February, 05 2025

    سودانيز اون لاين
    صهيب حامد-
    مكتبتى
    رابط مختصر



    آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!! ؟. (١-١٢)

    صهيب حامد

    هل كان للإصلاح الذي قام به المعتزلة في القرن الثاني الهجري دور في الإعتراف بحقوق العقل في التفحص الحر لمفهوم النص؟. نعم.. فلقد إستطاعوا زعزعة الأستاذية العقائدية للمذهب الأشعري دون الخروج من الإطار الخاص بالوحي. إذن وما المانع من الإعتراف بحق ممارسة العقل السوداني لصلاحياته في نقد الإستاذية الإجتماعية للمركزية العروبية في السودان دون الخروج من الإطار الوجودي لمفهوم الوطن الواحد؟. خصوصا وأن من ضمن ما هشمه الجنحويد إلى جانب ما هشموه من حرث ونسل وأبنية وصروح وآثار تاريخية وأراشيف نادرة ، قد هشموا كثور في مستودع الخزف قاعدة الحكم التي كانوا يتشاركونها مع المركز العروبي النيلي مثلهم مثل صاروخ فضائي يدمر القاعدة التي ينطلق منها فيتركها أثرا بعد عين. لقد إكتشفت حواضن الجنحويد بعد تعرفها على المركز الخليجي وإحتكاكها به إبان حرب اليمن منذ العام ٢٠١٦ أن هذا الأخير أكثر أصالة في المضمار العروبي من شركائهم في المركز العروبي السوداني ، كما إكتشفوا أن المركز الخليجي منطقا وموضوعا يمثل مركزالثقل العروبي وأن شركائهم السابقين يقعون لدى طرف هذا الثقل وهم الذين سئموا (أي الجنحويد) أن يكونوا طرفا لمركز يعتقدون أنهم أكثر عروبة منه وهي دوامة عاشوها منذ الإستقلال والي اليوم. فالاوجب إن صرت كلب صيد فلتكن كلبا دلماسيا مترفا لسيد متلاف بدلا من أن تكون كلب راع تمنح يوم وتمنع أيام !!!. إذن هل إكتشفنا لتوّنا أننا أصبحنا كنملة أحبت جملا فقادته إلى بيتها وحين حاول الدخول حطّمه عليها ، وكذلك هو حال الهويات الوطنية إن صارت أكبر من مقاس الوطن فسوف يستظل بها سرّاق الهويات العابرة للحدود، كسحابة تستجمعها لزرعك فتمطر في زرع جارك وانتم لها ناظرون!!!.

    إن السودان الحالي هو نتاج إستدماج محورين إجتماعيين سياسيين منذ العام ١٨٧٤ حين ضم الزبير ود رحمة دارفور للسودان التركي.. محور الفونج الممتد على طول الشريط النيلي للسودان الحالي منذ ١٥٠٤ إنطلاقا من سنار ، ومحور الفور الذي يشمل دارفور الحالية والتي تأسست في ١٦٤٠م. إذن بعد الإستدماج ظهر السودان الذي نعرفه اليوم. ولكن من يد فلقد سيطرت القوى الإجتماعية لمحور الفونج (وهي القوى التي تمثل المركز العروبي) على مجال السلطة والسياسة في المراحل المختلفة للدولة السودانية (عدا المهدية) َوهو الأمر الذي إستمر إلى يوم الناس هذا. ولكي نتمكن من سبر وتتبع عملية ممارسة السياسة والسلطة في بلادنا توجب علينا السير في حقل من الألغام إذ يعاني منهج كتابة تاريخ الممالك الوسيطة في السودان من مأزق بالغ لإعتماده على المصادر الشفاهية التي نقلت للأجيال الحديثة من السودانيين ما دار في ثنايا الثلاثة قرون التي عاشتهما السلطنتان (الفور والفونج) ، إذ لم تتجاوز هذه الروايات سوى أن تكون وعاءا إسطوريا لإسقاط قصص البطولة والشرف والأرومة لرواتها أو أسلافهم ، فليس من مصادر سودانية مكتوبة لهذه الحقبة إلا كتابي الطبقات (طبقات ود ضيف الله) و (تاريخ سنار) أو ما يعرف بمخطوطة كاتب الشونة (أحمد بن محمد أبو علي) والذي عاش في العهد التركي. ظهر إبتداءا من ستينيات القرن الماضي تيار جديد في دراسة (السودانيات) إنطلاقا من جامعة الخرطوم، وهو إهتمام كان على رأسه أكاديميون أجانب عملوا هناك منهم جاي إسبولينق وبروفسير دالي ود. تيم نبلوك ود.هولت وأوفاهي ويمكن إضافة بروفسير يوسف فضل للقائمة. وعبر النبش الذي مارسه هؤلاء برزت مصادر غاية في الأهمية تغافلتها المدرسة السابقة لممالك العصر الوسيط في السودان التي إرتادها مكي شبيكة ومن قبله المصري محمد عوض محمد. هنا تمت الترجمة للعربية أو إعادة طباعة كتب الرحالة الألمان والأمريكان والإنجليز والفرنسيين والروس والإيطاليين والمبشرين الفرانسسيكان والجزويت من أمثال داؤود روبيني وكايو وبونسيه وجيمس بروس وثيودوركرومب وجون لويس بيركهارت وناختقال وإليساندرو تريوليزي الي جانب الرحالة التركي ألبا شلبي ومحمد بن عمر التونسي. عبر ذلك برز الهرم الضخم من المادة التاريخية التي أجْلت عديد الجوانب الخفية في تاريخ هذه الممالك خاصة الفونج والفور.

    في محاضرة شهيرة قبل خمسة أعوام في جامعة هارفارد قال المفكر السنغافوري من أصول هندية المعروف بروفسير كيشور مهبوباني أن ما يخشى منه الغرب بخصوص الصين هو الحزب الشيوعي المعرف هناك بمختصره (CCP) أي (Chinese communist party) ،ويستطرد محبوباني أن ما فات على الغرب هو أن هذا الحزب قد صار يمثل أكثر من ذلك بعكس وضعه إبان الثورة الثقافية في الستينيات حين كانت النخبة الشيوعية في الصين آنذاك تعد الإرث الحضاري والثقافي الصيني كعدو للتطور صوب الشيوعية فدمّر الحرس الأحمر النصب الثقافية والمعالم الحضارية لعهد السلالات السابقة مثل تشينغ ومينغ ويوان وتانج َوغيرها، ولكن منذ ١٩٧٨ تغير مسار الصين على يد دينق شياو بينغ الذي حوّل الحزب الشيوعي كمندوب لتحقيق الهوية الصينية وممثل لحضارتها التي عمرت في تاريخ متصل ومكتوب لما يقرب إلي ٧ الف سنة. يقول مهبوباني أي أن هذا المختصر (CCP) قد صار يعني (chinese civilization party) بالعربية حزب الحضارة الصينية بدلا عن الحزب الشيوعي الصيني. وكذلك نحن في السودان فحين نتحدث عن الإسلام والعروبة يتوجب أن نتفهم أي معنى نتقصد وأي رهانات نعنيها بالعروبة والإسلام في فضائنا الحضاري والثقافي ، وقطعا ما من معنى جوهراني واحد لهذين المفهومين يمكن تطبيقه علي إندونيسيا كبلد مسلم (مثلا) وكذلك بنفس الطريقة على ماليزيا وبنفس الطريقة على مصر وبنفس الطريقة على نيجيريا وهكذا إلى آخره. فالإسلام والعروبة كقيمة لهما إسقاطات مختلفة بإختلاف البيئة الثقافية والحضارية التي تحتويهما، فالعلوم الإنسانية الحديثة في تطورها تعلمنا الكثير عن مكر الشعوب وكيفية توظيفها للقيم والأفكار والأديان في صراعاتها وجدلها الداخلي أو لتجاوز إشكالياتها التاريخية. وكذلك فإن مفهومتي العروبة والإسلام في السودان قد مرتا بالكثافة الوجودية لخصوصيتنا التي لم تتركهما في نصاعتهما التدشينية الأولي (Any more). بالقطع لقد تم إستخدام كل من الإسلام والعروبة على طوال تاريخنا منذ دخولهما السودان ك(أدلوجات) في يد بعض القوى الإجتماعية للتوظيف السياسي والإجتماعي ضد قوى إجتماعية أخرى وكل ذلك في رهانات السيطرة على السلطة بأشكالها المختلفة سياسيا وإجتماعيا وروحيا.

    لذا فإن هذه السلسلة تطمح بالحق والتقوى والقسطاس لتتبع تاريخ التوظيف الآيديولوجي لمفهومة العروبة من قبل بعض القوي الإجتماعية ولأي مدى نجحت في ذلك؟ ، ومن ثم ما هي المضاعفات السياسية والاجتماعية لهذه الحرب الدائرة اليوم في بلادنا وكيف أدت لتشظي قاعدة الحكم التي شكلها المركز العروبي النيلي بالشراكة مع المكون الرعوي العروبي في الأطراف منذ الاستقلال والي اندلاع هذه الحرب في ١٥ أبريل ٢٠٢٣ ؟. وقبل ذلك فلنتفق على معنى لمصطلح (الآيديولوجية) ،وبالطبع هو مصطح مشكل (problematique) إبتداءا من تعريفه بالوعي الخاطئ لدى هيجل أو الوعي الزماني للرؤية المعرفية المحضة (Temporal) عند آخرين، ولكننا هنا نستخدمه بمعنى متفق حوله وهو إستخدام الفكر المحض ك (مدية) أو سلاح في الصراع السياسي والإجتماعي لتحقيق أهداف المجموعات التي تستخدمه أو توظفه. مثلا الآيديولوجية المعتزلية هي الإسلام محورا كما يراه المعتزلة وليس الإسلام الحق. إذن من هنا سوف ننطلق لنبدأ حفرياتنا لتشمل ممالك السودان الوسيط (الفونج والفور) لنعلم كيف تم إستخدام مفهومة العروبة لدىهما مرورا بالحكم التركي وإلي المهدية. ومن ثم ندلف لنعلم كيف إستخدمها الحكم الثنائي، وإي معنى إتخذته (أي مفهومة العروبة) في مفهوم الحركة الوطنية في السودان من ما قبل الاستقلال وإلى اليوم. وما هي علاقة ذلك بالنتيجة الكائنة بين أيدينا في هذه اللحظة ونحن كسودانيين محاصرين وسط قعقعة البنادق.. كي نعلم هل كنا ضمن كل ذلك ضحايا أم جناة!!!..نواصل






                  

02-05-2025, 09:00 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكّلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها. (٢-١٠)🛑

    ✒️ صهيب حامد

    جذور الآيديولوجية العروبية عندالفونج:

    إن أهم درس في حقبة الممالك الوسيطة والذي َ سوف يلهمنا كثيرا في منهجية تتبع تشكل آيديولوجية المركز العروبي في السودان ،أقول أهم درس هو كيفية إزدهار وإنهيار آيديولوجية الأسرة الفنجية الحاكمة (الأونساب). لقد حكمت هذه الأسرة منذ ١٥٠٤ انطلاقا من البلاط السناري كل المجال من فازغلي إلى دنقلا و من التاكا وسواكن والي كردفان مقيمة شبكة من العلاقات الإجتماعية التي تفسر صمودها لأكثر من ثلاثة قرون متغلبة علي كافة التحديات التي كادت أن تعصف بها في كثير من المنعطفات.
    لم يدرك الكثيرون وإلى اليوم أسباب قوة دولة الفونج وكيف أنها إستطاعت أن تعيش كل هذه الحقبة ، وكيف أنها إستطاعت بموهبة لا تنئ تشكيل نخبة حاكمة إستغرقت كافة ألوان الطيف الإجتماعي بالمملكة متحولة إلى ما يمكننا تسميته (بالأرثودكسية الإجتماعية) في الفضاء الجغرافي الذي حكمته أنذاك. في كتابه (عصر البطولة في سنار) يقول جاي اسبولدينق ( فالأكيد أن تنظيما قرابيا يستمد أساسه من النظام الموسى - أي الامومي-قد إنتشر وسط كل قطاعات من تحدثوا اللغة النوبية في السودان النيلي، وقد ألهم هذا النظام النخبة النوبية وأمدها بأسباب القوة والحياة في الفضاء الذي كانت تحتله الممالك النوبية القديمة إبتداءا من نوباتيا الى المغرة وإنتهاءا بعلوة وفي فضاء هذه المملكة الأخيرة عاشت سلطنة الفونج فيما بعد لأكثر من ثلاثة قرون).

    تحكي الأسطورة الفنجية التي ينقلها (كاتب الشونة) في مخطوطته أن حكيما غريبا تدور حوله الكثير من دوائر الغموض قد سيطر على الحكاية الشفاهية الفنجية بعد أن تزوج من إبنة ملك قديم وأنجب منها سلالة صارت محل تقديس وسط الفنج. ورغم أن مفهومة (الحكيم الغريب) هذه لم تقتصر كوعاء رمزي او رمز ثقافي (كما يسميها هولت ويوسف فضل على رواية ابراهيم اسحق في دراسته للسيرة الهلالية) أقول لم تقتصرعلى الفونج فحسب ولكنها تسيطر على كافة ممالك الفضاء السوداني الكبير، فقصة أحمد المعقور مؤسس أسرة الكيرا الحاكمة في دارفور وكذلك الأسرة الحاكمة لدى البني عامر (النابتاب) والأسرة المالكة بَتقلي ، هذه جميعها أساطير تأسيسية تنقل وقع الحافر مع الأسطورة الفنجية مما يعني أن القصة تمتاح من وعاء ثقافي ورمزي كبير !!. تلك هي الأسطورة .. إذن ما هي الحقيقة!!؟. إن الحقيقة التي يمكن توثيقها فهي أن عادات البلاط في سنار قد درجت على وجوب تزويج كل سلطان قبل التتويج ولتوه إمرأة من نسل تلك المرأة والتي يطلق عليها (بنت عين الشمس) وهي من فرع يسميه الفنج الاونساب نسبة لخور أنسبا بإرتيريا وفق الشاطر بصيلي (معالم تاريخ وادي النيل) .. كان ذلك يحدث على الاقل الى 1718 حيث احتفظ كافة سلاطين الفنج بأرومة انتمائهم لفرع أسرة الاونساب من ناحية الأم . حسنا .. يقول الرحالة الالماني ثيودور كرمب ولكي يتم ضمان وريث للعرش من هذه الزيجة السلطانية يعزل العروسان لمدة اربعين يوما حيث يؤمل ان تتمخض عن هذه العزلة إبن ذكر يحسم مسألة خلافة العرش بعد أبيه فيعزل عن أمه ويوضع في معتزل يسمى ب(حوش القواويد ) تحت رعاية شخص ما كبير النفوذ يلقب بمقدم (القواويد). يحرص البلاط السناري أن لا ينجب السلطان أكثر من ذكر واحد من بنت عين الشمس وإن حدث غير ذلك فيساق بقية الإخوة الأشقاء يوم تنصيب السلطان الجديد إلى الإعدام حفاظا على الأمن والإستقرار ويقوم بذلك مقدم القواويد العالي ذكره . بالطبع تحدث بعض الإستثناءات حيث يستطيع أحد الأشقاء الهرب بمساعدة أمه او غيرها كحالة الأمير قريش في 1699 الذي هرب الى الحبشة وصار مهددا لإستقرار السلطنة.

    حسنا ..وهكذا كي نعلم أن أي من سلطان فونجاوي ليس له شقيق من الناحية القانونية حتى وإن وجد ، كما أنه ليس له من عم في الجيل الثاني. وإن كان يتوفر دائما على خال ذي تأثير كبير يلعب أدوارا مهمة إلى جانب أم السلطان . من هنا أتى الدور الركيزي للخال في المجتمعات النيلية وتدخله في تحديد مصير أبناء شقيقته بشكل كبير.ذلك من جانب ولكن من جانب آخر يتدخل مكانيزم آخر يعوض هذه العزلة الملوكية ، فإنه وفي كل الأحوال ولدى تنصيب أي شيخ جديد على أحد أقاليم السلطنة فإنه كذلك يزوج من إحدى قريبات السلطان حتى وإن كان متزوجا من أخريات فتذهب معه الزوجة الجديدة إلى عاصمة الإقليم إلى أن تحبل بمولودها الأول فيؤتى بها إلى بلاط السلطان فتضع حملها (لم تزل عادة ولادة الطفل البكر في بيت جدته سارية إلى اليوم) فإن كان ذكرا تتركه كذلك في حوش معلوم ملحق بالبلاط يسمى بحوش (السواكرة) ، فيتعهد هذا الحوش أمين يسمى بمقدم (السواكرة) وهؤلاء الأخيرين ليسو سوى رهائن ملكيين يتم إستخدامهم وقت الحاجة في الصراع مع البلاطات الإقليمية. أما الزوجة فترجع إلى بلاط زوجها الإقليمي ، وهكذا تحقق هذه السياسة الإحتوائية عدة اهداف.. الأول تنشيئ وريث العرش الاقليمي المستقبلي مع السلطان القادم بعاصمة السلطنة وقد ارتبط به برباط الدم ، أما الهدف الثاني فتخديم قريبة السلطان زوجة الحاكم الإقليمي كجاسوسة تتعهد مصالح السلطان في بلاط زوجها أكثر من حرصها على مصالح هذا الزوج وأخيرا وضع هذا الإبن كرهينة تضمن السلوك الحسن لوالده. هذا الزواج الملوكي من قريبة السلطان كان ساريا في كل بلاطات الأقاليم في قري والقربين وخشم البحر والأليس (الكوة) وكردفان والتاكا والأتبرا وفازغلي ومثاله زواج شاع الدين ود التويم شيخ التاكا من الشكرية من الأميرة االفنجية بياكي وكذلك زواج إبنه نايل من أميرة تدعى بياكي كذلك!!.

    و بذا تتضح اركان النخبة الفنجية وهي تقوم على أساس أموسي (بمصطلح انتروبلوجي) وليس نظاما (أببيسيا). حسنا .. إذن في الواقع أن السلطان الفنجي يؤسس سياسة (للإحتواء) يضمن بها ترابط النخبة الحاكمة سواء في سنار او عواصم الأقاليم كي تنجلي الصورة عن نخبة من النبلاء الحاكمين تتبع لنفس الأسرة السلطانية وتدين لها بالولاء ، ولكن لا يقف الأمر عند مكوك الأقاليم ولكنه يتجاوز ذلك لينسخ هؤلاء المكوك نفس هذا النظام (سياسة الإحتواء) إلى المستويات الأدني في الإقليم ، فيقوم المك بتزويج نساء أسرته إلى أتباعه ومعاونيه في المستوى الأدنى وهو ما تؤكده الوثائق حيث تأكد ممارسة مكوك القربين والأليس لهذا النظام. لقد ذكر الرحالة لويس بيركهارت أنه لدى مروره بشندي في 1818 علم أن ملكها شخص يدعى (نمر) وهو من أسرة عجيب الفونجية وهي الأسرة التي كان يتحدر منها السلطان نفسه. كذلك فإن الأيديولوجية الفونجية كانت تتأسس بالمعنى التيولوجي على تأليه السلطان وإمتلاكه البركة لذا يسمى الكثير من السلاطين ب(بادي)، حيث كان حديث السلطان وهو على الكرسي الرسمي يأخذ شكل القانون كما يقول الرحالة الألماني ثيودور كرمب. إذن فإن الفونج كانت تقوم على نظام فكر (أبستيمة) يستمد منطقه من العادات والتقاليد الإحيائية المحلية ، وكان نظام الفكر أعلاه يضع السلطان في مركز دائرته ومستمدا منه منظومته الروحية الكاملة وهو الأمر الذي منح السلطنة المنعة التي جعلتها تقطع كل هذه المسافة الزمنية التي تمتد منذ مبتدأ القرن السادس عشر إلى لحظة سقوطها في ١٨٢١م. ولكن ومنذ نهاية القرن السابع عشر ومبتدأ الثامن عشر طفرت علامات في فضاء السلطنة أدت لمتغيرات أضعفت قبضة السلطان ودشنت التفتت التدريجي لقوتها في الفضاء الذي سيطرت عليه وهو ما سوف نسهب فيه في الحلقة القادمة.. نواصل.
                  

02-05-2025, 09:02 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٣-١٠)

    صهيب حامد

    وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فإنه ومنذ نهاية القرن السابع عشر ومبتدأ الثامن عشر طفرت علامات في فضاء السلطنة أدت لمتغيرات أضعفت قبضة السلطان ودشنت التفتت التدريجي لقوتها في الفضاء الذي سيطرت عليه. العلامة الأولى ظهور الريال الإسباني، أما العلامة الثانية فهي بروز الصوفية كمؤثر إبتداءا من نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر. يقول تيم نبلوك (صراع السلطة والثروة) أن حركة التجارة في سنار تمحورت حول سلعتين هما الذهب والرقيق ، ولما كان السلطان هو السلطة الوحيدة التي تصدر فرمانات غزو (العبيد) فله حق إمتلاك نصف غنائم الحملة ، وكذلك إلى جانب حقه في إعطاء إذن التنقيب عن الذهب وهو ما يمنحه كذلك نصيب الأسد في االذهب المستخرج . وبذا صار بمكنة السلطان السيطرة على الأسعار عبر التحكم بعرض هاتين السلعتين في السوق. ذلك من جانب أما من يد أخرى فإن السلطان كذلك يتحكم في تجارة القوافل عبر عرف عرض السلع القادمة من الأسواق الخارجية (القاهرة ، جدة ) أولا على السلطان، كذلك لا يحق لأحد عرض تجارته في السوق قبل تجارة السلطان. ولكن ومنذ نهايات القرن السابع عشر الى مطلع القرن الثامن عشر بدأ ظهور التجار الأجانب في السوق السناري من مصريين ومغاربة ويونان وغيرهم وبدخولهم بدأ مظهر من مظاهر الإقتصاد النقدي بتداول (الريال الإسباني) الذي صار أداة تبادل نقدي ثابتة ومضمونة ، وهنا يقول نبلوك أنه ومذاك ضعفت قوة السلطان الاقتصادية بفقدانه السيطرة على السوق عبر التحكم في كمية المعروض من هاتين السلعتين. وهكذا وببروز النخبة التجارية وميولها الإستقلالية نسبيا عن السلطان بدأ تضعضع السلطنة وتفككها. إذن صارت هذه البرجوازية الجديدة طبقة او نخبة موازية لنخبة النبلاء من فرع الاونساب كما يقول إسبولدينق. لقد أسس ذلك لبداية الإقتصاد النقدي في السلطنه ومنه التكوين الجنيني لطبقة التجار البرجوازية وهو ما أشَر لتغير كبير في الأبستيما (نظام الفكر) في المجتمع السناري بحدوده المعروفة.

    أما وقد تضافر مع ذلك تطور خطير آخر حدث في نفس الحقبة وهو بروز الصوفية كقطب لإستقطاب الولاء الروحي لدى رعايا السلطنة بديلا للآيديولوجية الفونجية ، إذن نحن إزاء قطع معرفي (أبستيميولوجي) يعكس كل المسلمات الفكرية والثقافية في ذلك الفضاء.يقول د.محمود الزين إن أكثر ما أهَل الصوفية كي تترقى لتحل محل الآيديولوجية الفونجية منذ مطلع القرن الثامن عشر وصاعدا هو كونها (أي الصوفية) تشتغل كنظام فوق قبلي أسهم في توطيد العلائق بين القبائل الأمر الذي شجع عمليات التصاهر والتزاوج والتضامن بين المجموعات القبلية. يواصل د. الزين قائلا إن الصوفية قد تطورت هكذا لتطبع الثقافة في مملكة الفونج بإتجاه أن تصبح أيديولوجيا لكل الفئات حيث أن شيوخ الطرق الصوفية أخذوا يقومون بدور زعماء العشائر فى فض النزاعات القبلية وصاروا ذوى نفوذ واضح على الشيوخ والسلاطين.

    ثمة عنصر آخر مهم كان له مصلحة في تغيير قواعد اللعبة سياسيا وإجتماعيا في السلطنة وهم الأرابيب. فالأرباب شخص تنتمي أمه لفرع الأونساب ووالد من العامة ، هي بالطبع حالة تحدث كثيرا خاصة حين يكون هنالك فائض كبير من نساء الأسرة يفوق حوجة النبلاء. ومكمن التعقيد أن الأرباب يكون قلقا من واقع أن يصير أبناءه محض أفراد من العامة إن لم يتزوج الأرباب نفسه إمراة من بنات عين الشمس ، خصوصا في أوقات شح وجود نساء مؤهلات للزواج من الأسرة الأم. من هنا كانت تنبع أهمية التسمية على الأم في المجتمع الفونجي تدليلا على الأرومة والأنتماء للنخبة ، حيث لن نجد إلا نادرا في وثائق البلاط من يتسمون على أبائهم ، فالأغلبية الساحقة في وثائق الفنج رجال يتسمون بأسماء أمهاتهم كالملك بادي الثالث الذي عرف بإبن الاودية (يوسف فضل في تحقيقه للطبقات) وكذلك الملك عدلان ود آية (أو آي) الذي حكم في نهاية القرن السابع عشر ، كذلك النبيل الشهير عبدالله ود امنة الاونسابي وكذلك نجد في الوثائق الأرباب محمد ود بنت القويدي والأرباب علي ود عيشة والأرباب محمد ود الكمير وكذلك نجد مالك الضو ود حوة عدا الولي الشهير من القرن السابع عشر إدريس ود الأرباب الذي ركل مبكرا نسبه من ناحية الأم متسميا بلقب أبيه الأرباب محمد من أوائل من سكنوا ضفاف النيل الازرق من المحس في العيلفون (عيلة الفونج). إذن فليس من خيار أمام أبناء الأرابيب إلا التسمية على آبائهم في حال تكون أمهاتهم من العامة لأن الأب هو من يكون أقرب للأرومة الأونسابية وهو الدافع الذي جعل هؤلاء يميلون للنسب العروبي الذي تنتقل فيه المكانة عبر سلسلة الذكور. إذن تضافر عدة عناصر الآن أدت لإضعاف نظام الفكر (الأبستيمة) الذي تأسست عليها الأرستقراطية الفنجية وهي إنتقال السلطنة لنظام الإقتصاد النقدي ثم بروز الصوفية كآيديولوجية فوق قبلية مؤثرة على المجتمع والسلطة ، وأخيرا بروز الأرابيب كمناصرين للدستور العربي الذي يتيح إنتقال الأرومة عبر سلسلة الذكور.

    رجوعا لمذكرات الرحالة جيمس بروس ففي ١٧١٨م قام الخال نول بالإنقلاب على إبن أخته السلطان القاصر أونسة بن بادي الأحمر (برواية الشاطر بصيلي) ونصب نفسه سلطانا ، إذ كان أبنائه من أرومة غير أونسابية من جهة الأم. لم تهتم الأسرة بالانقلاب فلقد كان نول نفسه من أرومة أونسابية من ناحية الأم بل كان يحتل سيد قوم الأونساب ، ولكن الطريف في الأمر أنه قد أورث الحكم لإبنه بادي الرابع (أبو شلوخ) والذي لم يكن أونسابيا من ناحية الأم كما ذكرنا. أولا لم يعزل بادي الرابع أبنائه في القصر ينتظرون التنصيب او الشنق كما يقول جاي اسبولدينق بل تركهم طلقاء في عاصمة المملكة وهو الأمر الذي أحدث إزعاجا وبلبلة لم تحدث من قبل وليس ذلك فحسب بل يذكر كاتب الشونة (وقد قتل باقي الأونساب وأخذ من أهل المراتب أرض آبائهم وأخذ جانب النوبة وأعطاهم أراضي أولاد المراتب القديمة وجعل من أبناء االفور شيوخا مثل خميس ولد جنقال وأخذ جانبهم ضد الفونج وأولاد الملوك السابقين ). إذن نحن أمام تطور سياسي خطير في بلاط السلطنة إبتداءا من 1718. إذن لقد مهّد السلطان نول الطريق لإبنه بادي الرابع للقضاء على الأرثودوكسية الإجتماعية الفنجية والممثلة في فرع الأونساب إلى الأبد ولكن ومن يد فكان لا بد من إنشاء نخبة أرستقراطية جديدة تكون غطاء لممارسة الحكم الجديد.لقد أردف السلطان بادي الرابع هذا العمل بعمل ثوري آخر مدرجا الأرابيب في صفوة بلاط السلطنة والى جانبهم الحليف الآخر وهم (الفقرا). إذن ورجوعا لإسبولدينق فقد قام بادي الرابع بتبني النمط العروبي والإنفصال عن تراث الفنج مما جعل المكانة تنتقل عبر سلسلة الذكور وهو ما فعله فعلا حين شق (أي بادي الرابع) صف المراتب الأدنى من طبقة النبلاء القديمة وبذا حول هؤلاء الأرابيب الى مدافعين ذوي ولاء للدستور العربي الجديد ولشرعية أسرة نول الملكية على حد قول إسبولدينق. لقد إحتاج الطرفان عاليه (بادي والأرابيب) إلى منظرين آيديولوجيين جدد لتبرير هذا الإنقلاب فسدَ (الفقرا) من متصوفة القرن الثامن عشر هذه الثغرة بحماسة لا نظير لها وموهبة لا تنئ.. نواصل.
                  

02-06-2025, 01:00 AM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11355

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    كتابة جميلة ومنهج ناجع
    واصل
                  

02-06-2025, 12:27 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    يا مراحب بك الأستاذ نصر عسى أن تكون كما نود..
    Stay tuned
                  

02-06-2025, 12:32 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٤-١٠)

    صهيب حامد

    (الفقرا) وإجتراح أشجار النًسبة العربية:

    إذن فلقد أبنّا في الحلقة السابقة كيف حدث الإنقلاب على أسرة الأونساب من قبل الحلف الجديد (بادي الرابع - الأرابيب - الفقرا). ولكن كيف إمتص الفضاء السياسي والإجتماعي للسلطنة هذه النقلة العنيفة التى أعادت تعريف واقع النخبة لدى الفونج؟ وهي نخبة منتشرة ومتراصّة على المستويين الأفقي والرأسي على طول السلطنة وعرضها بلا إستثناء!!. بالطبع فلقد كان جميع الحكام يدعون الأصل الفونجي بحكم علاقة وروابط أمهاتهم .. إبتداءا من الشمال حيث أسرة الحاكماب مرورا بالعدلاناب والحنكاب في منطقةالشايقية ثم أسرة نمر الحاكمة بشندي مرورا بحكام قري وخشم البحر حيث حكمت أسرة آل كمتور وباقي الأسر الحاكمة في بلاطات مشيخات السلطنة وإنتهاءا بالبلاط في سنار ، هؤلاء جميعهم كانوا يدّعون الأصل الفونجي حقا وبلا مواربة. إن أبرز سمات (الأبستيما) الجديدة هي تدشين الإنتقال إلى وضع جديد باشره المنظرون من طبقة (الفقرا) بإجتراح أشجار النسب الأبوية لأعضاء النخبة الجديدة وهو ما يعد بداية عهود ثقافة التعريب في بلاط السلطنة والإنقلاب على النظام الأمومي وهو تطور إستمر تدريجيا إلى أن إكتمل لدى الفتح االتركي ، إذ ما من شجرة نسب متداولة وإلى اليوم إلا وقد سطّرتها أيدي هؤلاء (الفقرا) الماهرة وقد كانت هذه الموهبة مطروحة في السوق لمن يدفع حيث لم يعدم هؤلاء حيلة لأثبات أرومة الزبون العربية ولم يستثنى من ذلك حتى الدينكا والنوير والشلك كما يقول جاي إسبولدينق. إذن هل يؤدي هذا القول للشك في أوراق النسبة العربية المتداولة وإلى اليوم في مجتمعاتنا السودانية؟!. ليس ذلك على وجه الدقة ولكن الأكيد أن تسطير مثل هذه الوثائق هي من النوع الذي يحتاج لبعض التقنيات مثل معرفة الكتابة والقراءة وهو ما لم يبرز في مجتمعاتنا إلا لدى نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن الثامن عشر عند ظهور المجتمعات الدينية ونخبتها من (الفقرا).

    إذن لقد فلت الأمر من (الأونساب) خصوصا بعد النصر الكبير الذي حققه بادي الرابع على الأحباش في ١٧٤٤م ، وهو ما جعل منه بطلا قوميا إستحق التبجيل دون النظر لأرومته من جهة الأم. وهكذا حين أحس بادي بقوته ما بعد هذا التاريخ أخذ في إعادة هندسة الأرستقراطية الحاكمة، فرفع شأن (الفقرا) لأول مرة فمنحهم ثلث مناصب البلاط السناري وعلى رأسهم الولي الشهير حجازي بن النذير بن إدريس ود الأرباب. أما الأمر الأكثر إثارة فلقد قام بتقريب (الأرابيب) ووضعهم في مناصب مهمة في البلاط. إن تحالف بادي الرابع مع الأرابيب كان أمرا طبيعيا وثوريا للإطاحة بنظام الفونج في وراثة العرش. إذ أن الدستور العربي في الوراثة عبر الأب كان يمنح تفضيلا لكلا الطرفين (بادي الرابع والأرابيب ) وهو ما قننه منظرو أشجار النسبة (الفقرا). إذن تحالف بادي الرابع والأرابيب والفقرا كان أمرا قد إقتضته ظروف إعتلاء بادي الرابع العرش بسنار. وكما ذكرنا فإن الأرباب يرث مكانته من جانب الأم، ولكن حين يتزوج من العامة يصبح أبناؤه محض رعايا من العامة. إنّ تبني النسب الأبوي يجعل أبناء الأرابيب يتوارثون المكانة من آبائهم وهكذا يصبح بادي الرابع نبيلا شرعيا مثله مثل أبناء الأرابيب من جيله. إن إدخال بادي الرابع الأرابيب للقصر جعلهم من أشد المدافعين عن النسب العربي وبله أكثر إخلاصا لأسرة نول الملكية بحسب إسبولدينق. وها هنا ومنذ ١٧٥٢ نشأ ميل للبحث عن أسلاف من جانب الأباء للطامحين للإنضواء تحت لواء نخبة البلاط السناري.

    أمر ذو دلالة.. وكما أسلفنا فلقد كان إنتصار بادي الرابع على الأحباش حدثا مدويا ليس داخل أرجاء السلطنة فحسب بل في كل أصقاع المحيط الإقليمي والعالم الإسلامي قاطبة. لقد إستعان بادي الرابع بقوتين برزتا مؤخرا داخل المجتمع السناري لهزيمة الأحباش.. الأمير المسبعاوي خميس بن جنقال وعصبته الذين لجؤوا لسنار هربا من أبناء عمومتم من سلاطين دارفور الذين تجددت حيوية مملكتهم مؤخرا وحولوا كردفان لمركز صراع بينهم وبادي الرابع، وكذلك ظهر الهمج بقيادة الشيخ محمد أبولكيلك. هذا الأخير برز آنذاك كقائد عسكري وفارس مقاتل لا يشق له غبار، بيد أنه كان يعاني من صعوبات في النطق و تبلد في التواصل الإجتماعي ويعاني من مرض لا فكاك منه مستعينا ببعض شيوخ التصوف للتداوي بلا جدوى. ندب بادي الرابع الشيخ أبولكيلك لمهمة طرد الفور من كردفان مانحا إياه معظم جيش السلطنة بعد أن تمكن من كسر شوكة الأحباش. هنا وجد بعض رموز أسرة الأونساب ضالّتهم في أبو لكيلك فإرتحل الذين تم التضييق عليهم من قبل بادي الرابع إلى كردفان مزينين لهذا الأخير الإطاحة بالسلطان مستعينين بدعاوي الفساد في البلاط إلى جانب سوء أحوال الجيش في كردفان. وهكذا زحف أبولكيلك بجيشه إلى حاضرة السلطنة مطيحا ببادي الرابع في ١٧٦٢م ومنصبا ناصرا بن بادي الرابع خلفا لأبيه. كي نعلم مدى ضعف الحس التاريخي لدى نخبتنا المعاصرة وهي تكرس لنفس الجريرة وقع الحافر في الحافر بعد قرنين ونصف القرن!!!!. رغم كل هذه المتغيرات ولكن ظل المجتمع السناري بعيدا عن الأرستقراطية الجديدة في وفائه لأسرة الأونساب خصوصا في ظل اللامركزية التي كانت تدار بها الكونفدرالية الفونجاوية كي يجد الأتراك وإلى ١٨٢١ م من يتسمون على أمهاتهم!!!.فلقد وجد الرحالة جيمس بروس حين مرّ بشندي في العام ١٧٧٢ أن ملكتها هي (ستنا) ليس بصفتها كأرملة للمك الفحل ولكن كأخت لمانجل قرى. وكذلك فلقد فضّل الملك عدلان أحد المرشحين (محمد ود نمر) حفيد المك إدريس في ١٧٨٤ لأنه من فرع الأم فضلا عن أنه متزوج من العبدلاب وفقا لروابط النظام الأسرى لحكام قرى.

    منذ الإطاحة ببادي الرابع لم تشهد السلطنة إستقرارا، فلقد صار الهمج بقيادة الشيخ محمد أبو لكيلك وأبنائه من بعده هم الأوصياء المأذونين على السلاطين الذين صاروا ألعوبة بأيديهم، فلقد خلعوا ناصرا ونصبوا أخيه إسماعيل بدلا منه ثم خلعوا هذا الأخير ونصبوا إبنه عدلان بدلا منه. ثم خاضوا ضد هذا الأخير حربا لم تترك حجرا فوق أخيه على طول السلطنة وعرضها، وهكذا كي يتعاقب على البلاط أربعة وثلاثون سلطانا منذ الإطاحة ببادي الرابع وإلى أن ضربت خيول محمد علي باشا بسنابكها أبواب سنار في العام ١٨٢١م منهية ٣٢٠ عاما من حكم الفونج.. نواصل.
                  

02-06-2025, 12:33 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!. (٥-١٢)🛑

    ✒️ صهيب حامد

    كيف نشرع في إعادة قراءة وتأويل تاريخ الفونج؟.

    حسنا.. أما وقد إخترنا بوعي نقطة بدءنا للشروع في تأويل وإعادة قراءة ما قد حدث في الثلاثة قرون ونيف التي عاشتها سلطنة الفونج بالسودان النيلي وأقاليمها المجاورة ، فيتوجب أن نختار منهجنا لإعادة القراءة والتأويل. فلقد إخترنا (الممالك الإسلامية للسودان الوسيط) كنقطة بدء تمكننا من تأويل تاريخنا إنطلاقا منها لنعرف من نكون نحن حقا وكيف نستأنف المسير وفق الهوية الحقة التي صدرنا منها وليس الهويات التي ألبسنا إياها لأهداف إستعمارية أو أهواء آيديولوجية؟!!. إذن فلسنا بصدد إعادة كتابة تاريخ بلادنا وهي الأكليشيه التي سمعناها مرارا عند أي تغيير سياسي لأن ما حدث قد حدث ولكننا نعتقد أن خللاً حقيقياً يتخلل الأستوغرافيا (كتابة التاريخ) السودانية. فالإشكالية الأولى التي تعاني منها الإستوغرافيا Histographia (كتابة التاريخ) السودانية هي نفوذ الإستوغرافيا المصرية على مناهج كتابة تاريخ السودان على خلفية ممارسة مصر لسيادتها على بلادنا منذ العام ١٨٢١م تحت دعاوى الفتح. إن ما فاقم هذه الحالة هو الإستعداد الطبيعي للمركز العروبي النيلي لحالة الإستلحاق والخضوع وهي مسألة تلقائية ناتجة عن الحالة الإستتباعية للأنظمة الفكرية والإستراتيجية لهذا المركز والمنتجة دائماً ضمن أنساق أدنى النهر للأسف الشديد!!. الإشكالية الثانية التي واجهت الإستوغرافيا السودانية هي سيادة القراءات الآيديولوجية على إتجاهات ومناهج قراءة و تأويل تاريخ السودان حيث صار تاريخنا محلاً لإسقاط الخطابات التبجيلية على الذات العروبية بدلا من أن يكون (أي التاريخ) منهجا للبحث وتقصي الوقائع. فلقد مارس المركز العروبي تمركزا (بضم الكاف) كالذي مارسه على صعيد السلطة منذ ما قبل الإستقلال ففرض رؤية في التاريخ صنعت منه (ذاتا) تحددت موضوعاتها (الآخر غير العروبي) ومتحدثا في ذات الآن بالنيابة عنهم ، وهكذا تم خلق رؤية لا تاريخية للتأريخ وهو ما نحن الآن تواً بصدد دفع إستحقاق قراءته الصحيحة بلا ضغائن عافين عما حدث في هاتيك السنين ولا نتعشم سوى أن يتفهم المركز العروبي المأزق الذي أوحلنا (بفتح الالف والحاء) فيه جميعا ، وجميعا كذلك يجب أن نتعاون على البر والتقوى للخروج منه بقاعدة كلنا فائزون (Win Win game).

    الأشكال الثالث والمحزن أشد الحزن بخصوص الإستوغرافيا (كتابة التاريخ) السودانية هو أن المدخل الأيديولوجي للمثقف السوداني قد خلق ضمورا بنيوياً في ملكة التفلسف لدينا وهكذا كي نكتشف أننا كسودانيين لم يفتح الله علينا ولو بفيلسوف واحد في تاريخنا، فمصر الحديثة عجّت بفلاسفة من أمثال زكي نجيب محمود و َغيره، وكذلك لبنان وسوريا وليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتاتيا. ولكننا في السودان لم يتسع إطارنا الثقافي الإجتماعي لنمو قابلة للتفلسف وقد إنعكس ذلك سلباً في كتابة التاريخ (الإستوغرافيا ) في بلادنا ، فالفلسفة للتاريخ وفي التاريخ هي المقدمة التي تلهم وتضي درب المؤرخ فتبرز تحدياته وتقدح أدواته وتحدد خياراته وتعدد وتنقد مناهجه وتقوِّم مصادره وتفتح مصادر محتملة وجديدة لم تكن في الحسبان وتفتح نفّاجات منهجية مع العلوم المساعدة كعلم الأجناس واللغويات والآثار وعلم الاجتماع والفلكلور والأدب الشعبي ، وكذلك فإن التفلسف للتاريخ يجعل الفزلكة التاريخية عملاً سلساً وممارسة محترفة ودرباً سالكاً ومضاءاً. إن الفقر الفلسفي السوداني لأمر مخجل بمعزل من إضراره بمناهج كتابة التاريخ (الإستوغرافيا) في بلادنا ، وهو كما قلت قد كان نتيجة وأصبح الآن سببا لسيطرة المدخل الأيديولوجي للمثقف السوداني. وإستطرادا بخصوص إشكالية التفلسف في بلادنا فإن المساهمة الماركسية في كتابة التاريخ في بلادنا قد خلقت تشوها بدلا من أن تكون جزء من الحل. فلقد أدّى منهج التحليل المادي التاريخي لخلق صعوبات مزدوجة. الأولى وهي لا تنفصل عن الإستخدام الأيديولوجي للتأريخ ممثلة في توظيف المنهج المادي التاريخي ومنح العامل الإقتصادي الإجتماعي ثقلا منهجيا أكبر في مقاربة تاريخ السودان الوسيط لمجتمع يتوه في أتون مرحلته قبل البرجوازية (نقد د. أبكر آدم إسماعيل لدكتور القدال في تحليله لمجتمعات الفونج ) أو الأنكي توهم الاستاذ/تاج السر عثمان بابو لطبقة عاملة جنينية في مجتمعات الفونج الغارقة في إقطاعيتها وهو شطح لا نظير له ، ولا ادري كيف يسوّغ مؤرخون ماركسيون أقحاح كالقدّال تجاوز توجيهات ماركس الصارمة في الجزء الثالث لرأس المال وهو ينوه بأن منهج التحليل المادي التاريخي لا يشتغل في أنماط المجتمعات الخراجية (الإقطاعية) مقترحاً كبديل منهج تحليل نمط الإنتاج الآسيوي (Asiatic mode of production) كوسيلة آمنة لتحليل مراحل تطور هذه المجتمعات، مقتصرا منهج التحليل المادي التاريخي على المجتمعات التي تجاوزت عتبة الثورة البرجوازية. أما الصعوبة الثانية التي مثّلها منهج التحليل الماركسي هي مقاومته لولوج منهج التحليل البنيوي بلادنا وهو ما كان يمكن أن يحدث منذ ستينيات القرن الماضي إبان الفترة التي مثّل فيها اليسار نفوذا كبيرا في الساحة الفكرية والثقافية والسياسية في بلادنا.

    العروي (مغربي الجنسية) موهبة فذّة في التأريخ وفلسفته، عقل مسفسط (Sufisticated) حد الإدهاش ولا سبيل لأي مشتغل بمسألة المعنى الا الإعجاب بعمله مع اختلافنا معه. لقد أسهب العروي في شرح دواعي تأليفه كتاب (الآيديولوجية العربية المعاصرة) منوهاً إلى أن المثقف العربي وفي إطار لهاثه للحاق بالنظير الغربي عليه أن يختار الماركسية كمدرسة للفكر التاريخي. ففي ثنايا ستينيات القرن الماضي ووسط الموضة الرائجة للفكر البنيوي وأساطينه (ليفي شتراوس، فوكو،لاكان،جريدا، بارت) إجترح ماركسي صميم آنذاك ( لوي آلثوسير) تيارا جديدا دعى فيه لهجر الماركسية التاريخية (ماركسية ماركس الشاب) بدعوى أن ماركس لم يختم حياته ماركسياً. لقد إستخدم آلثوسير المنهجية البنيوية لمقاربة ذلك حيث أبان أن ماركس فارق إشكالية الآيديولوجية الألمانية في الأجزاء المتأخرة من كتاب رأس المال (ماركس الكهل) وهو ما أسماه العروي تهكماً بماركسية الجزء الثالث من رأس المال!!. لقد أثار آلثوسير فتنة كبرى وسط الحركة الماركسية مما حدي بالعروي لدق ناقوس الخطر مخوّفا الماركسيين العرب من خطر البنيوية مشيرا إلى أن الماركسية لن تنمو في حقل حرثته البنيوية فضلا عن أن البنية الذهنية ليست سوى مفهوم فلسفي للإله الذي أعلن نيتشه موته في اضابير الفلسفة الغربية قبل أكثر من قرنين!!. إذن فلقد حق لليسار السوداني هجر (البنيوية) كخيار نظري للتحليل بسبب نصيحة العروي أو عدمها الأمر الذي أوقع أجحافا كبيرا في حق كتابة وقراءة التاريخ في بلادنا لأن البنيوية هي الأداة الموضوعية الحقة الخالية من الذاتية عبر تبنيها مفهوم البنية الذهنية التي تعطي أولوية لدراسة أنظمة المعنى ونفى الفرد كأداة للتحيزات والأنفعال الذاتي. عدا عبد الله بولا اليساري السوداني الوحيد الذي هجر يساريته التقليدية ميمماً شطر (البنيوية). وكي نعلم قيمة البنيوية كمنهج تحليل موضوعي ، فلقد قدّمت إحدى منظمات حقوق الإنسان السودانية المعارضة للإنقاذ في منتصف تسعينيات القرن الماضي الدعوة للأستاذ/بولا لتقديم ورقة في مؤتمر عن إنتهاكات حقوق الإنسان في السودان. إذ أراد اليسار السوداني إستغلال إسم بضخامة الأستاذ /بولا في مناجزة الإنقاذ وتوظيف قامته وسط المحافل الأكاديمية والإبداعية في فرنسا خاصة وأوروبا على وجه العموم بهدف تقديم إدانة ماحقة لها. كتب بولا ورقته الشهيرة (شجرة نسب الغول في مشكل الهوية الثقافية في السودان) ، وهكذا كي يخلص إلى أن الغول الإسلاموي لم يهبط إلينا من السماء، وأن الأهم هو كشف البنى الأساسية لانتهاكات حقوق الإنسان في السودان وهي بني مفاهيمية وسياسية وثقافية ودينية وإجتماعية قائمة في بلادنا حتى قبل إستيلاء الإنقاذ على السلطة بل قد تكون الإنقاذ إحدى ضحاياها ، فبهت القوم وقد هيئوا أنفسهم لسماع معلقة سياسية في هجاء الإنقاذ فأنقلب السحر على الساحر، فلشخص معلوم المشاعر السلبية تجاه الإسلاميين كعبد الله بولا ولكن يبدو في المنتهى لم يجد سوى أن يكون مخلصاً لضميره الفلسفي بعكس كثيرين باعوا ولم يزل يبيعون إلى يوم الناس هذا ضميرهم للشيطان!!. إذن وإبتداءا من الحلقة القادمة سوف نستخدم أهم أنظمة المعنى في منهج التحليل البنيوي (مفهوم التبادلية) كي نقوم بقراءة تأويلية لتاريخ سلطنة الفونج ونرى لأي مدى سوف ننجح في إستحلاب ثدي التاريخ لنسترضع به حاضر ومستقبل بلادنا بإذن الله ولله المثل الأعلى..نواصل.
                  

02-06-2025, 12:36 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.(٦-١٢)🛑

    ✒️ صهيب حامد

    حسنا وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فإننا إبتداءاً من هذه الحلقة سوف نقوم بمحاولة إعادة قراءة أو تقديم تأويل جديد للأسباب التي مكّنت سلطنة الفونج من خلق إستمرارية سياسية وسلطوية إمتدت لثلاثة قرون ونيف في بحر متلاطم الأمواج ومتباين المصالح والإرتباطات ، وكذلك ما هي الأسباب الموضوعية التي أدت لتفسخها ومن ثم إنهيارها!!. إذن وإستناداً إلى كافة المصادر التي بين أيدينا أنّه وإبتداءاً من ١٧٥٢م بدأ التفسخ التدريجي لنخبة البلاط السناري وذلك عبر عملية الإحلال المتعمد التي مارسها السلطان بادي الرابع ضد أسرة الأونساب لصالح َمجموعات النخبة الجديدة بالسلطنة والممثلة في الفقرا والأرابيب. وبما أن هذه العملية كانت تضمر إنحيازاً بيّناً لسلسلة النسب الأبوي العروبي لذا ظهر في المجتمع السناري إنطلاقا من هذا التاريخ نزوع متهوّس لإثبات أرومة النبلاء الفونجيين العروبية. وبالطبع فمن الواضح أن هذا النزوع كان براغماتياً هدفه الترقي و الإلتحاق بوظائف البلاط السناري. إذن ما علاقة ذلك بالتفسخ الذي حدث فيما بعد بالسلطنة!!؟. حسنا.. هل ذكرنا أن السلطان بادي الرابع لا يحظى من جانب الأم بأرومة أونسابية؟ وما إذا كان لذلك علاقة بعدم قدرته الإيفاء بمطلوبات تقديم نساء من أسرته كزوجات كريمات المحتد (أونسابيات) لمكوك ونبلاء بلاطات الأقاليم!!؟.

    يؤكد أبو البنيوية الحديثة الفرنسي كلود ليفي ستراوس في كتابه الأساسي البنى الأولية للقرابة (بتبادل الهدايا ينجح الناس في إحلال التحالف..الهدايا والتجارة محل الحرب والعزلة والركود. لقد تقدمت المجتمعات بقدر ما كانت قادرة على تثبيت عقود العطاء والتلقي وإعادة الدفع) ويستطرد ليفي ستراوس بأن العلاقات التبادلية هي أساس السلطة والتنظيم الثنائي والحرب والتجارة والقرابة. فلقد إلتقط ليفي ستراوس مفهوم المبادلة أو التبادلية من سوسيولوجيست (Sociologist) فرنسي آخر هو مارسيل موس والذي بدوره يؤكد القيمة الطقوسية في الهدية ، فعلاقة الهدية هي شي آخر غير الإعطاء المباشر لأن الهدية شئ أكثر من المجموع البسيط لأجزائها ، فالهدية تقيم إلتزاماً بالمبادلة، ويستطرد موس بأنّ الهدية متشربة بالأساس بدلالة رمزية فهي واقعة إجتماعية بين الأفراد والمجموعات لها دلالة قانونية وأخلاقية وإقتصادية وجمالية وكذلك دينية!!. كذلك للهدية علاقة إجتماعية ملزمة لها طبيعة العقد بفضل الإلتزام بالتبادلية في جانب المتلقي. وهكذا كي نعلم أن تبادل الهدايا هو أصل (العقد الإجتماعي) ومن ثم أساس العلاقة بين الفرد والمجتمع. إذن هل الزوجة الأونسابية التي كان يقدمها السلطان للمك المتوج تواً في أحد بلاطات أقاليمه تقوم مقام الهدية؟. وهل يقيم إعطاء المرأة الأونسابية إلتزاماً بالتبادل من جانب مكوك الأقاليم؟ وما هي القيمة التي يدفعها هؤلاء المكوك مقابل هذا العطاء السلطاني؟. يقول ليفي ستراوس أن تبادل الهدايا بين الأفراد والجماعات يقيم إلتزاماً يؤسس لنظام متكامل للأمان بين المجموعات المانحة والمجموعات المتلقية، لأن الإهداء يصنع إلتزاماً دائما برد الهدية وكذلك قبول الهدية يصنع إلتزاماً بردها وهذه العملية التبادلية تشيع إحساساً من الممنونية وهذا ما يؤسس (أبستيما) الأمان إن جاز لنا الإستلاف من القاموس الفلسفي لميشيل فوكو. إذن ها هنا ندرك جذر الرشد الإجتماعي لدى المجتمعات قبل الدينية التي مارست حظر إتيان المحارم. فإستراتيجية حظر إتيان المحارم تستهدف بالمقام الأول خلق وفرة في الموارد النسائية (الأخوات وبنات الأصلاب) القابلة للتوزيع في إطار علاقات تبادلية خارجية تخلق الأمان للأسرة أو العشيرة او السلالة أو القبيلة أو الكيان السياسي (تزّوج في الخارج لا تقتل في الخارج).

    هنا نكتشف الحقيقة التي أخفت نفسها عنا لأكثر من ثلاثة قرون!!؟. إذن فالإطار الثقافي الإجتماعي لسلطنة الفونج قبل الإنقلاب العروبي لبادي الرابع قد مكّن لتداول السلطة وفق قواعد صارمة تقوم على التوزيع العادل للموارد الشحيحة وأهمها نساء أسرة الاونساب ذوات الأرومة المقدسة وتنبع أهمية النساء من كونهن كائنات قابلة للتبادل وفي نفس الوقت ذوات قيمة مادية ودلالة معنوية وهي الخصائص التي كانت تتشاركها معهن كل من اللغة والسلع ككينونات قابلة للتبادل أيضاً، إذ أن اللغة كينونة تكتسب أهميتها بتبادل الكلام بين فردين أو أكثر ولكنها (أي اللغة) قد فقدت مع مرور الوقت قيمتها المادية واحتفظت بقيمتها كعلامة دلالية. اما السلع ففقدت قيمتها كعلامة دلالية مع إحتفاظها بقيمتها المادية. المرأة وحدها ضمن الثلاث كينونات القابلة للتبادل (الي جانب اللغة والسلع) قد حافظت على كينونة كونها علامة دلالية وأيضا كقيمة مادية وهكذا كي ندرك المنطق الثاوي خلف السلوك غير العقلاني لبعض المجموعات التي يمكن أن يموت آلاف الرجال فيها بسبب الصراع حول إمرأة!!. إن التوزيع العادل للنساء داخل السلطنة أنشأ رابطة دم (أموسية) بين مكوك الأقاليم بينهم وبين بعضهم من جهة وبينهم وبين السلطان بسنار من جهة أخرى وبله ضمنت هذه العلاقة التوزيع العادل لباقي الموارد الشحيحة (غير النساء) بالسلطنة!!. ليس ذلك فحسب ، بل يقوم المك بمنح نساء بلاطه الإقليمي لأتباعه في المستويات الأدنى داخل إقليمه بنفس الآلية كي يتضح لنا هول قوة قاعدة النظام السياسي الذي كانت تقوم عليه سلطنة الفونج!!.

    ولكن منذ ١٧٥٢م فصاعدا تغير نظام الفكر السائد بالسلطنة القائم على قاعدة (النساء مقابل الأمان) والتي مثلت قمة الرشد في حس ممارسة السياسة لدى الفونج. كلما إلتزم السلطان القائم بهذه القاعدة ضَمنَ الأمن والإستقرار وكلما حاد عنها أو حدث أمر سبّب شحاً في المعروض من النساء الأونسابيات كلما إضطربت أحوال السلطنة. وهكذا صحّت بالف ولام العهد مقولة تايلور (تتزوج في الخارج لا تقتل في الخارج).إن إنقلاب بادي الرابع قرّب الحلفاء الجدد (الفقرا والأرابيب) على قاعدة الدستور العربي القائم على تفضيل النسب الذكوري. وهكذا أضعف نظام الفكر الجديد نظام التبادلية التقليدي القائم على تبادل نساء الأسرة السلطانية مع بلاطات الأقاليم ، فبادي الرابع نفسه ليس من أرومة أونسابية إلى جانب توتر علاقته مع أسرة الاونساب. وهكذا بدأ التفسخ التدريجي لأنظمة السلطة بسنار إلى أن إستولى الشيخ محمد أبو لكيلك على السلطة بإزاحة السلطان بادي الرابع في ١٧٦٢م. لقد كان الأونساب هم المحرضين الأساسيين لأبو لكيلك للإنقلاب على بادي ولكنه إنقلب عليهم أيضا أخيرا وبذا إنفلتت الأوضاع في السلطنة إلى الأبد مما سرّع الإنحدار التدريجي إلى سقوطها في يد محمد علي باشا في ١٨٢١م ، فإنقلاب أبو لكيلك ما كان له أن يحل مشكل السلطنة الذي أدّى لإنحدارها لأنه أشكال في جذر نظام الفكر الذي تفسح فتفسخ معه الإستقرار السياسي بالسلطنة.إن تفضيل النسب العربي تسبّب في إضعاف آلية (التبادلية) داخل البلاط، إذ أن التقاليد العربية تميل للزواج من جانب سلسلة الأب الذكورية. إذن إضعاف تبادل النساء داخل المجتمع الفونجي زاد من التوترات والنزعة الحربية داخل السلطنة ، إذ يقول ليفي ستراوس أنّ هناك إستمراراً جوهريا بين الحرب والتجارة اللذين ليسا نمطين من علاقة التعايش بل بالأحرى وجهان متعارضان لا فكاك منهما للعملية الاجتماعية الواحدة (العملية التبادلية).. نواصل.
                  

02-06-2025, 04:01 PM

adil amin
<aadil amin
تاريخ التسجيل: 08-01-2002
مجموع المشاركات: 39161

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    سلام صهيب
    التحليل كويس.... الحل، كيف؟؟
    رؤية بلا جماهير ( ازمة في الاعلام)
    جماهير بلا رؤية ( فوضي خلاقة)
    والزمن بينا
    اخر فرصة توعى، وتتجاوز، الظروف العر. صة
    نرفع علم الاستقلال الاصل1يناير 2025
    في، كل السودان
    كوعي جديد ضد، مخططات التشويه والتمزيق وتجريف، الحضارة السودانية والسودان الحديث الاسسو خمس، لوردات مع جيل، الاستقلال، الذهبي، 1956
    الامراض النفسية دي، خلاس، انتهي، دورها، في، السودان
    الشيوعيين🐒
    البعثيين🐒
    الناصريين🐒
    الكيزان 🐒
    السلفيين🐒
    قرود، السيرك الامريكي، الخمسة
    *-*--
    السودان ده بس
    ختمية🐎
    انصار 🐘
    جمهوريين🦏
    حركة شعبية🐊
    جبهة عريضة حسنين 🕊️
    الجيش للثكنات والجنجويد، ينحل،👌🖐️
    وابشع ما افرزته الايدولجيات دي
    علم مايو1969
    واقرا وصية باقر عفيف عن علم الاستقلال1956
                  

02-06-2025, 07:35 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: adil amin)

    العزيز عادل.. شاكر للاطلالة والتعليق

    Stay tuned
                  

02-06-2025, 07:39 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٧-١٢)🛑

    ✒️ صهيب حامد

    إذن وكما أسلفنا في الحلقة السابقة ، فلقد أضعفت النخبة الجديدة المستعربة التي ظهرت في البلاط السناري أبتداءا من ١٧٥٢م وصاعدا بقيادة بادي الرابع وحلفائه (الفقرا والأرابيب) أقول أضعفت منظومة جهاز التبادلية الذي مثّلت المرأة الأونسابية عملته التداولية مما أدى للتفسخ التدريجي للنخبة الفونجية القديمة إلى سقوطها في ١٨٢١م على يد الأتراك. إذن هل يمكن القول أن مظاهر التعريب التي إعترت سلوك نخبة البلاط هي التي أدت لهذا التفسخ!!؟. ليس على وجه الدقة ، وكما أسلفنا فلقد كان ظهور المتصوفة والريال الإسباني في فضاء السلطنة قد خلق تحديات جديدة أضعفت بنية العقل السائدة (بنية وعي تناسلي) وهو الأمر الذي إستحث نمو وتفاعل بنية جديدة (بنية وعي برجوازي) خلقت نخبتها والتي بدورها من خلال الوعي الجديد إستطاعت الإستجابة لتحديات الوجود الاجتماعي والحضاري المستجدة. هل فعلا إستطاعت السلطنة عبر هذه المتغيرات أن تستجيب للتحولات الإقليمية والدولية التي كانت تدور حولها؟ فلقد طفرت مقدرات مملكة الفور من الغرب لسنار فزاحمت هذا الأخيرة إلى أن نزعت منها كردفان نهائيا في ١٧٨٤م. كذلك فلقد نزع الشايقية يدهم عن طاعة السلطان السناري منذ زمن مبكر مسيطرين على الحيز الشمالي من السلطنة ومانعين حركة القوافل إلى سنار مما فاقم الوضع الإقتصادي بها. كذلك أخيرا فلقد أدت المتغيرات في مصر لبروز نظام سياسي جديد هربت على إثره مجموعات المماليك إلى المنطقة بين الشلال الثاني والثالث وهو ما خلق واقع سياسي أثّر بشكل كبير على السلطنة. وهكذا كما أسلفنا لم تعد بنية الوعي القديمة قادرة على الإستجابة لهذه التحديات فطفرت متغيرات نشأت على إثرها بنية وعي جديدة (بنية وعي برجوازي) وهي بدورها خلقت نخبتها المستعربة وهي النخبة التي وجدها الأتراك تكاد تتجاوز وضعها الجنيني حين دخولهم السودان.

    إذن فلنذهب خطوة للأمام بإستخدام نفس المنهج (التبادلية البنيوية) لنرى ما إذا سوف يعطينا قراءة موضوعية لحقبة الحكم التركي في السودان في الفترة من ١٨٢١م إلى ١٨٨٥م.يقول د. محمد سعيد القدال أن السودان قد صار في العهد التركي إمبراطورية شملت كيانات مختلفة كانت تمر بفترات متباينة في التطور الإجتماعي ولكنها ضٌمّت جميعها في كينونة سياسية واحدة شكّلت أساس الدولة السودانية الحديثة ، وهي كينونة فرضتها إحتياجات مصر في القرن التاسع عشر. يقول تاج السر عثمان بابو إنّ إحتلال مصر محمد علي باشا للسودان في ١٨٢١ يأتي في إطار إستراتيجية متكاملة لتعظيم التراكم الرأسمالي مما يمكّن محمد علي من تحقيق النهضة الصناعية والزراعية وبناء الجيش والدولة العصرية بمصر. وبالطبع يأتي ضمن ما ذكره بابو كهدف ثانوي للغزو الأهداف التي شاعت لدينا وهي مطاردة المماليك وإمداد الجيش العلوي بالرجال بدلا من العسكر الحردين من الأرناؤوط والتفتيش عن الذهب إلى جانب إكتشاف منابع النيل. إذن وكأولوية لتحقيق الهدف الإستراتيجي من غزو السودان يتوجب بناء قاعدة للحكم تستجيب للإحتياجات الإستعمارية. لقد كانت الخطوة الأولى في هذا المضمار هي تشكيل الرؤية الآيديولوجية لتحديد القوى الإجتماعية المحلية الصاعدة للمسرح السلطوي الجديد. إذن.. وإذا ما أعتبرنا الحكم التركي هو حقل كلية بديل لحقل الكلية القديم (الدولة الفونجية) فهو قد فرض وجوده على كيانات إجتماعية ودينية قائمة وفرض عليها كذلك التطور رجوعا لإحتياجاته وهي إحتياجات مادية تستهدف المراكمة الرأسمالية لموارد السودان مما يمكن محمد علي من إنفاذ خطته المتمثلة في بناء مصر العصرية. لقد تم إعادة إنتاج هذه الكيانات داخل حقل الكلية الجديد الذي تسيطر عليه معرفيا (بنية للوعي البرجوازي)، وقد تمت إعادة الإنتاج هذه الكيانات بآليات ضبط القوة المادية (السلاح الناري) والقوة الآيديولوجية للسلطة الجديدة كبديل للآيديولوجية الفونجية وقاعدتها الإجتماعية الأونسابية.

    إذن تأتي على رأس القوى الإجتماعية المحلية الداخلة في التحالف الجديد المجموعات التي تعرّبت في أواخر حقبة الفونج كإستراتيجية للحراك إلى السلطة وبالسلطة ، اذن وفي إطار نفس الإستراتيجية وائمت هذه القوى إحتياجاتها للتوافق مع الإحتياجات الإستعمارية. وعلى رأس هذه القوى يأتي الشايقية العدلاناب والحنكاب والسواراب ، فالأوائل هم بالأساس مجموعة عبدلابية يتأهّلون من سلفهم حمد السميح الذي خرج في مطلع القرن الثامن عشر حَردا من (قرّي) لخلاف مع أبناء عمومته مقيما في ديار الشايقية، ولدي الخلاف بين الملك عدلان والهمج في مطلع ثمانينيات القرن الثامن عشر إتخذوا جانب الملك عدلان لعلاقة الدم ومن هنا جاءت التسمية. أما الحنكاب فقد كانوا الفريق القوي الآخر في الشايقية ولكنهم مالئوا قضية الهمج. ورغم خلافاتهم فلقد إشتهر الشايقية بتوحدهم خلف القضية القومية أمام أي تهديد خارجي. في نهايات السلطنة تهيأ الشايقية لإقامة كيان سياسي موحد في الجزء الشمالي للسلطنة إذ برزوا كسيف ضارب مهددين حتى شندي والمتمة بغرب النيل وكما أسلفنا فقد كانوا يقطعون الطريق أمام القوافل المتجهة لسنار من البحر الاحمر ومصر. فلقد أستفاد الشايقية من عدة سمات أهمها ولعهم بالحرب ومهاراتهم في إستخدام السلاح الأبيض لذا فلقد مارسوا الزحف التدريجي داخل أرض النوبة النيليين الذين يقطنون بين الشلال الرابع والشلال الثاني فأحتلوا جزء من هذه الأرض وإسترقّوهم لفلاحتها حيث أبان نيكولز في كتابه (الشايقية) أن إسماعيل باشا لدى دخوله السودان حرر النوبة الذين كان يستخدمهم الشايقية في الزراعة لإعتقادهم أن فلاحة الأرض من إختصاص العبيد. لقد أقام الشايقية علائق ودية مع مملكتي الفور والودّاي َمما مكّنهم من الإستفادة من عوائد مرور القوافل والحجيج إلى البحر الأحمر. وهكذا طور الشايقية خصوصية حفّزتهم لإقامة كيان سياسي في الرقعة بين الشلال السادس والشلال الثاني وقد ساعدهم حالة الضعف المزري التي كانت تعيشها السلطنة بسبب صراعات البلاط بين الهمج والفونج. ولكن قطع هذاالنمو الجنيني تطوران مهمان غيرا مسار الأحداث.. الأول هو ظهور نفوذ المماليك الفارين أمام جحافل محمد علي باشا بعد مذبحة القلعة والذين سيطروا على المنطقة بين الشلال الثاني والشلال الثالث أبتداءا من ١٨١١م. أما التطور الثاني والخطير والذي نسف طموح الشايقية من أساسه هو دخول جيوش محمد علي باشا السودان بقيادة إبنه الأصغر إسماعيل الكامل باشا والذي دشّن لدخول السودان العصر الحديث ومنهياً معه حلم الشايقية في دولة تخصهم وإلى الأبد.


    أما القوة الأخري التي شكلت الضلع الثالث في تحالف الحكم التركي في السودان كانت الطريقة الختمية. لقد أتت نشأة الطريقة الختمية في السودان كإستجابة إستعمارية فرضها تفكير محمد علي باشا في غزو السودان.لقد كان محمد عثمان الميرغني الختم الكبير في غاية الإمتنان للأتراك الذين أنقذوا الحركة الصوفية بالحجاز من بطش الحركة الوهابية بقيادة الشيخ محمد عبد الوهاب والذي إنتهج التسنن المتشدد بمذهب الشيخ أحمد بن حنبل. فلقدكان الميرغني أحد أقطاب التصوف في مكة تلميذا للشيخ الإدريسي إلى جانب الجزائري الشيخ السنوسي وقد ضيقت الحركة الوهابية عليهم مما أضعف نفوذهم وسط أتباعهم بمكة والمدينة والحجاز على وجه العموم. وهكذا أتى الميرغني الكبير السودان في ١٨١٧م كإستجابة فورية لطلب إبراهيم باشا قائد جيوش محمد علي باشا في الحجاز لتهيئة المجتمع السوداني للحكم التركي الذي حدث بعدها بثلاث سنوات في َ١٨٢١م. تمكّنت الختمية من التغلغل في كل من إقليم دنقلا (يشمل كامل الشمال النيلي الحالي) وكسلا وممتدة منها لسواكن ومنها إلى مصوع منتشرة من هناك إلى كامل التراب الإرتيري. لقد شكّلت الختمية الخطاب الديني الآيديولوجي للحكم التركي ومن ثم أصبح أتباعها (أغلبهم من الشايقية) عصب الجيش والدولة التركية في السودان. بالطبع هناك مجموعات إجتماعية أخرى دخلت في هذه الشراكة ولكن في حقب متأخرة نسبيا كالدناقلة الذين إجتذبهم محمد خير الاورباوي الذي عمل كموردللرقيق إنطلاقا من خمسينيات القرن التاسع عشر وهم من أوائل النوبيين الذين إستدمجوا وعياً عروبيا إلى جانب محس توتي والعيلفون لسكناهم في المدينة الاستعمارية (الخرطوم) بحي المراكبية الذي يشمل الآن المنطقة جنوب القصر الجمهوري إلى السكة حديد. كذلك وبعد أن أمن خورشيد باشا الجعليين في العام ١٨٣٠م إنخرطوا في العهد الجديد فسكنوا حي الترَس (المقرن الحالية) إلى أن إعتلوا مكانا عليا مثّل مظهره الأبرز الزبير باشا ود رحمة الذي لعب أدوارا مهمة في هذه الحقبة خصوصا في دارفور وبحر الغزال وعبر أقاربه (الياس باشا وأحمد بك دفع الله) بكردفان.

    تاسّست آيديولوجية الحكم التركي في السودان أبتداءا من ١٨٢١م على أساس عروبي يعتمد تقسيم السودانيين لسادة وهم ذوي الأصل العربي أو من تعرّب إما قبل الغزو أو بعده والذين يحق لهم وفق نسخة الدولة الرسمية للإسلام السنّي (المالكية والشافعية والأحناف ممن صاحب شيوخها الحملة) قلت يحق لهم إسترقاق المجموعات السكانية الأخرى ممن تم توصيفهم كعبيد.كما تم تقسيم العمل لتختص المجموعة المستعربة (الشايقية وغيرهم) في التجارة وأعمال الدولة الإدارية (خصوصا التنظيمات الضريبية) والوظائف في القوات النظامية ، أما العمل الجسماني (الزراعة والحرف اليدوية) فتختص به مجموعة العبيد من العناصر الزنجية. وهكذا سيطرت ظاهرة الإستعلاء العرقي على المستوى الإجتماعي والإستبداد السياسي على مستوى الحكم.. نواصل.
                  

02-06-2025, 07:43 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.🛑 (٨-١٢)

    ✒️ صهيب حامد

    حسنا.. وكما أسلفنا فلقد إستهدف الحكم التركي في السودان خلق تراكم رأسمالي عبر نهب موارد المجتمعات السودانية بهدف بناء الدولة العصرية بمصر. وكما هو معلوم فإن مصر عاشت منذ إنسحاب الحملة الفرنسية بقيادة نابليون في ١٨٠١م حقبة من الفوضى (Chaos) والفراغ السياسي إلى إستيلاء محمد علي باشا على السلطة في ١٨٠٥م. وكما أبان د. القدال في كتابه (تاريخ السودان الحديث) فإن السودان قد صار في العهد التركي إمبراطورية شملت كيانات مختلفة . لكن بالأحرى فلقد كانت هذا الكيانات تمر بمراحل تطور تاريخي مختلف. فمجموعات الشمال النيلي التي كان يحكمها مانجل قرى نيابة عن السلطان بسنار (الشايقية والجعليين وغيرهم) أقول هذه المجموعات بدأت الإنفلات التدريجي من فضاء بنية الوعي السائدة في السلطنة مدشنين الإنقلاب من سلسلة النسب الأموسي إلى الدستور العربي الذي يفضّل نقل الأرومة عبر سلسلة الذكور ، ذلك أولا ثم ثانيا فلقد إستقلت كذلك إقتصاديا وسياسيا (خصوصا الشايقية) مفضلين الإستفادة من دورة القوافل الآتية من دارفور وغرب أفريقيا إلى البحر الأحمر في قطع جدّي و بائن مع مصالح السلطان بسنار. لذا لم يدم صراع الشايقية مع إسماعيل باشا طويلا بعد معركة كورتي فتم الإتفاق وهو ما دشن الإلتحاق التاريخي لمجموعات الشمال النيلي بالبنية المتوسطية (Mediterranean) ممثلة في مصر وبذا تحدد الصاعدين الجدد لمسرح السلطة بالسودان إبتداءا من الحكم التركي وصاعدا. يقول د. محمود الزين "أن الإدارة التركية كانت تحتاج لأعوان محليين وسعيها لذلك قادها لإستقطاب و(توريط) بعض المجموعات المستعربة والتي بدورها كانت أو بالأحرى (مجبرة) للدخول في هذا التحالف، بالدرجة الأولى كي تحمي نفسها من الإسترقاق والتطهير العرقي ونهب الموارد كمخاوف جديدة كرَّسها مجئ الاتراك وإرهابهم". إذن فلقد تحدد مصير باقي المجموعات السودانية خارج هذا التحالف إسترقاقا وتطهيرا عرقيا ونهبا للثروات و قد علقت في البنية القديمة معرفياً (الابستيمة الفنجية) . إذن مصر العلوية كانت قد تأهلت كدولة إستعمارية تسيطر علبها (بنية عقل برجوازي) لا يهمها سوى التراكم الرأسمالي ونهب خيرات الشعوب الأخرى وصار لا مناص لمجموعات الشمال النيلي سوى أن تكون جزءاً من هذه البنية.

    كيف تم الإستيعاب البنيوي للمجموعات المستعربة من الشمال النيلي داخل أطر الحكم التركي في السودان !!؟. وهل يمكن لمفهوم التبادلية البنيوي أن يمنحنا إضاءة منطقية لكيفية إشتغال تحالف السلطة الجديد كالتي منحنا إياها نفس المفهوم بخصوص التحالف السلطوي بسلطنة الفونج!!؟...يقول كلود ليفي ستراوس في البنى الأولية للقرابة "أن قاعدة السلطة بنيوياً تتأسس كذلك على شروط التبادلية.. فالتبادلية نفسها تفترض مستويين وهما المتلقي والمعطي"، يواصل ليفي ستراوس "أن الخضوع نفسه تبادلي إذ أن الأولوية التي يحصل عليها نصف في إحدى المستويات تخسر لصالح النصف المقابل على مستوى مقابل" ، وهكذا تطور هذا المفهوم كأساس لنظرية تبادل السلطة. هنا نلاحظ وفي إطار التحليل البنيوي فلقد تغير موضوع المبادلة من التنازل عن النساء إلى التنازل عن جزء من السلطة وهو أمر ناتج عن تغير آلية التعقل أو تركيب العقل في حقبة الفونج منه إلى الحقبة التركية في السودان. في العصر الفونجي فقد سيطرت (بنية الوعي التناسلي) كإطار لقاعدة "النساء مقابل الأمان" بينما طفرت علامات جديدة ما بعد ١٨٢١م أدّت فيما بعد لبروز بنية جديدة "بنية عقل برجوازي" تستطيع الإستجابة للتحديات الإجتماعية والحضارية للكيان المحتل (الأتراك وورائهم ) وبذا تحولت قاعدة التحالف الجديد ل"الريع مقابل الأمان". هنا نلاحظ زحزحة طفيفة حدثت في منهجنا ، إذ أضطررنا لإستلاف مفاهيم البنيوية اللا خطية لأن مفاهيم البنيوية الخطية (الستراوسية) تتقاصر أحيانا إزاء إحتياجات التبيئة الضرورية وهي هوة ردمها مفهوم "التحليل الفاعلي" الذي أتاح إمكانية تغير البنية أو تعايش البنيات "مفهوم الإحتياطي الإستراتيجي" لأستاذ أساتيذ الفلسفة السودانية الشيخ محمد الشيخ الذي إستطاع أن يحدث إختراقا في علم الرياضيات عبر نظرية (الحيوية) ومنه إشتق مفهوم البنيوية اللاخطية والعلم اللا إختزالي. إذن مما يثلج صدري حقا أنني من هنا فصاعدا سوف أستخدم نسخة بنيوية لا فرنسية (ستراوس) ولا سويسرية (دي سوسير وآلثوسير) ولكن سودانية بالف ولام العهد أتاحها الإختراق (breakthrough) الذي أنجزه أستاذنا "الشيخ محمد الشيخ" ، و لا أدري لم لا نرى مثل هذه الإختراقات من منسوبي المساق المهني للفلسفة في السودان (أقسام الفلسفة بالجامعات السودانية) فصاحب "التحليل الفاعلي" رحمه الله فيلسوف رياضي متخرجاً من كلية العلوم الرياضية !!!.

    إذن فلقد إستدمج الحكم التركي بنية وعي برجوازي نمت وترعرعت في الوسط الإجتماعي النيلي وهي بنية تحكمها آليات تعقل مادي هدفها الأوحد مراكمة الخيرات المادية لصالح الحكم التركي أولا ومن بعدها المجموعات النيلية ، وبالطبع تتميز "بنية العقل البرجوازي" ببرنامج محدود جدا للعطاء لا يتجاوز هذه الفئات الإجتماعية وهي دائرة لا تتجاوز العاصمة الإستعمارية الخرطوم والشمال النيلي حدي الكثافة الديمغرافية وبذا صار باقي السودانيين نهبا لهذا التحالف ليس إستهدافا لمواردهم فحسب بل لحيواتهم نفسها إذ تعرضوا لأكبر هجمة إسترقاق في التاريخ لتكشف لنا أكثر الإحصائيات تسامحا أن السودان فقد في تلك الحقبة أكثر من نصف سكانه بسبب تلك الحملات. أما أهم خصائص النظام الإجتماعي لتلك الحقبة فهو مجتمع مادي إختار له الأتراك بإنتقائية آيديولوجية عروبية سنية تبيح إسترقاق الإنسان لأخيه الإنسان وإبادته عرقيا ونهب موارده بنصوص دينية مقتطعة من سياقاتها أو مشكوك في صحتها، ومن هنا بدأت آيديولوجية المركز العروبي التعرف على نفسها والتفهم الواعي لتكوينها ومن ثم الدخول في لعبة إستراتيجيات السيطرة بإختيارها لأسطورتها التأسيسية (إبراهيم جعل) مثلها مثل الأسطورة التأسيسية لأسرة الكيرا بمملكة الفور وأسطورة الأسرة الأونسابية لدى الفونج وأسطورة النابتاب لدى البجة!!.

    إن إستراتيجيات السيطر ة في أي بنية تحكمها أنظمة معنى لا واعية، أو بالاحري فإن الوعي السطحي تحركه أنظمة اللاشعور لتحقيق إستراتيجيات إحتياز مركز السلطة والريع. وإلا ما هو المسوغ الذي أتاح للأسر الفونجية ممن بدؤوا مسيرة الإستعراب لتوهم قبيل الفتح التركي أن يكونوا الممثلين الرسميين لآيديولوجية المركز العروبي في السودان. فلقد تم نسقياً المزايدة على باقي العناصر العربية في السودان وذلك بإختيار الأصل العباسي لهذه المجموعة المستعربة وهو إختيار ماكر ينم عن دهاء آيديولوجي عميق، فالمجموعات الجهنية ذات الأصول القحطانية التي دخلت السودان هم العرب العاربة الافذاذ بعكس المجموعة العباسية (عدنانية الأصل) وهي مجموعات مستعربة. ولكن وبضربة لازب تم إبتزاز المجموعة الجهنية بالأصل العباسي لقربه من الارومة النبوية رغم أنف التسلسل الصلبي بعد ثبوت عقم الفضل بن العباس وهو الجد الثاني بعد العباس مباشرة في شجرة نسب (إبراهيم جعل)!!!. نفس الإنتحال الهوياتي (من هوية) حدث بالكربون في إطار نفس عملية المزايدة حيث تحاول الآن المجموعات النوبية المؤدلجة المطابقة بين إطار الحضارة الكوشية والحضارة النوبية لإثبات أن نوبة النيل الحاليين هم الورّاث الأفذاذ للحضارة الكوشية وبله حقهم الصميم في إقامة دولة تخص النوبة في الفضاء بين الشلال الأول والشلال السادس وهو ما تدحضه الأدلة التاريخية والآثارية واللغوية. إذن إبتداء من الحكم التركي وصاعدا إبتدأت المجموعات المستعربة في تفهم وممارسة إستراتيجيات السلطة وهو ما إكتسبته من إحتكاكها بالأتراك الذين قد إستفادوا مقابل ذلك بإستخدامهم في مراكمة الموارد الرأسمالية لبناء مصر كحلم يؤسس لحكم الأسرة العلوية التي إستمرت في حكم مصر إلى سقوطها في ١٩٥٢م علي يد الضباط الأحرار بقيادة البكباشي جمال عبد الناصر.. نواصل.
                  

02-07-2025, 07:13 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (٩-١٥) 🛑

    ✒️ صهيب حامد

    حسنا.. وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فلقد أحدث الحكم التركي كسرا بنيويا في الصفيحة الإجتماعية في السودان .. مجموعات الشمال النيلي المستعربة والتي أستلحقت بقاعدة الحكم الجديد صارت جزء من (بنية عقل برجوازي) وهي بنية شرحنا خصائصها في الحلقة السابقة ، ومن يد فلقد أدامت متبقي المجتمعات السودانية إستدماجها للبنية القديمة قبل الغزو (بنية عقل تناسلي). يقول صاحب التحليل الفاعلي (أ. الشيخ محمد الشيخ) محددا خصائص هذه البنية الأخيرة.. فالعقل التناسلي هو نواة توليدية أو نسق يخلق محتوى معرفي سلوكي يؤسس للحياة على قاعدة التناسل فحسب ، وينشأ في ظل ظروف تهديد النوع والصراع بين المكونات الإجتماعية فيكون النظام الإجتماعي قائما على مفهوم القرابة فحسب وكذلك نفسيا لا يعي الإنسان نفسه ولا يعرّفها إلا ككائن تناسلي يكسب الإحترام من فحولته وتكسب المرأة تقديرها كذلك من خصوبة رحمها وفاعليتها الإنجابية وتكون الأبستيمة (النظام المعرفي) غيبية إتكالية إحيائية وليس توكلية ويكون نظام القيم في المجتمع قائم على مفهوم الشرف فحسب. وسوف نعود لهذه التركيبة مجددا حين نحلل الأسباب الإجتماعية لإندلاع الثورة المهدية. حسنا.. إذن هكذا إنقسم المجتمع السوداني إبان الحكم التركي لفاعليتين.. قاعدة حكم تشمل الأتراك ومجموعات الشمال النيلي المتحالفة معه وتقوم على قاعدة وعي برجوازي مهمتها إستحلاب الخيرات المادية بكل وسيلة متاحة سلاحها في ذلك القوة النارية لجيش حديث إلى جانب سلاح أيديولوجي ديني يسوغ هذه الممارسة. وتؤدي هذه المهمة الأخيرة (الطريقة الختمية) والمذاهب التي أتى ممثلوها مع الغزو (مالكية شافعية واحناف). الفعالية الثانية هي غالبية المجتمعات السودانية في الغرب والجنوب والتي مارست عليها الفعالية الأولى الإسترقاق والتطهير العرقي ونهب الموارد. لما يؤسف له أن المجتمعات السودانية كانت أرض المخزن الذي كان يزداد إنتهاكه بمتوالية تتناسب هندسيا مع تدهور الأوضاع الإقتصادية والسياسية في مصر.

    لقد حاول محمد علي باشا في مراحل الحكم الأولى أن يصنع قدر من الرضا لدى السودانيين تجاه الحكم التركي وهو ما سار عليه محمد سعيد باشا من بعده (إبراهيم باشا وعباس الأول لم يحكما طويلا) ، فكلا الأولين زارا السودان ووقفا على أحوال أهله. ففي زيارته للسودان في خمسينيات القرن التاسع عشر أصدر محمد سعيد باشا الفرمانات الشهيرة التي حسّنت أوضاع الأهالي بالسودان وطوّرت بعض أوجه العمل الاقتصادي. ولكن منذ إعتلاء إسماعيل باشا (الخديوي إسماعيل فيما بعد) الحكم في ١٨٦٣م تدهورت الأوضاع في السودان. أولا حدث تمرد الجهادية السود في كسلا في ١٨٦٣م الذي إنتهى بإعدام قادتهم وهروب باقي الجهادية مما خلق نوع من البلبلة في الشرق خاصة والسودان على وجه العموم. ذلك على مستوى السودان ، اما على مستوى مصر فلقد دخل إسماعيل كوالي لمصر في مساومات مع الباب العالي ب(إسطمبول) لتحسين وضعه وتوريث العرش للأبناء بدلا من الاخوة مقابل زيادة الجزية المدفوعة إلى الضعف (من ٣٠٠ الف ج إلى ٦٦٥٠٠٠ الف ج) وهو ما منحه منصب الخديوي في ١٨٦٧م وأعطى مصر قدر من الحرية في إدارة شئون الحكم محولا مصر من إيالة (Eyalet) إلى أشبه بوضع الدولة المستقلة وهو ما أطلق يد الخديوي إسماعيل إنطلاقا من ١٨٦٧م للإستدانة بلا وازع أو رقيب بهدف تحديث مصر. لقد أكمل الخديوي إسماعيل قناة السويس في ١٨٦٩م كذلك أنشأ الخديوي إسماعيل من مال الديون ١٣ الف قناة ري جديدة و٩٠٠ ميل من السكك الحديد و٤٥٠ مدرسة جديدة و٤٠٠ كبري و٣٠ قصرا خديوياً جديدا وقام بتحديث القاهرة معماريا بالتوسع الغربي للمدينة (وسط البلد الحالية) فكانت نتيجة ذلك أن إرتفع دين الدولة المصرية من ٣ مليون ج إسترليني إلى ٩٦ مليون ج إسترليني في بلد يبلغ دخله المحلي الإجمالي فقط ٨ مليون ج وعدد سكان لا يتجاوز ٥ مليون نسمة!!!. هنا وإبتداءا من ١٨٧٦م بدأت تتفاقم أوضاع الدين الإسماعيلي في الإقتصاد المصري وهو ما إضطر الدائنون (بريطانيا وفرنسا بالاساس) لحجز أملاك الخديو إسماعيل أولا ثم إنشأ مجلس الدين (Caisse de la Dette) وهو ما أدى لبيع أسهم مصر في شركة قناة السويس لكل من بريطانيا وفرنسا وبذا فقدت مصر إستقلالها السياسي والإقتصادي لصالح الدائنين إلى الإطاحة بالخديوي إسماعيل في ١٨٧٩م لصالح إبنه الخديوي توفيق وإحتلال مصر بواسطة بريطانيا في ١٨٨٢م.في هذه الأثناء إنعكس هذا الوضع الإقتصادي المزري على السودان إذ كانت آجال سداد الدين الإسماعيلي تلقى بظلالها على الإدارة التركية هناك والتي زادت من عبء التحصيل الضريبي على المواطنين السودانيين الذين منذ ذلك التاريخ بدؤوا في إبداء التذمر والهرب أمام مسؤولي التنظيمات الضريبية وهو ما حدى بالسلطات التركية وأعوانها في إستخدام أسوأ الأساليب في تحصيل الضريبة (الطلبة والدقنية). كذلك تفاقم في هذه الحقبة وضع تجارة الرقيق لمقابلة الربط الخديوي وهو ما أحدث ضرراً بليغاً بالمجتمع السوداني مقارنة بكل الحقب في تاريخ السودان.

    لقد كان الخديوي إسماعيل طموحا ومستنيرا وجذّابا وفق وصف فرديناند ديلسبيس (مهندس قناة السويس) وهو في عمر الخامسة والعشرين قبل إعتلاءه العرش ولكن كذلك تنطوي نفسه على عشرات المشاعر المتناقضة إذ تحمل جيناته نزوعاً للبذخ لا يبارى ، وهذا الخليط من السلوك هو ما أوقعه وأوقع مصر في مصيدة تم إدارتها لإضعافه وإضعاف مصر بشكل سئ وماكر من قبل كل من بريطانيا وفرنسا. لقد إستفادت الدول الدائنة من الحرب الأهلية الأمريكية في ١٨٧٦م والتي خلقت إنهيارا إقتصاديا عالميا أثّر بشكل سلبي في أسعار القطن وهي السلعة التي كان يعتمد عليها الخديوي إسماعيل في سداد الديون الإسماعيلية. ما من شك أن إحدى أهداف إنشاء مجلس الدين (Caisse de la Dette) هو الإستيلاء على أصول مصر وأولها قناة السويس (هل يعيد التاريخ نفسه الآن!!؟) ، كذلك برز في السياسة البريطانية في هذه الحقبة ما يسمى بلوبي السودان (Sudan Lobby). يقول جمال الشريف "وقد أكّد التقصي والتحليل الذي شمل الفترة التي سبقت إعادة فتح السودان عن أن جماعات الضغط التي ظهرت أدوارها خلال الحكم الثنائي والإستقلال تمتد جذورها إلى فترة ما قبل الحكم الثنائي". لقد كانت هذه المجموعة تختلف مع الحكومة البريطانية في نقطة أساسية وهي أنها ترى ضرورة وقف تمدد النفوذ المصري السوداني في حوض النيل وبله منع الوحدة بين مصر والسودان بينما ترى الحكومة البريطانية أن لا دخل لها في ذلك. يستطرد جمال الشريف في كتابة الركيزي الصراع السياسي على السودان "فرضت هذه الجماعات سياساتها وإستراتيجياتها بشأن السودان على الحكومة البريطانية وإستخدمت كل الأساليب الملتوية بدءاً من تضليل الحكومة إلى تزوير المعلومات وعصيان التعليمات وتسريب المعلومات الي الإعلام وإستخدام الرأي العام ومنظمات المجتمع المدني ضد السياسات الرسمية وإستغلالها لتحقيق أهدافها بدلا عن أهداف الحكومة". لقد كان لوبي السودان مجموعة كبيرة من العسكريين والسياسيين البريطانيين على رأسهم اللورد هارنجنتون وزير الحربية في حكومة غلادستون َوالجنرالان المهمان ولزلي وغردون باشا. إذن وفي هذه المرحلة تم الضغط على الخديوي إسماعيل لوقف الإتجار بالرقيق وهو في أمسّ الحاجة لعائدات هذه التجارة ومن ثم إجباره على تعيين غردون باشا حاكما على الإستوائية في ١٨٧٨م لتنفيذ أمر تحريم تجارة الرقيق إنطلاقاً من غندكرو ومشرع فاشودة وأخيرا تعيينه حاكما على السودان في ١٨٨٤م لإخلاءه من السيادة المصرية!!!. إذن لقد ألقت تركة عهد الخديوي إسماعيل بكلكلها على السودان وشعبه مما سوف يكون له أكبر الأثر في تطور مجرى الأحداث خصوصا الإنشقاق في قاعدة الحكم في السودان بعد حظر تجارة الرقيق. فلقد كانت المجموعة النيلية داخل قاعدة الحكم التركي في السودان تقتات بشكل أساسي من هذه التجارة وبإنهيارها إنهار التحالف القائم بين الأتراك والمجموعات المحلية بإنهيار قاعدة التبادلية الأساسية (الريع مقابل الأمان) وهكذا كي نختبر في هذه المرحلة بشكل حقيقي دقة وموثوقية منهج تحليلنا القائم على المقاربة الثنائية التي تدامج بين التحليل البنيوي والتحليل الفاعلي وهو ما سوف تكشفه مقاربتنا لنشوء وتبلور الثورة المهدية إنطلاقا من الحلقة القادمة ولله المثل الأعلى..نواصل.
                  

02-07-2025, 09:32 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11355

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    كدا تمام
    Quote: وهكذا كي نختبر في هذه المرحلة بشكل حقيقي دقة وموثوقية منهج تحليلنا القائم على
    المقاربة الثنائية التي تدامج بين التحليل البنيوي والتحليل الفاعلي

    دي حاجة جديدة وطموحة وتعد بالكثير المثير
    يبدو أن مجهودات الشيخ في تاسيس التحليل التفاعلي بدت تأتي أكلها
    بالتوفيق
                  

02-07-2025, 09:56 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11355

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    يا عادل أمين
    صبرا يبل الأبري
    Quote: سلام صهيب
    التحليل كويس.... الحل، كيف؟؟

    التحليل لسه ما نضج، مستعجل الحل مالك؟؟؟
    يعني التشخيص لسه شغال في داعي الدكتور يكتب روشتة العلاج؟؟؟
                  

02-08-2025, 00:58 AM

عبد الصمد محمد
<aعبد الصمد محمد
تاريخ التسجيل: 12-12-2004
مجموع المشاركات: 1547

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    سلام صهيب وشكراً على الجهد المقدر

    أنا كنت أتمنى أن أدرس علوم سياسية لأفهم كيف ممكن تحليل سياسي أو فكري بتعمل في مجريات الحياة السياسية والإجتماعية فأرجو لو سمحت تشرح لي بتبسيط كيف بيتعمل التحليل البنيوي مع التحليل التفاعلي بأمثلة من تجربتك في هذا المقال
    تحياتي
                  

02-08-2025, 07:42 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: عبد الصمد محمد)

    العزيز ع. الصمد شاكر للاهتمام والمرور.المطلع على منهج التحليل الفاعلي يعلم أنه تطوير لمنهجية البنيةالذهنية لدى ليفي ستراوس ولكن باختلاف هو أن استاذنا الشيخ محمد الشيخ قدصنّفها كبنيوية خطية بينما صنف التحليل الفاعلي كبنيوية لا خطية لأنها لا تعتمد مفهوم البنيةالواحدة بل يمكن لأكثر من بنية الاشتغال معا وهو نقاش قطعا سوف يجد حظه بعد اكتمال العمل بإذن الله.. تحياتي

    (عدل بواسطة صهيب حامد on 02-08-2025, 07:43 PM)

                  

02-08-2025, 07:31 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    تحياتي Nasrوسلام مرة أخرى..

    يبدو أنك على معرفة باستاذنا الشيخ محمد الشيخ ومنهجبته (التحليل الفاعلي)
    هذه أول محاولة لتطبيق هذا المنهج في مجال العلوم الانسانية قي السودان وكم
    كنا نتمنى لو انه لم يزل على قيد الحياة (رحمه الله) ليكون فخورا بما أنجز.. تحياتي عسى
    أن نستفيد من متابعتك
                  

02-08-2025, 07:50 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٠-١٥)🛑

    ✒️ صهيب حامد

    وكما أبنّا في الحلقة السابقة فلقد ألقى تدهور الوضع السياسي والإقتصادي بمصر بظلاله على الأوضاع بالسودان خصوصا في حقبة الخديوي إسماعيل (١٨٦٣-١٨٧٩م). لقد تزايد النفوذ الغربي بمصر (خصوصا بريطانيا) وهو ما أدّى لتقليص الإعتماد على الحكمداريبن الأتراك في السودان وأٌستعيض عنهم بإداريين أوروبيين (غردون، سلاطين، د.أمين، صمويل بيكر وغيرهم) وهو مؤشر يعكس متغير في البنية السائدة من هنا فصاعدا. إذن كذلك ومنذ إنشاء قناة السويس في ١٨٦٩م تزايدت الأهمية الإستراتيجية لمصر مما حدا فكثير من القوى الدولية التكالب عليها وأولها بريطانيا التي إرتبطت بالهند كأهم مستعمرة لها ودرّة تاجها بالشرق. وبذا صارت قناة السويس الممر الأقرب المؤدّي إلى هناك بدلاً عن رأس الرجاء الصالح (Cape of good hope) فإهتبلت هذه الأخيرة الفرص (منها أزمة الدين) ففرضت الوصاية أولا على مصر ثم إحتلتها في ١٨٨٢م كي يصبح اللورد كرومر (Evelyn Baring, 1st Earl of Cromer) المندوب السامي البريطاني هو الحاكم الفعلي لمصر. إذن أصبحت مصر ومعها السودان ملحقين ببنية إستعمارية أضخم ، لتجد المجموعات النيلية التي مثّلت المركزي العروبي في السودان وقد صارت ركائز أساسية في بنية العقل البرجوازي الذي مثلت مصر محمد علي باشا لحمته وسداه ، أقول وجدت فجأة نفسها بعد التطورات الأخيرة على هامش بنية عقل برجوازي عالمي جديدة تسيطر عليها بريطانيا التي سيطرت كذلك لتوها على مصر وبله وبضربة لازب دانت لها السيطرة في السودان. ونتيجة لذلك وجدت مجموعات المركز العروبي في السودان نفسها في حالة إغتراب داخل البنية المسيطرة خصوصا بعد أن دان الأمر للأوروبيين داخل جهاز الحكم والإدارة بالسودان. كذلك أنّ أحد الأسباب الأساسية لحالة الإغتراب التي إجتاحت مجموعات المركز العروبي في السودان تمثّلت في تطور دولي خطير وهو أن نتائج الحرب الأهلية الأمريكية (١٨٦١-١٨٦٥م) والتي إنتهت بإنتصار الشمال الصناعي على الجنوب الزراعي (القطن والتبغ وغيره ) قد تمخضت عن حظر تجارة الرقيق بشكل نهائي بمرسوم أبراهام لنكولن الشهير وهو أمر إنعكس على وضع هذه التجارة عالميا ، إذ أن العالم الصناعي بعكس العالم الزراعي كان يجنح لإبطال تجارة الرقيق التي صارت تؤثر بشكل مريع في تقليص الطلب على البضائع المصنعة نتيجة الإهلاك والإستنزاف البشري الذي تحدثه في المجتمعات المستهدفة ، بعكس العالم الزراعي مثل الجنوب الأمريكي الذي يعتمد في قوته العاملة على الرقيق وليس الميكنة ، كذلك وبعد جنوح القوى الإمبريالية في إقامة مشاريع العمالة المكثفة بالدول المستعمرة نفسها صار محتّماً إبطال هذه التجارة لتوفير العمالة لهذه المشاريع. إذن ساندت بريطانيا كدولة مصنعة أبراهام لنكولن في إبطاله تجارة الرقيق ، وبله أرغمت بريطانيا مصر في ١٨٧٧م للتوقيع على إتفاقية القاهرة القاضية بالحظر النهائي لهذه التجارة ليس في مصر فحسب بل في السودان وإثيوبيا كذلك.

    هنا حدث التفتت التدريجي لقاعدة التبادلية في السودان (الريع مقابل الأمان) بين الإدارة التركية (التي لم تعد تركية) ومجموعات المركز العروبي. فلقد مثّلت تجارة الرقيق إبتداءا من دخول الأتراك السودان العصب الرئيسي للإقتصاد في المجتمع السوداني ، ليس للرقيق كسلعة فحسب ولكن الرقيق كحمالين للبضائع الثمينة خصوصا العاج (سن الفيل) والابنوس وريش النعام إذ كانت الابل أغلى سعرا من الرجال المسترقين. لقد تحملت الإدارة التركية عبء دفع الثمن السياسي لحظر تجارة الرقيق وهو ما وضعها في مواجهة حلفائها من تجار الرقيق المحليين الذين بمرور الوقت وصلوا اخيرا لوضع من الأهمية (مادياً وسياسياً) يكاد يوازي رجال الإدارة الأتراك مثل الزبير باشا الذي إستطاع أن يقيم إمبراطوريته الخاصة ليهزم أولا الرزيقات ثم يضم بجيشه مملكة دارفور لصالح الخديوي. كذلك إلياس باشا الذي نصبه غردون باشا مديرا لمديرية كردفان بدلا عن محمد سعيد باشا (جراب الفول) وأحمد بك أبو سن الذي عين مديرا لمديرية الخرطوم وقبله آدم باشا العريفي (من بطون قبيلة دار حامد) الذي أصبح حكمدارا للسودان لدى مبتدأ سبعينيات القرن التاسع عشر كما أورد نعوم شقير في (جغرافية وتاريخ السودان). وهكذا إضمحل تأثير هذه النخبة المستعربة تدريجيا فإنسحبت من قاعدة الحكم في السودان الذي أضحى يسيطر علىه مركز وعي برجوازي جديد له أولويات لم تستطع هذه النخبة إستدماجها وبله تطور التوتر بين هذه الأخيرة والإدارة في السودان إلى أن ظهرت نذر المهدية في البلاد.

    محمد أحمد المهدي ظهر كمصلح ديني منتم للبنية المستفيدة من الحكم التركي آنذاك ، فهو من مجموعات الدناقلة المستعربة التي عمل آبائهم مع محمد خير الأورباوي (المراكبية) وهي المهنة التي إمتهنها المهدي نفسه في مقتبل حياته . ولكنه كمستبصر ديني وجد نفسه في حالة إغتراب عن الهموم البرجوازية التي إجتاحت مجتمعه النيلي آنذاك وهي هموم لا تتجاوز إحتياز المنافع المادية. لذا فلم يكن له من مناص سوى الإستجابة لنداء أوّل منادي (عبد الله ود محمد تورشين) للتوجه غربا لكردفان. هناك وجد المهدي الإطار الثقافي والإجتماعي مستعداً لقبول دعوته وتم الإلتفاف الأوّلي حوله خصوصا وأن السيد المكي بوجاهته الدينية والإجتماعية قد مثّل أوّل هؤلاء الملتفين.هل الإلتفاف حول المهدي كان بلا أجندة سياسية وإقتصادية؟.. لقد كان عبد الله ود محمد تورشين جزء من مؤسسة الزبير باشا ود رحمة ولكن لخلاف بين الإثنين حول محاولة الأول إقناع الأخير إستخدام المهدية كرافعة سياسية مع رفض وتعنيف الأخير لود تورشين الذي إتجه شرقا، فقد كان الزبير باشا واثقا من قدرته على إختراق مؤسسة الإدارة التركية في السودان بل مصر نفسها دون أي رافعة وهو ما ندم عليه فيما بعد. هل كان فعلا كل من حمدان ابو عنجة والنور عنقرة وآخرين من (الخطرية) جزء من موسسة الزبير باشا ممن إلتقطهم ود تورشين فيما بعد؟ هل أصبح إلياس باشا ام برير بعد عزله من منصب مدير مديرية كردفان بعد مؤامرة قريبه أحمد بك دفع الله مع محمد سعيد باشا وتحريضهم للشيخ علي كنونة زعيم الغديات ، اقول بعد ذلك صار من أقوى مناصري المهدي!!؟.. هل كان عبد الرحمن النجومي من عتاة تجار الرقيق وقد ألحقت به سياسات غردون أشد الضرر!!؟.. هل كان عثمان دقنة هو المورد الأساسي لهذه التجارة عبر ميناء سواكن إلى الحجاز وقد ألحق توجيه غردون للحامية الإنجليزية بسواكن بمنع ذلك أشد الضرر على تجارته!!!؟..بلا مواربة أن كل ما قيل انفاً هي الحقيقة بالف ولام العهد والتي كان تاريخنا دالة في تجاهلها عمدا أو عبر اللاشعور للحفاظ على توازن المركز العروبي في السودان!!. الثورة المهدية كانت في جزءها الواعي وديناميتها السياسية مؤامرة تجار الرقيق في السودان ضد قاعدة الحكم التي طالما تشاركوها مع حليفهم التركي الذي بدوره قد سيطرت عليه بنية وعي أكبر (الإحتلال البريطاني لمصر).

    لقد كان المهدي هو قنطرة هذه المجموعات المناسبة لسحب مجموعات بنية الوعي التناسلي التي طالما تناستها نفس هذه المجموعات وإستغلتها وأفقرتها ونهبت مواردها لصالح المستعمر التركي ، فالخطاب المهدوي يتناسب مع خصائص بنية العقل التناسلي التي مثلتها مجتمعات الغرب والجنوب وجنوب الوسط التي تم إستبعادها من برنامج العطاء طيلة حقبة الحكم التركي لصالح فئات الأتراك والمجموعات المستعربة في الشمال النيلي. فالوعي التناسلي كما يقول أ. الشيح محمد الشيخ في تحليله الفاعلي يسود في ظل تهديد النوع (استنزاف تجارة الرقيق) فيكون نظامه الإجتماعي قائما على مفهوم القرابة وكذلك نفسيا لا يعي الإنسان في ظل هذه البنية نفسه إلا ككائن تناسلي لتعويض الإستنزاف البشري الذي يتعرض له وتكون أبستيمة هذا الوعي (النظام المعرفي) غيبية إتكالية وليس توكلية لذا سادت في السودان آنذاك فكرة إقتراب ظهور المهدي المنتظر الذي يملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا وفساداً وهي أطروحة دينية غيبية مستلفة من الإسلام الشيعي وقد إنتقلت إلى البيئة السودانية عبر التصوف الغنوصي المنتشر توا لدى نهاية القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر بالسودان. إذن تناسب الخطاب المهدوي مع وعي هذه البنية التي آمنت بالمهدي كمهدي منتظر فعلا ، بينما آمنت مجموعات المركز العروبي في الشمال النيلي في نفس ثنايا هذا الخطاب به كمهدي منتصر بكلمات استاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد في كتابه الركيزي (السودان.. المأزق التاريخي وآفاق المستقبل). وهكذا تم تجييش مجتمعات الغرب والجنوب وجنوب الوسط لصالح الثورة الجديدة التي إستطاعت فعلا الإطاحة بالحكم التركي وقتل غردون في ٢٦ يناير ١٨٨٥م كي يبدأ السودان حقبة جديدة لحمتها وسداها بنية العقل التي إستقالت أو أنتحت قبل ستين عاما خلت منذ سقوط حكم البلاط السناري في ١٨٢١م (بنية العقل التناسلي ). إذن ما هي النتائج التي سوف تجنيها قوي المركز العروبي من خلال كل هذا التطور وصاعدا وهو ما سوف نتابعه تباعا ولله المثل الأعلى.. نواصل
                  

02-09-2025, 08:46 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🛑آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟.🛑 (١١-١٥)

    ✒️ صهيب حامد

    حسنا.. إذن وكما أجملنا في الحلقة السابقة فلقد سيطر المهدي على مقاليد الحكم في السودان وهو ما أذّن بنهاية سيطرة بنية العقل البرجوازي فيه بكافة أشكاله الدولي منها (بريطانيا) أو الإقليمي (مصر الخديوية) أو المحلي (المركز العروبي في السودان). لقد مثّلت المهدية مظهرا سياسياً للمجتمعات التي ساندتها غربا وجنوبا وجنوب الوسط وهي مجتمعات قد إستدمجت بنية وعي تناسلي بالخصائص التي أوضحناها فيما سبق. وبالطبع إننا وفي إطار المنهج البنيوي بشكليه لا نفهم التطور بشكله التصاعدي فحسب ، أي لا نفهم أن بنية العقل البرجوازي أكثر رقيا من بنية العقل التناسلي ، فحسب التحليل الفاعلي (الشيخ محمد الشيخ) فكلتاهما تحتازا وعي قصور وليس وعي فاعلية ، كذلك كلتاهما بنيتان مستغلقتان لأن برنامج العطاء في سياقهما لا يفيض وليس مفتوحاً. ذلك جانب ، أما على الجانب الآخر فإننا في سياق هذا التحليل لسنا بصدد محاكمة جوهرية الدعوة المهديةكرؤية حقة أم كاذبة بل مهمة هذا التحليل هي سبر وظيفيتها كتحويلة لبنية وعي أكبر (بنية وعي برجوازي دولي تمثلها بريطانيا) إستخدمتها أو وظفتها لصالح إضعاف قوى أضعف (بنية وعي برجوازي مثلتها مصر) كي يستدمج كل ذلك في البنية العظمى لتستخدم لا شعوريا وبشكل غير واعي. أو كذلك أستخدمت كتحويلة لخلق السودان الحديث الذي نعلمه اليوم ، فالثورة المهدية نعتبرها ثورة نضال وطني ليس لأنها حررت السودانيين من العسف الأجنبي (فهي في النهاية أوقعتهم في عسف أعظم) بل بالدرجة الأولى تكتسب ثوريتها لأنها دامجت بين المحورين الأساسيين لسودان اليوم (الفور والفونج) وذلك هو الدور التاريخي الذي أدتّه بتفاني وهو دور يثير إلى اليوم حنق بعض وغبطة بعض آخر.

    هل إستفادت قوي المركز العروبي من الثورة المهدية كما أملَت؟.. بلا شك فلقد إستطاع هذا المركز عبر دعم المهدي إسقاط قاعدة الحكم القائمة آنذاك (الإدارة التركية) ولكنها (أي قوى المركز العروبي كجزء من بنية الوعي البرجوازي السابق) وجدت نفسها في مواجهة القوى الإجتماعية لبنية وعي مغلقة مثلها (بنية وعي تناسلي) ، أي كلتاهما بني مغلقة فيما يتعلق ببرنامج العطاء!!. إذن وإبتداءا من موت المهدي سيطرت على مقاليد الحكم بالدولة المهدية الجديدة قوي إجتماعية تستدمج بنية وعي مختلفة وحساسية إجتماعية مختلفة وهو ما صنع توتر (البٌنَى) طوال حقبة المهدية. لقد خدمت المهدية كمتلازمة لإضعاف مصر الخديوية التي طالما إعتبرت السودان من أملاكها الأكثر أهمية وهو مدخلها للسيطرة على مياه النيل عصب الحياة بمصر. لقد لعبت المجموعة البريطانية التي أشرنا إليها في حلقات سابفة (Sudan Lobby) أدواراً خطيرة للضغط على الحكومة البريطانية و على اللورد كرومر كذلك بمصر لإخلاء السودان حتى قبل إستيلاء المهدي على الحكم في السودان.

    يقول جمال الشريف في كتابه الركيزي الصراع السياسي على السودان "كانت جماعات الضغط وقبل قيام الثورة المهدية في ١٨٨١م تنادي بوقف التمدد المصري في حوض النيل وكانت قطاعات مختلفة من المجتمع البريطاني ترفع العرائض والشكاوى تطالب الحكومة البريطانية بالتدخل لوقف ذلك التوسع". يستطرد الشريف "بعد قيام الثورة المهدية في ١٨٨١م ثم إحتلال مصر في ١٨٨٢م أصبح هناك نوع من الإرتباط بين السياسة البريطانية وبين قضايا السودان ومصر فأصبح من المتاح إستغلال السياسة البريطانية لتحقيق الأهداف التي تنادي بها جماعات الضغط". يواصل الشريف" وبتعاظم الثورة المهدية وخصوصا بعد هزيمتها لقوات هكس باشا إضافة إلى الظروف المالية الحرجة التي كانت تمر بها مصر ، إستغلت جماعات الضغط تلك الظروف ونجحت في تمرير قرار إخلاء السودان من المصريين بحجة أن المالية المصرية لا تستطيع تحمل تكاليف مواجهة الحركة المعدية ، ومع أن مصر رفضت قرار الإخلاء إلّا أنه تم فرضه عليها". كذلك يشير الشريف في المرجع نفسه أن الهدف ليس إزاحة مصر من السودان فحسب بل من كل المناطق التي كانت جزء من إمبراطورية محمد علي باشا كإرتريا والصومال وبعض أجزاء من الحبشة. لقد تم تصميم خطة جماعات الضغط بالضغط على مصر لإخلاء السودان ومن ثم إدخال قوات بريطانية تحت إدعاء إنقاذ غردون باشا على أن تبقى هذه القوات لتقوم بتصفية المهدية وحكم السودان بعد ذلك. يقول الشريف "بالحصول على قرار إرسال حملة إنقاذ غردون قامت جماعات الضغط وعن طريق وزارة الحربية والجنرال ولزلي أحد عناصر اللوبي والذي لعب الدور الأساسي في تعيين غردون بالتلاعب بقرار الحملة.فالجنرال ولزلي الذي أصبح قائدا لحملة الإنقاذ بطريقة ملتوية قام بتحويل مهمة الحملة من إنقاذ غردون إلى إستعمار السودان وذلك عن طريق توسيع قوات الحملة بتجنيد مرتزقة من مختلف أنحاء العالم ". يشير الشريف مسهباً انه ونتيجة لذلك إرتفعت أعداد قوات الحملة من قوة قوامها ١٥٠٠ جندي إلى قوة كبيرة بلغت ٢٣ الف جندي، كما إرتفعت تكاليفها من ٣٠٠ الف جنيه استرليني أجازها مجلس العموم إلى ٨ مليون جنيه إسترليني لم يعرف إلى الآن من أين تم توفيرها!!.

    حسناً..ذلك من يد ، اما من اليد الأخرى فلقد أحدثت المهدية منعطفاً أعادت عبره تعريف السودان الذي صار بعدها ليس كما عرفه الناس قبلها!!. لقد ألحق الزبير باشا بجيشه الخاص دارفور لأملاك الخديوي في ١٨٧٤م وهو ما أشّر لخطورة المركز العروبي ونمو قدراته بشكل لم يتوقعه الأتراك أنفسهم. ولكن عبقرية المهدية كانت أعظم وقد تمثلت في قدرتها على إستدامج فعاليتي الفور والفونج في بنية سياسية واحدة وليس ذلك فحسب بل الإنفتاح على كافة مكونات الحزام السوداني الممتد من المحيط الأطلسي غربا الى البحر الأحمر والهضبة الأثيوبية شرقا وهو الجهد الذي لم نزل نسير بعجلته منذ ١٤٠ عاماً خلت. حسنا.. وبنفس المنهجية التي إستعرضنا بها حقبة الفونج فليس من مناص ولمعالجة حقبة المهدية سوى القيام بإستعراض حقبة مملكة الفور وتفاعلاتها تمهيدا لإعادة قراءة وتأويل ما حدث في المهدية وكيف تم إدارة صراع البنيات وكيف تفاعلت المكونات داخل المفاعل المهدوي مع تطورات الأحداث وماهي المؤثرات التي حكمت سلوك تلك المكونات وماذا تمخض عن كل ذلك!!؟. ذلك ما سوف نقوم به أبتداءاً من الحلقة القادمة ولله المثل الأعلى..نواصل.
                  

02-09-2025, 11:20 PM

Nasr
<aNasr
تاريخ التسجيل: 08-18-2003
مجموع المشاركات: 11355

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    يا صهيب
    Quote: يبدو أنك على معرفة باستاذنا الشيخ محمد الشيخ ومنهجبته (التحليل الفاعلي)
    هذه أول محاولة لتطبيق هذا المنهج في مجال العلوم الانسانية قي السودان

    حضرت مع المرحوم الشيخ كم حلقة نقاش لمنهجه هذا في منزله في أم درمان في منتصف تمانيات القرن الماضي
    والحق يقال
    أنني فهمت القليل مما جاء به الشيخ
    ما في مشكلة تاني نمشي نقراه ونستعد للحوار معك
                  

02-10-2025, 08:01 AM

محمد عبد الله الحسين
<aمحمد عبد الله الحسين
تاريخ التسجيل: 01-02-2013
مجموع المشاركات: 11562

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    سلام وتحية يا أخ صهيب

    نتابع جهدك المقدر..

    التعليق بعد إكتمال الصورة.

    بالتوفيق يا رب
                  

02-10-2025, 10:08 AM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: محمد عبد الله الحسين)

    م. عبد الله تحياتي وتقديري
    لمرورك والمتابعة
    شاكر
                  

02-12-2025, 07:24 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    لمزيد من القراءة
                  

02-10-2025, 09:40 AM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: Nasr)

    Nasr تحياتي

    ما حضرته في ذلك الوقت من منتصف ثمانينات القرن الماضي
    هو الجهد الفلسفي السوداني الأكثر جدية الي اليوم
    للأسف الشديد.. إذ لم يقدم لنا منتسبي أقسام الفلسفة بالجامعات السودانية ولو عشر
    ما قدمه استاذنا الشيخ.. لذا وصفته باستاذ اساتيذ الفلسفة في السودان بالف ولام العهد.. تحياتي
                  

02-13-2025, 08:34 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    لمزيد من القراءة
                  

02-14-2025, 09:05 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    آيديولوجية المركز العروبي في السودان..كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟ (١٢-٢٠).

    صهيب حامد

    حسناً..إذن وكما وعدنا في الحلقة السابقة وفي إطار فزلكة ديالكتيك البنى الذي حدث في المهدية ، يجمل بنا عرض ما حدث بدارفور في الفترة من ١٦٤٠م إلى ١٨٧٤م كما فعلنا بخصوص حقبة الفونج تمهيدا لتفسير (جدل التركيب) الذي لم يزل تحملنا عجلته الي اليوم بمصطلح أستاذنا محمد أبو القاسم حاج حمد. وكما هي مصر هبة النيل فكذلك هي دارفور في الفضاء الذي حكمته سلالة الكيرا في الفترة من ١٦٤٠-١٨٧٤م ، نقول أن التنظيمات السياسية والإجتماعية والإقتصادية لدارفور وجزء كبير من كردفان وبعض أجزاء السودان الأخري لهي بألف ولام العهد هبة هذه السلطنة!!.

    تقع دارفور - المسرح الذي قامت عليه السلطنة فيما بعد- بين خطي عرض ١٠" و١٦" شمال وخطي طول ٢٢" و٢٦" شرق وهو الموقع الذي منحها إستطالتها شمالاً وجنوباً. يقع في قلب هذا المستطيل بالضبط جبل مرة وهو مرتفع يمتد ٧٠ ميلا من الشمال للجنوب و٣٠ ميلا من الشرق للغرب إضافة لسهلين أحدهما الغربي وهو طيني يشقه وادي (أزوم) أكبر وديان دارفور الذي ينحدر من جبل مرة غربا ليصب في بحيرة تشاد تحت مسمّى نهر شاري. شرقاً من الجبل توجد كثبان رملية يقطنها في الخريف العرب الرحل لقبائل الرزيقات والمعاليا والهبانية والفلاتة وغيرهم. تقع دارفور ضمن ما يسمى بالحزام السوداني (Sudanic belt) وهو ممتد جغرافي بلا موانع من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر لا ينقّصه إلا بعض الكثبان والسيوف والتلال الرملية التي تفصل بين كردفان ودارفور. لذا فإن الإرث الثقافي والحضاري والسياسي لسلطنة دارفور شئ ليس بدعاً عن ممالك هذا الحزام ، بله فحين دراسة سلالة الكيرا التي سيطرت على بلاط سلطنة دارفور لا غنى عن الإطّلاع على تراث كل من ممالك ودّاي وكانم برنو وباغرمي وصونغي (Songhay) ومملكتي غانا ومالي لتفهم ما إلتبس على المهتمين بخصوص أصول وجذور تنظيمات وعادات ونظم سلطنة الكيرا وبالعكس ، بالطبع كذلك لتفهم التاريخ الغامض لكل من مملكتي التنجر والداجو السلفين الشرعيين لسلطنة كيرا.

    شعب الفور من موطنه بجبل مرة هو المؤسس للسلطنة التي عمّرت في الحقبة من ١٦٤٠م إلى ١٨٧٤م والتي يسميها البعض بسلطنة الكيرا ويسميها بعض آخر بسلطنة الفور ، ولا غضاضة إن إستخدمنا الأسمين للدلالة على نفس المسمى في هذه السلسلة من الحلقات. يقول بيتون وكوك أن أصل الفور من الفرتيت ، إذ أن فر Fir (بكسر الفاء) أخ لفيرات Firat ، ولكن وإبتداءا من القرن الخامس والسادس عشر بدأت الأسلمة التدريجية لشعب الفور وبذا فإن جزء الفرتيت الذين لم يدخلوا في هذه العملية بدؤوا في التقهقر التدريجي جنوبا كي ينضمّوا لمزيج من الشعوب والقبائل هناك وبالعادة سماهم أهل دارفور جميعاً بالفرتيت. يشير هولت في معرض تفسيره لعملية أسلمة وإستعراب الفور لأهمية تأثير عنصر ثقافي أسماه بالحكيم الغريب (Wise stranger). يقول هولت مستطردا أن نموزج الحكيم الغريب لم يبدأ مع الممالك السودانية الإسلامية الوسيطة التي يمكن التأريخ لها أبتداءاً من القرن الخامس والسادس عشر على طول الحزام السوداني ،فمثلا وقبل ظهورها في سنار فهي إنتشرت على طول الممالك النوبية المسيحية التي تأسست بين ٣٥٠م - ٥٥٠م على طول النيل. كذلك وقبل إجتراح نموزج الحكيم الغريب لتفسير تأسيس سلالة الكيرا بدارفور فهي أيضا برزت في أوساط سلطنة التنجر لتفسير إنتقال السلطة للأخيرين من سلطنة الداجو. ولكن مع دخول الإسلام أخذ نموزج الحكيم الغريب يأخذ طابعا إسلاميا عربيا. وهكذا فإن تجاوز سلالة التنجر الحاكمة بواسطة سلالة الكيرا ينسب لأحمد المعقور وهو رجل عربي من أصل هلالي ينسب لأبي زيد الهلالي من شمال أفريقيا. أحمد المعقور أتى دارفور مطرودا من قبل أخيه بعد خلاف حول زوجة الأخير، كي يجد نفسه في ضيافة ملك التنجر (شو دورشيت)، للغرابة ولطاغية شهير ك(دورشيت) فلقد رحّب بالضيف العربي وزوّجه إبنته لإعجابه بأساليبه الحضارية في تنظيم تناول الطعام بين رعايا السلطان. إذن تعود أسباب إنتشار الإسلام بدارفور وسط التنجر ومنهم لشعب الفور لأحمد المعقور الذي بدأ وسلالته أولا بتلقين وتدريس السكان المحليين العادات المتحضرة وأولها الإسلام كي يتزوج أبنائه فيما بعد داخل فرع الكنجارة من الفور مكونيين سلالة الكيرا (من خَيٓرة) مدشّنين سلالة جديدة مقدّسة داخل الإطار الإجتماعي الذي إستضافهم. من هذه الرواية أعلاه يقترح (اوفاهي) أن الإسلام وسلالة الكيرا إنتشرا وإكتسبا النفوذ متساوقان بدارفور ، وهكذا خدم الإسلام كعامل للتماسك الإثني داخل السلطنة ، وإن كان سهلا ملاحظة أن هذا الإختراق كان ممكنا لسببين الأول هو خصوصية العلاقة التي تنشأ بين الرجل وإبن أخته أو إبنته في السياق الإجتماعي لمجتمعات الحزام السوداني عامة ومجتمعات الفور على وجه الخصوص ثم ثانياً هشاشة مجتمعات الفور بشكل إستثنائي إزاء الأثر الثقافي والروحي الوافد (الحكيم الغريب).

    يمكن تصنيف دارفور كجزء من السودان الأوسط (السودان الغربي يشمل من السنغال إلى ودّاي تشاد الحالية والسودان الشرقي يشمل السودان النيلي وكردفان) ، لذا فهي تحوي طيفاً واسعا من الأعراق والأجناس. فإن كان الفور دوما هم غالب سكان هذا الإقليم ولكن كذلك فهناك المساليت إلى الجنوب الغربي من جبل مرة ، القمر للغرب من الفور وكذلك التامة في الشمال الغربي من هؤلاء الأخيرين، كذلك هناك الزغاوة بفروعهم المختلفة في الجزء الشمالي الغربي لدارفور والبرتي كشعب عظيم وكبير لا يقل كثيرا عن الفور الذين يمثلون قوام دار دالي والميدوب والبرقد العرقان اللذان يعتقد أنهما ذوي أصول نوبية نيلية، الأول بأقصى شمال دارفور والأخير إلى الشمال من جبل مرة. كذلك هناك البيقو والمراريت والداجو والتنجر. يعتقد بشكل كبير أن أثر الأسلمة والإستعراب بدارفور قد أفقد بعض هذه الأعراق لغاتها الأصلية لصالح اللغة العربية مثل البرتي والبرقد والتنجر . هناك القبائل الوافدة مؤخرا مع المجموعات العربية مثل الفلاتة والبرنو ومجموعات الفقرا من الجوامعة. أما المجموعات ذات الأهمية البالغة بدارفور في العصر الحديث فهم العرب الرحل الذين دخلوا دارفور خلال القرن الثامن عشر وهم بالترتيب من الغرب للشرق جنوب جبل مرة التعايشة ، البنى هلبة ، الفلاتة ، الهبانية ثم اخيرا الرزيقات والمعاليا وهؤلاء جميعا يصنفون كعرب بقّارة. كذلك هنالك مجموعات العرب الرحّل الابّالة الذين يقطعون بشمال دارفور في المنطقة الصحراوية وهم الزيادية والمحاميد والماهرية والعريقات ، وبالطبع المجموعات الثلاث الأخيرة يصنفون كذلك كعرب رزيقات عدا انهم يختلفون عن أخوتهم الجنوبيين كرعاة للإبل. لقد ساد قدر عال من التوتر بين مركز سلطنة الفور وبين المجموعات العربية المترحلة خصوصا البقارة الذين يقطنون جنوبا وهو طريق حملات الغزو التي تمارسها السلطنة لجلب الرقيق ، وان كانت أسباب التوتر مع مجموعات العرب الابّالة تتخفف لسببين أولهما قرب هؤلاء الأخيرين من سرير السلطنة وهو ما يلزمهم بالسلوك الحسن أما ثانيا فدمجهم في الدورة الاقتصادية لتجارة القوافل من (كوبي) إلى مصر عبر درب الأربعين كموردين لجمال القوافل مما جعلهم مستفيدين من عوائد هذا النشاط التجاري المهم. لقد عاشت في أرجاء سلطنة الفور قبائل عربية أخرى مثل دار حامد ودار حمر وإن انتقلت الأولى لكردفان لتوتر بينها والسلطان محمد الفضل ، أما الثانية فعاشت هناك لنهاية السلطنة إنطلاقا من سرير مشيختها بأم شنقة قبل إنتقال مركزها إلى النهود في فترة الحكم الثنائي..نواصل.
                  

02-17-2025, 08:15 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🔴آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٣-٢٠)🔴

    ✒️ صهيب حامد

    جذور الحاكورة الدارفورية :

    حسنا.. وكما أسلفنا فلقد نشأت سلطنة (كيرا) ضمن حدود جبل مرّة ، ويبدو أن ذلك قد بدأ قبل قرن أو يقل من إعتلاء أبا كوري (السلطان) سليمان سولونغدونقو العرش وهي حقبة لم تمتد فيها السلطنة لأكثر من الجبل نفسه والفضاء الجنوبي والغربي له.ولكن من المؤكد أن هذا الأخير هو الذي بدأت معه الروح الإمبريالي الإسلامي التبشيري في السلطنة وهو ما حدى به للتوسع رويدا رويدا شمالا وشرقا من منطقة النفوذ التقليدي للسلطنة. لم يذيع صيت سلاطين الكيرا قبل (سولونغ) لما يبدو أنهم حصروا دورهم ضمن الدائرة الضيقة للفور كإثنية ولجبل مرّة كحيز مكاني ،كما أنهم لم يمارسوا السلطة بمعناهاالزماني (Temporal) بل بالمعنى الروحي التبشيري وبذا إستطاعوا صنع التغيير الحضاري والثقافي للفور تمهيدا للمرحلة الكوزموبوليتاتية الإمبريالية التي إبتدرها السلطان سولونغ. فحسب ليفي ستراوس فإن الكاريزما السلطوية (الزعامة) لا تظهر بسبب أن هناك إحتياجاً لزعيم ضمن مجموعة ما ، إنما يظهر الزعماء لأن هناك رجال يستمتعون بالمكانة لذاتها ويشعرون بجاذبية قوية نحو المسؤولية ممن تأتي لهم أعباء الأمور العامة بمكافآتها الخاصة. إذن حملت كاريزما وطموحات (أبّا كوري) سليمان سولونغ الفور للتوسع شمالا وشرقا ، ولكن بعد التوسع الإمبريالي بدأ سولونغ والسلاطين من بعده الإحساس بأهمية دمج المجموعات الإثنية (غير الفوراوية) في مناصب الحكم في سبيل بناء الكيان الإمبريالي الذي يسع الفور وغيرهم. ومن هنا كما يشير (أوفاهي) بدأ التفكير الجاد لبناء نخبة سياسية لا يتأسس وجودها في الحكم على الحقوق الموروثة (heiriditary) بل على الوظائف التي يقومون بها (Titles).

    لقد دشن ظهور سلالة الكيرا من نسل أحمد المعقور للتحول التدريجي للفور من بنية العقل التناسلي الذي أتاح لأبناء وأحفاد المعقور وراثة السلطة عبر أمهاتهم من فرع الكنجارا (خيرة التي تنطلق كيرا بلسان الفور) ، أقول دشن ذلك للتحول إلى بنية عقل برجوازي تجلّى لدى السلطان سولونغ. إن طبقة البلاط المتنوعة أو التي أسميناها بالنخبة المختلطة التي ظهرت في الفونج بعد إعتلاء بادي الرابع العرش في ١٧٢٤م ، هي أهم سمات الانتقال أو النمو الجنيني لبنية الوعي البرجوازي والذي لا يتأتّى إلا بخلق التوافق الذي يدمج القوى الإجتماعية عبر ممثليهم في طبقة البلاط. فالسلطان يمارس سلطته عبر النخبة السياسية المتساوقة والمنسجمة فتزدهر البلاد ويتم ضمان الإستقرار. إذن المهمة الأساسية لأبّا كوري (السلطان) لممارسة السلطة لدى (الكيرا) هي خلق التوافق ، وهو ما يؤكد أهميته ليفي ستراوس في (البنى الأولية للقرابة) مؤكّدا أن التوافق هو في الوقت ذاته أصل وحدّ القيادة.. التوافق هو الأساس النفسي للقيادة ولكنه يعبّر عن نفسه في الحياة اليومية ويقاس بلعبة الأخذ والعطاء التي يلعبها الزعيم وأتباعه. أي نحن مرة أخرى أمام مفهوم التبادلية التي توفرها بنية أي عقل في سبيل بناء الإستقرار. إذن مع من يتبادل السلطان وما هو موضوع هذا التبادل!؟. يخلق السلطان التوافق بممارسة التبادلية مع النخبة السياسية التي تضمن للسلطان الولاء فيضمن لها هذا الأخير الإمتيازات التي تخلق لها المكانة وسط أتباعها بالسلطنة. وفي ذلك ل(الكيرا) إرث عظيم يمتاحون منه عبر حزام ممالك وسلطنات الحزام السوداني (Sudanic states). يقول كوهين وبرنارد في دراستهما لأوضاع الأرض بمملكة (برونو) أن السيّد (Cima kura) يمنح حقوق مباشرة من السلطان (Sheho) لإمتلاك الأرض، و(سيما كورا) يعيش ويمارس مهامه في البلاط مع السلطان ، بينما يدير أرضه عبر الوكيل (سيما قانا) الذي يمارس هذه الوكالة مباشرة عبر وجوده الفعلي في الأرض. وهكذا كي ندرك أن (سيما قانا) هو علاقة (سيما كورا) بالمجتمعات ، بينما (سيما كورا) هو علاقة السلطان بنفس هذه المجتمعات. لذا فإن طبقة البلاط في برنو تتألف من السيما كورات الذين طالما تحسّنت علاقتهم بالناس ساد العدل وحكم السلطان، وكلما حدث العكس ساءت أحوال السلطنة مما سوف يضطر السلطان تغيير طاقم البلاط أو بعضه (التعديل الوزاري)!!.

    إذن يمكننا القول بإطمئنان إننا بذلك وضعنا يدنا في جذر الحاكورة كظاهرة أنثروبولوجية على طول السودان الأوسط والغربي منذ نشوء ممالك صونغي وبرنو ومالي وغانا على طول نهر النيجر وغيره من الوديان النهرية هناك. فيبدو ومبكرا قد أدرك سلاطين (كيرا) أهمية الأرض في الحكم والسيطرة على منوال نظرائهم في الحزام السوداني ، لذا فيؤرّخ أنه ومنذ السلطان موسى (١٦٧٠م-١٧٨٢م) أٌعلن أن الأرض في كافة أرجاء السلطنة هي حق حصري (لأبّا كوري) يمنحها لمن يشاء وينزعها ممن يشاء. لقد ظهرت في بلاط (الكيرا) نخبة في غاية التنوع والأهمية خصوصا بعد أن قل إعتماد السلاطين على الباسينقا (Baasinga) وهم الأقرباء الملوكيين للسلطان من الفور (Royals) والذين كانت تتأسس نخبة البلاط منهم حصريا قبل الانتشار الإمبريالي بواسطة سليمان سولونغ ، إذ أن الطبيعة الإمبريالية الكوزموبوليتاتية للسلطنة إقتضت كما أوردنا أعلاه أهمية خلق التوافق. تباينت النخبة السياسية في بلاط السلطان كسلطة غاية في التمركز (Centralised autharity) من قادة عسكريين إلى فقرا وعلماء دين وتجّار وإداريين وقضاة وغيرهم. كانت الحواكير والألقاب التي يمنحها السلطان لنخبته هي الإمتياز المادي والمعنوي الذي يقوم مقام المكافأة ، ولكن مقابل ذلك يتبادل الممنوح مع السلطان أولا الولاء له إذ أن هذه الحواكير الممنوحة وفق إجراءات وطقوس مرعية ومعروفة عرضة للنزع في حال جاء سلطان جديد أو شك السلطان في ولاء الممنوحة له الحاكورة. كذلك يكون الشخص المحكورة له الأرض مسؤولا عن جمع زكاتها وضرائبها الأخرى (الإتاوات العرفية) وإرسالها لبيت الجباية. إذن تراجعت حظوظ الفور ضمن التيار السياسي الرئيسي للحكم كلما إبتعد البلاط أكثر من جبل مرة وقد بلغ هذا الإغتراب أوجه بعد إنشأ محور (الفاشر-كوبي) على هامش الفضاء الشمالي الغربي لرقعة الفور ، كي ينحصر تأثير الفور فقط في إقليمين ضمن أقاليم السلطنة الأربعة وهما دار الديمنقاوي (الإقليم الجنوبي الغربي لجبل مرة) والذي يحكمه شخص يطلق عليه الفور لقب أبو ديما (Abbo diima) وهو متوارث ضم فرع المورقينقا في الفور وآخر من شغل هذا المنصب هو سيسي محمد أتيم والد السياسي السوداني المعروف د. التجاني السيسي ، ودار الأمنقاوي (الإقليم الجنوبي الشرقي لجبل مرة) والذي يحكمه شخص يطلق عليه أبو أما (Abbo Umo). أما الإقليمين المتبقيين هما دار تكناوي (دار الريح) والذي يحكمه (ابو تكناوي) وهو منصب متوارث ضمن سلالة من التنجر ، ودار دالي (دار صباح) ويحكمه شخص بالغ الأهمية بالبلاط يطلق عليه أب شيخ دالي (Ab sheikh daali) وهو أهم شخصية بعد السلطان في المملكة (الوزير) حيث يقع ضمن إختصاصه قيادة الجيش بالسلطنة ولا يقدم السلطان على أمر دون مشورته ، ومن أشهر هؤلاء أب شيخ محمد كرّا وآدم بوش الميدوبي وأحمد شطة وزير إبراهيم قرض ومحمود الدادنقاوي (Mahmud Al Dadingawi) آخر وزير في عهد السلطان على دينار. هناك دارات ذات وضع خاص لا تقع ضمن هذه الأقاليم الأربعة وهي دار فيا ودار مادي ودار كرني و دار كونير والتي على رأسها شراتي يتبعون للسلطان مباشرة.. نواصل.
                  

02-19-2025, 08:00 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🔴آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٤-٢٠)🔴

    ✒️ صهيب حامد

    إذن وكما أسلفنا في الحلقة السابقة فإن نظام الحواكير بسلطنة (كيرا) يجد جذره في ممارسات ممالك الحزام السوداني الغربي (برونو وسونغي وغيرها). يقول أوفاهي أن النظام العقاري في سلطنة كيرا نشأ للإستجابة للإحتياجات والضرورات السلطانية لضمان نخبة متفاعلة ومفيدة في إطار دولة مركزية. في معرض حديثه عن أهمية الأرض لدى الفور يقول د. محمد إبراهيم أبو سليم أن لعلاقات الأرض في الفور تأثير سياسي وإجتماعي وكذلك للوضع السياسي والإجتماعي تأثير كبير على وضع الأرض بالسلطنة ، حيث يصنف في كتابه (الفور والأرض) العطاء الإقطاعي في سلطنة كيرا لثلاثة أنواع.. حاكورة العربان وهو منح مجموعات الرعاة أو قبيلة رعوية بأكملها لأحد أفراد البلاط أو النخبة ويكون مسؤولا عن جمع ضرائب وزكاة قطعانهم وأي أتاوات أخرى وأدائها للسلطان ، أما النوع الثاني هو حاكورة الملك أو الهبة أو الصدقة وهي حاكورات تمنح للفقرا والعلماء والتجار الذين يقومون بأدوار للسلطان ، وأخيرا حاكورات كبار الموظفين في البلاط فهؤلاء يمنحهم السلطان إقطاعات كبيرة تحوي قرى أو مراعي قبائل بأكملها وغيرها. بعكس الفونج كبنية وعي تناسلي والتي إرتكزت لعبة الأخذ والعطاء (التبادلية) لديهم على (المرأة الأونسابية) ذات الأرومة المقدسة ، فلقد إرتكز مفهوم التبادلية لدى الفور وسلالتهم الحاكمة (كيرا) كبنية وعي برحوازي على (الحاكورة). صحيح أن هناك أنماط عديدة للهدية (بالمفهوم الموسى نسبة لمارسيل موس ) كوسيلة لتحقيق التوافق لدى سلاطين كيرا.. منح الألقاب (مقدوم ، شرتاي ، دملج ، كرسي ، فرشة ، ساقال إلى آخره) ولكن كذلك يترافق مع اللقب هدية ما (إبريق للفقرا ، فرشة (سجادة) قاهرية أو فارسية وهي تمنح لمن صاروا يلقّبوا بالفرشة لدى الفور والمساليت فيما بعد ، العصا المستوردة للشراتي وهكذا دواليك) ،ولكن أهم مظهر للهدية لدى سلطان (كيرا) هي (الحاكورة).

    كان (الفقرا) أكبر المستفيدين من الحواكير الممنوحة ، ففي الغالب فإن الحواكير تنزع من الممنوح لأسباب عدة منها الموت أو الأسباب السياسية أو الشخصية ولكن في حال (الفقرا) ولبعدهم من الصراع السياسي أو على السلطة لذا فيحترم السلاطين المتعاقبين وضع الفقيه أو الفقير. كذلك فإن الأوضاع المزدهرة للدين الإسلامي في السلطنة تعطيهم دائما أولوية في التعاطف سياسيا وإجتماعيا. هنا تظهر ممارسة لاحظها الرحالة (بالمر) في مملكة صونغي (Songhay) وبعض الممالك السودانية الأخرى وهي منح بعض الأسر الدينية في القرن الخامس والسادس عشر حقوق حمائية في الأرض الممنوحة بما في ذلك الإعفاء من الزكاة ليتم صرفها على إعمار المسجد أو على الطلبة المهاجرين وهو ما يشبه الوقف. نلاحظ ذلك في وثيقة أصدرها السلطان محمد دورا (١٧٢٢م-١٧٣٢م) الذي أعطى الفقيه محمد عز الدين من (الجوامعة) حاكورة بمنطقة جديد السيل شمال الفاشر ، فتم تجديد نفس العطاء لإحفاد هذا الفقية بواسطة السلطان محمد الفضل في ١٨٠٧م وقد كتب في (الحجة) أنها تمت على سبيل المنح الدائم ويمكن الإستفادة من زكاتها لإعمار المسجد.

    كذلك فإن إعادة الفتح أو الغزو لمنطقة جديدة (مثل غزو تيراب لكردفان) فتترتب عليها أبطال مراسيم الأرض التي أصدرتها السلطات الفونجية السابقة للغزو ، ولكن لأسباب سياسية ودينية فإن السلطان يصدر مراسيم جديدة أو يجدد المراسيم القديمة لإثبات نفس الحق القديم ومثال ذلك تجديد منح حاكورة الجنيد بن سلامة الشويحي التي منحت له من قبل بواسطة مرسوم من سلطان الفونج فقام السلطان تيراب بإصدار وثيقة (حجة) سلطانية تديم الحق السابق. كذلك فلقد منح السلطان محمد الفضل القاضي عربي بن أحمد الهواري حاكورة بمدينة الأبيض تمتد من جبل كردفان وإلى موقع الجامع الكبير الحالي بوسط سوق الكبير مقابل تقلده منصب قاضي القضاة. كذلك لقد كانت الحواكير جزء من حسم الصراع بين المتنافسين علي السلطة ، مثلا فلقد حسم السلطان عبد الرحمن الرشيد صراعه مع إبن أخيه الحاج إسحق بن تيراب بعد وفاة السلطان تيراب في ١٧٧٨م بإشاعة أن إسحقاً قد عزم على نزع كل حواكير كبار موظفي البلاط ممن وقفوا مع غريمه. كذلك فلقد حسم محمد كرّا معركة تنصيب مرشحه محمد الفضل بمنح المصوتين له ١٠ حاكورات و٥٠٠ دولار و٢٠ فرساً بكل عتاده العسكري. لقد كانت حواكير جبل مرة خصوصا دار ديما ودار كرني من أخصب أراضي السلطنة رغم بعدهما من الفاشر، فالأولى تحوي ١٠٦ حاكورة بمساحة لا تقل عن ١٥٠ ميل مربع للواحدة بمساحة كلية تساوي ١٥ الف ميل مربع اي ١٠٪ من مساحة دارفور التي تبلغ ١٤٠ الف ميل مربع. الحواكير حول الفاشر كانت جذابة لقربها وسهولة إدارتها رغم طبيعتها الرملية وفقر إنتاجها مقارنة بدار ديما وكرني. حواكير دار دالي شرق الفاشر لم تكن جذابة لخلوها من السكان وعدم وفرة المياه وبعدها لأغراض الضرائب المباشرة رغم تماسك رجالها وعظمتهم وقوة شكيمتهم وهي ميزة عسكرية لا غنى عنها. بالطبع فلقد كانت الحواكير الكبيرة والواسعة يمنحها السلطان لكبار موظفيه وطبقته السياسية بالبلاط ذلك بمعزل عن أراضي السلطان التي يرثها من آبائه أو يختارها أو تهدى له.

    ثمة أمر في غاية الأهمية ، فالأرض الواسعة ترتبط بشكل طردي بالعمالة.فمالك الحاكورة لا غنى له من العمالة الكبيرة والمستقرة في حواكيره. إذن علاقة السيد-التابع (cleint - patron) متقاطعة متبادلة. لذا فإن الحاكورة في سلطنة (كيرا) ترتبط بالقضيتين الأكثر أهمية للسلطنة وإستمراريتها وللسلطان كذلك .. أولاً الجبايات ثم ثانياً الحرب. كانت مهمة جمع الضرائب تقع على عاتق جهاز يسمى بالجبايين (Gabayyin) ويكون مسؤولا منه (أبو الجبايين) وهو غير معني بنوعين من الجباية وهما جباية حواكير السلطان وهي الأراضي الأوسع والأخصب في السلطنة والتي تجمع وتوزع على نساء السلطان ويكون مسؤول منها رجل في غاية الأهمية بالقصر (أبو جود). أما ضرائب الأسواق فيكون مسؤول منها أبو دادينقا أو الدادنقاوي (Al Dadingawi). القسم الأول من الجباية تحت مسؤولية أبو الجبايين هي الحبوب ونصابها ٣٠٠ مد ويؤخذ منها العشر (Tithe) اي ٣ مد عن كل ٣٠٠ مد ، وبما أن معظم الأراضي الخصبة الواسعة بالسلطنة هي حواكير لذا فإن علاقة ما كبيرة بين صاحب الحاكورة وتحصيل الجباية وهذه في غير حواكير الجاه التي قد تكون معفية من الجباية. لا تقف الجبايات في سلطنة كيرا على العشر فقط بل هناك ١٢ جباية عرفية سائدة ما قبل اسلام الفور (الفور تقليديون وملتزمون بكافة أوجه العرف لديهم) تسمى بالسبل العادية أو سبل الحكام وهي أقرب للغرامات توزع بين مناديب المقدوم والشرتاي والدملج.وهناك جبايات أخرى كضريبة التكاكي (takkyyia) والديوان وهذه الأخيرة تدفعها القبائل على رؤوس المواشي في الغالب.

    نلاحظ انه من نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر يصبح محمد بن عمر التونسي المرجع الأكثر موثوقية للسلطنة لإستقراره بها وقربه هو وأبيه من السلطان عبد الرحمن الرشيد أولا ومن ثم إبنه محمد الفضل ثانيا. يقول التونسي في معرض تأريخه لهذه الحقبة أن (أب شيخ دالي) وبالطبع فهو يقصد الرجل الخطير والشهير (محمد كرّا) من الخصيان (Eunuchs) ، كان يمتلك إمتيازات في إدارة التخصيصات السلطانية العقارية هي الأضخم في تاريخ السلطنة. يستطرد التونسي أنه من الواضح أن هدف ذلك هو توجيه كل هذه الإمكانيات للتعزيزات العسكرية للسلطان. يقول التونسي أن السلطان لا يمنح مكافآت منتظمة لكبار موظفيه أو قادة جيشه لكنهم يمنحون تخصيصات إقطاعية ومنها يمكنهم شراء الجياد والأسلحة والدروع والملابس وتوزيعها على جنودهم ويكون كل ذلك تحت الإشراف المباشر لأب شيخ دالي وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إذن هنا نلاحظ علاقة الحاكورة وصاحبها بالتنظيم العسكري، أي أن صاحب كل حاكورة من موقعه في البلاط هو قائد عسكري لمنسوبيه من عمال الحاكورة الذين يستطيعون حمل السلاح. وهكذا تتجلى أمام أعيننا الوظيفة الإقتصادية والعسكرية للحاكورة إلى جانب وظيفتها السياسية التي أوضحناها من قبل.. نواصل.
                  

02-21-2025, 07:50 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🔴آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٥-٢٠)🔴

    ✒️ صهيب حامد

    متلازمة كردفان (Kordofan factor):

    من المؤكد أن كل محاولات سلاطين (كيرا) الإمبريالية والتوسعية منذ (أبّا كوري) سليمان سولونج تكسرت على أعتاب سلطنة ودّاي. للفور قناعة راسخة أنهم الوريث التاريخي لسلطنة (تنجر) التي إزدهرت قبل قيام سلطنة (كيرا) ويرجح أنها كانت تضم كل من سلطنات الفور وودّاي والتامة والقمر. إذن وإنطلاقاً من هذه القناعة فيتوجب أن يدفع (المابا) بودّاي الجزية لسلطان (كيرا). نتيجة ذلك شنّ (الكيرا) عدة حروب ضد (ودّاي) راح ضحيتها سلطانان (عمر ليل وأبو القاسم) ، مما غرّ في روع السلطان التالي تيراب (١٧٥٢-١٧٨٧م) أن لا سبيل لتحقيق أي نجاح في هذه الجبهة ، فشرع في التفكير للتوجه شرقا (كردفان) عاقداً معاهدته الشهيرة مع سلطان ودّاي (جودة) لتهدئة الأوضاع بين السلطنتين.تقول الرواية الشفاهية أن للسلطان (سولونغ) أخ إستقر بكردفان (تسنام) وظل يحكمها نيابة عن (الكيرا) ، وقد أطلق عليه الفور لقب (مسبع) وهو تحريف لفظي ل (مصبّح) إي الذي إتجه شرقاً ، وبذا صارت سلالته تعرف بالمسبعات (Musabbaat). ولكن لم تكن دوما العلاقة بين (الكيرا) و(المسبعات) جيدة خصوصا في ظل مطامع الأخيرين في وراثة عرش الأوائل. لقد راج في أروقة بلاط (الكيرا) الإهتمام بالشبكة التجارية غاية في الثراء والإزدهار التي كان يديرها جلابة بارا والأبيض من الدناقلة والجعليين المستقرين هناك ممن تمرّسوا في تجارة الصمغ العربي والعاج والرقيق والذهب الرسوبي (Allovial gold). لقد دعمت (كيرا) (هاشم بن عيساوي) للوقوف في وجه (الغديات) وكلاء الفونج بكردفان ، ولكن نتيجة للصراع على السلطة بسنار منذ الإطاحة ببادي الرابع بواسطة أبو لكيلك في ١٧٦٢م لم تستقر الأوضاع هناك البتة مما إنعكس على وضع حلفائهم في الإقليم المتنازع عليه بينهم والفور (كردفان). وهكذا إستثمر السلطان هاشم هذا الوضع فراكم ثروة طائلة من الذهب والرقيق والعاج الأمر الذي جعله يتمرد على أقاربه غربا وبدأ في مناوشتهم بين الفينة والأخرى. ولكن من يد فلقد كان التنظيم العسكري لجيش (الكيرا) آنذاك يتفوق نوعيا رغم إمتلاك السلطان هاشم ١٠ الف من النوبة إسترقهم للتو عبر غزواته المتتالية لمناطقهم بالجبال الجنوبية. كان سر قوة جيش (الكيرا) في الفرسان ، وهو السلاح الحاسم أو ما يمكن تسميته بالظاهرة الحربية في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. فالحوجة لقوة إمبريالية تتناسق مع طموح وعقيدة النخبة الأرستقراطية والسياسية ببلاط (الكيرا) أدت لبروز هذه الظاهرة (الفرسان المسلحين) الذين يدخلون الرعب في قلوب المزارعين المستقرين والرعاة وكغزاة لجلب الرقيق والذين سوف تطبق سمعتهم الأفاق من معركة واحدة. يقول أوفاهي أن السلاح الناري قد دخل الممالك السودانية مبكرا ولكن ظل السلاطين والملوك يفضلون الرجال الواقفين على صهوات جيادهم لقدرتهم الفائقة على الإنتشار في مساحات واسعة بعكس حاملي البنادق والذين تبرز أهميتهم في مواجهة الجيوش المنظمة. كذلك كان الفرسان أقل تكلفة فالحملة لا تحتاج لعدد كبير من الفرسان ، إذ لم يلزم أب شيخ (محمد كرّة) أكثر من ٢٠٠ فارس على صهوات جيادهم وهم يلبسون الميري بعماماتهم الحمراء كي يفر السلطان هاشم بن عيساوي وجنوده أمامهم بلا رجعة في ١٧٨٥ ميمما شطر النيل محتميا برعايا سنار هناك. وبما أن الجياد والأسلحة عالية الجودة جميعها تستورد عبر درب الأربعين فهي حظوة سلطانية لا مثيل لها بفعل فرمانات الإحتكار التي كان يصدرها السلطان للقوافل إنطلاقا من (كوبي).

    إذن هكذا سيطرت (كيرا) على كردفان في ١٧٨٥م ، وبذا ضاعفت وبضربة لازب مساحة السلطنة. إذن هل من أهمية إستراتيجية وسياسية لكردفان إلى جانب أهميتها الإقتصادية بالنسبة لكل من الفور والفونج!؟. هل كانت كردفان هي المسرح الذي تحرك منه (أبو لكيلك) لإسقاط بادي الرابع بسنار في ١٧٦٢م بعدما أوكل له هذا الاخير التصدي لتحدي الفور بكردفان بعد بروزه كأحد أبطال الفونج في معركة الإنتصار الكبير على الاحباش في ١٧٤٤؟. إذن فلقد أدت ظروف غير مواتية سياسياً وإقتصاديا لإنقسام حاد داخل بيت الأونساب الحاكم في سنار شرحناه في معرض تحليلنا لأوضاع دولة الفونج أنذاك.. فلقد شهدت سنار تدهوراً إقتصادياً في ظل تمرد الشايقية ضد السلطان بسنار مما عرقل حركة القوافل إليها وهو ما أنعكس على أوضاع السلطنة بشكل عام ووضع جيوش السلطان بكردفان على وجه الخصوص. هنا أوغرت مجموعات المعارضة الأونسابية صدر (أبو لكيلك) فقاد جيشه من كردفان مستولياً على السلطة بسنار ومطيحاً ببادي الرابع في ١٧٦٢م.هل كرر التاريخ نفسه بعد ربع قرن بكردفان!؟. حسنا..إنتقل السلطان تيراب إلى رحمة مولاه بعد عامين من إنتصاره بكردفان ، مما أدخل الكيرا في دورة صراع طاحن على السلطة إنطلاقا من بارا ، ولكن إستطاع رجل البلاط المحنك (محمد كرّا) أن يقنع الطبقة السياسية والعسكرية بكردفان بالتوافق على مرشحه (عبد الرحمن) أخ السلطان المتوفى من أبيهم السلطان أحمد بكر وهو ما أهّل (كرّة) العضو السابق في مجموعة الكوركوا (korkwa) أن يصعد عالياً من أدنى السلم الإجتماعي بالسلطنة ليصبح وزيرا (أب شيخ دالي) للسلطان الجديد نتيجة الدور الذي أداه بالتنسيق مع مجموعات الحريم بقيادة زوجة السلطان المتوفي أييا كورا (كنانة) لصالح أخ السلطان المتوفى (عبد الرحمن) ، ومن هذا المنصب الجديد كحاكم لدار دالي (دار صباح) صار (محمد كرّا) مسؤولا عن كردفان. لقد حمل الطموح الرجل الخطير أن يخصي نفسه حين إتهم بإقامة علاقة مع إحدى محظيات السلطان وهو ما رفع عنه أي شكوك إزاء ولائه لهذا الأخير. لقد دار التاريخ كرّة أخرى بعد وفاة السلطان عبد الرحمن في ١٨٠٢م كي يرمي الوزير القوي بثقله خلف إبن السلطان المتوفى القاصر (محمد الفضل) الذي لم يبلغ الحلم بعد!!.

    يبدو أنه وبعد أن إستتب الأمر للسلطان (محمد الفضل) بأحابيل وزيره الخطير تركّزت السلطة في يد هذا الأخير فكثر مكوثه في كردفان ويبدو أنه كوّن قوة هناك وراكم ثروة أثارت شكوك الكثيرين مما حدى بأعداء الرجل إثارة شكوك السلطان الشاب حوله، فأرسل هذا الأخير أحد ألدّ أعداء الرجل (محمدبن على الدوكومي) للقبض عليه. وهكذا كي يتفاجأ (كرّا) بإرسالية السلطان المدججة فوضع نفسه في القيود تحت دهشة القوة المرسلة كي يحضر أمام السلطان صاغراً نافياً التهمة ومذكراً السلطان بكل ما فعله من أجله ومن أجل أبيه فحن قلب السلطان لوزيره المظلوم وهكذا عاد الرجل لمباشرة مهامه خلال منصبه الخطير (أب شيخ دالي). ولكن يبدو أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر كي يجد كرّة نفسه وإبنه بالتبني (شلفوت) وجماعتهم في إحدى ليالي الفاشر الظلماء تحت حصار جنود السلطان وفلقناياته المدججيين بالسلاح ليخوض معركته الأخيرة الواجب خوضها كلعقة من إناء اللعنة الكردفانية التي أصابت قبل ربع قرن بلاط سلطنة الفونج ولكن مع فارق أن اللعنة الأولى قد ذهبت بالسلطان (بادي الرابع) بينما ذهبت اللعنة الثانية بالوزير (كرّة) أخطر رجل سياسة أنجبته أروقة الحكم في ممالك السودان الوسيط.

    يشفّ لنا التاريخ من خلال إنتصار الكيرا بكردفان في ١٧٨٥م أوضاع توازن القوى بين الفونج والكيرا ، فليس من شك أن موازين القوى قد رجّحت كفة الفور (الكيرا) لأسباب الإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي التي تمتعت بها دارفور آنذاك ، بعكس سنار التي تأثّرت بأوضاع الإنقسام نتيجة الصراع بين الأونساب من جهة والهمج من أتباع الشيخ (أبو لكيلك) من جهة أخرى. بالفعل فلقد كانت سنار آنذاك تنازع رمقها الأخير بينما كانت سلطنة (كيرا) تتأهب للدخول إلى عصرها الذهبي بقيادة السلطان عبد الرحمن الرشيد وإبنه محمد الفضل. لقد إرتبكت ميكانيزمات التوافق بسنار بفعل إنقلاب البلاط في حقبة بادي الرابع بتبنّي الدستور العربي بخصوص إنتقال الأرومة الإجتماعية عبر سلسلة الذكور بدلا من عقيدة الأونساب في إنتقال الأرومة عبر سلسلة بنات عين الشمس. وبالطبع فلقد كان لذلك نتائج إقتصادية وسياسية مدمرة على سنار. أما دارفور وفي نفس هذه الحقبة فعاشت أوج إزدهارها لسيادة التوافق الإجتماعي َوالسياسي الذي خلقه إزدهار آلية (التبادلية) التي كانت لحمتها وسداها (الحاكورة) في إطار مفهوم (الحاكورة مقابل الولاء).. نواصل.
                  

02-21-2025, 07:50 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🔴آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٥-٢٠)🔴

    ✒️ صهيب حامد

    متلازمة كردفان (Kordofan factor):

    من المؤكد أن كل محاولات سلاطين (كيرا) الإمبريالية والتوسعية منذ (أبّا كوري) سليمان سولونج تكسرت على أعتاب سلطنة ودّاي. للفور قناعة راسخة أنهم الوريث التاريخي لسلطنة (تنجر) التي إزدهرت قبل قيام سلطنة (كيرا) ويرجح أنها كانت تضم كل من سلطنات الفور وودّاي والتامة والقمر. إذن وإنطلاقاً من هذه القناعة فيتوجب أن يدفع (المابا) بودّاي الجزية لسلطان (كيرا). نتيجة ذلك شنّ (الكيرا) عدة حروب ضد (ودّاي) راح ضحيتها سلطانان (عمر ليل وأبو القاسم) ، مما غرّ في روع السلطان التالي تيراب (١٧٥٢-١٧٨٧م) أن لا سبيل لتحقيق أي نجاح في هذه الجبهة ، فشرع في التفكير للتوجه شرقا (كردفان) عاقداً معاهدته الشهيرة مع سلطان ودّاي (جودة) لتهدئة الأوضاع بين السلطنتين.تقول الرواية الشفاهية أن للسلطان (سولونغ) أخ إستقر بكردفان (تسنام) وظل يحكمها نيابة عن (الكيرا) ، وقد أطلق عليه الفور لقب (مسبع) وهو تحريف لفظي ل (مصبّح) إي الذي إتجه شرقاً ، وبذا صارت سلالته تعرف بالمسبعات (Musabbaat). ولكن لم تكن دوما العلاقة بين (الكيرا) و(المسبعات) جيدة خصوصا في ظل مطامع الأخيرين في وراثة عرش الأوائل. لقد راج في أروقة بلاط (الكيرا) الإهتمام بالشبكة التجارية غاية في الثراء والإزدهار التي كان يديرها جلابة بارا والأبيض من الدناقلة والجعليين المستقرين هناك ممن تمرّسوا في تجارة الصمغ العربي والعاج والرقيق والذهب الرسوبي (Allovial gold). لقد دعمت (كيرا) (هاشم بن عيساوي) للوقوف في وجه (الغديات) وكلاء الفونج بكردفان ، ولكن نتيجة للصراع على السلطة بسنار منذ الإطاحة ببادي الرابع بواسطة أبو لكيلك في ١٧٦٢م لم تستقر الأوضاع هناك البتة مما إنعكس على وضع حلفائهم في الإقليم المتنازع عليه بينهم والفور (كردفان). وهكذا إستثمر السلطان هاشم هذا الوضع فراكم ثروة طائلة من الذهب والرقيق والعاج الأمر الذي جعله يتمرد على أقاربه غربا وبدأ في مناوشتهم بين الفينة والأخرى. ولكن من يد فلقد كان التنظيم العسكري لجيش (الكيرا) آنذاك يتفوق نوعيا رغم إمتلاك السلطان هاشم ١٠ الف من النوبة إسترقهم للتو عبر غزواته المتتالية لمناطقهم بالجبال الجنوبية. كان سر قوة جيش (الكيرا) في الفرسان ، وهو السلاح الحاسم أو ما يمكن تسميته بالظاهرة الحربية في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر. فالحوجة لقوة إمبريالية تتناسق مع طموح وعقيدة النخبة الأرستقراطية والسياسية ببلاط (الكيرا) أدت لبروز هذه الظاهرة (الفرسان المسلحين) الذين يدخلون الرعب في قلوب المزارعين المستقرين والرعاة وكغزاة لجلب الرقيق والذين سوف تطبق سمعتهم الأفاق من معركة واحدة. يقول أوفاهي أن السلاح الناري قد دخل الممالك السودانية مبكرا ولكن ظل السلاطين والملوك يفضلون الرجال الواقفين على صهوات جيادهم لقدرتهم الفائقة على الإنتشار في مساحات واسعة بعكس حاملي البنادق والذين تبرز أهميتهم في مواجهة الجيوش المنظمة. كذلك كان الفرسان أقل تكلفة فالحملة لا تحتاج لعدد كبير من الفرسان ، إذ لم يلزم أب شيخ (محمد كرّة) أكثر من ٢٠٠ فارس على صهوات جيادهم وهم يلبسون الميري بعماماتهم الحمراء كي يفر السلطان هاشم بن عيساوي وجنوده أمامهم بلا رجعة في ١٧٨٥ ميمما شطر النيل محتميا برعايا سنار هناك. وبما أن الجياد والأسلحة عالية الجودة جميعها تستورد عبر درب الأربعين فهي حظوة سلطانية لا مثيل لها بفعل فرمانات الإحتكار التي كان يصدرها السلطان للقوافل إنطلاقا من (كوبي).

    إذن هكذا سيطرت (كيرا) على كردفان في ١٧٨٥م ، وبذا ضاعفت وبضربة لازب مساحة السلطنة. إذن هل من أهمية إستراتيجية وسياسية لكردفان إلى جانب أهميتها الإقتصادية بالنسبة لكل من الفور والفونج!؟. هل كانت كردفان هي المسرح الذي تحرك منه (أبو لكيلك) لإسقاط بادي الرابع بسنار في ١٧٦٢م بعدما أوكل له هذا الاخير التصدي لتحدي الفور بكردفان بعد بروزه كأحد أبطال الفونج في معركة الإنتصار الكبير على الاحباش في ١٧٤٤؟. إذن فلقد أدت ظروف غير مواتية سياسياً وإقتصاديا لإنقسام حاد داخل بيت الأونساب الحاكم في سنار شرحناه في معرض تحليلنا لأوضاع دولة الفونج أنذاك.. فلقد شهدت سنار تدهوراً إقتصادياً في ظل تمرد الشايقية ضد السلطان بسنار مما عرقل حركة القوافل إليها وهو ما أنعكس على أوضاع السلطنة بشكل عام ووضع جيوش السلطان بكردفان على وجه الخصوص. هنا أوغرت مجموعات المعارضة الأونسابية صدر (أبو لكيلك) فقاد جيشه من كردفان مستولياً على السلطة بسنار ومطيحاً ببادي الرابع في ١٧٦٢م.هل كرر التاريخ نفسه بعد ربع قرن بكردفان!؟. حسنا..إنتقل السلطان تيراب إلى رحمة مولاه بعد عامين من إنتصاره بكردفان ، مما أدخل الكيرا في دورة صراع طاحن على السلطة إنطلاقا من بارا ، ولكن إستطاع رجل البلاط المحنك (محمد كرّا) أن يقنع الطبقة السياسية والعسكرية بكردفان بالتوافق على مرشحه (عبد الرحمن) أخ السلطان المتوفى من أبيهم السلطان أحمد بكر وهو ما أهّل (كرّة) العضو السابق في مجموعة الكوركوا (korkwa) أن يصعد عالياً من أدنى السلم الإجتماعي بالسلطنة ليصبح وزيرا (أب شيخ دالي) للسلطان الجديد نتيجة الدور الذي أداه بالتنسيق مع مجموعات الحريم بقيادة زوجة السلطان المتوفي أييا كورا (كنانة) لصالح أخ السلطان المتوفى (عبد الرحمن) ، ومن هذا المنصب الجديد كحاكم لدار دالي (دار صباح) صار (محمد كرّا) مسؤولا عن كردفان. لقد حمل الطموح الرجل الخطير أن يخصي نفسه حين إتهم بإقامة علاقة مع إحدى محظيات السلطان وهو ما رفع عنه أي شكوك إزاء ولائه لهذا الأخير. لقد دار التاريخ كرّة أخرى بعد وفاة السلطان عبد الرحمن في ١٨٠٢م كي يرمي الوزير القوي بثقله خلف إبن السلطان المتوفى القاصر (محمد الفضل) الذي لم يبلغ الحلم بعد!!.

    يبدو أنه وبعد أن إستتب الأمر للسلطان (محمد الفضل) بأحابيل وزيره الخطير تركّزت السلطة في يد هذا الأخير فكثر مكوثه في كردفان ويبدو أنه كوّن قوة هناك وراكم ثروة أثارت شكوك الكثيرين مما حدى بأعداء الرجل إثارة شكوك السلطان الشاب حوله، فأرسل هذا الأخير أحد ألدّ أعداء الرجل (محمدبن على الدوكومي) للقبض عليه. وهكذا كي يتفاجأ (كرّا) بإرسالية السلطان المدججة فوضع نفسه في القيود تحت دهشة القوة المرسلة كي يحضر أمام السلطان صاغراً نافياً التهمة ومذكراً السلطان بكل ما فعله من أجله ومن أجل أبيه فحن قلب السلطان لوزيره المظلوم وهكذا عاد الرجل لمباشرة مهامه خلال منصبه الخطير (أب شيخ دالي). ولكن يبدو أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر كي يجد كرّة نفسه وإبنه بالتبني (شلفوت) وجماعتهم في إحدى ليالي الفاشر الظلماء تحت حصار جنود السلطان وفلقناياته المدججيين بالسلاح ليخوض معركته الأخيرة الواجب خوضها كلعقة من إناء اللعنة الكردفانية التي أصابت قبل ربع قرن بلاط سلطنة الفونج ولكن مع فارق أن اللعنة الأولى قد ذهبت بالسلطان (بادي الرابع) بينما ذهبت اللعنة الثانية بالوزير (كرّة) أخطر رجل سياسة أنجبته أروقة الحكم في ممالك السودان الوسيط.

    يشفّ لنا التاريخ من خلال إنتصار الكيرا بكردفان في ١٧٨٥م أوضاع توازن القوى بين الفونج والكيرا ، فليس من شك أن موازين القوى قد رجّحت كفة الفور (الكيرا) لأسباب الإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي التي تمتعت بها دارفور آنذاك ، بعكس سنار التي تأثّرت بأوضاع الإنقسام نتيجة الصراع بين الأونساب من جهة والهمج من أتباع الشيخ (أبو لكيلك) من جهة أخرى. بالفعل فلقد كانت سنار آنذاك تنازع رمقها الأخير بينما كانت سلطنة (كيرا) تتأهب للدخول إلى عصرها الذهبي بقيادة السلطان عبد الرحمن الرشيد وإبنه محمد الفضل. لقد إرتبكت ميكانيزمات التوافق بسنار بفعل إنقلاب البلاط في حقبة بادي الرابع بتبنّي الدستور العربي بخصوص إنتقال الأرومة الإجتماعية عبر سلسلة الذكور بدلا من عقيدة الأونساب في إنتقال الأرومة عبر سلسلة بنات عين الشمس. وبالطبع فلقد كان لذلك نتائج إقتصادية وسياسية مدمرة على سنار. أما دارفور وفي نفس هذه الحقبة فعاشت أوج إزدهارها لسيادة التوافق الإجتماعي َوالسياسي الذي خلقه إزدهار آلية (التبادلية) التي كانت لحمتها وسداها (الحاكورة) في إطار مفهوم (الحاكورة مقابل الولاء).. نواصل.
                  

03-04-2025, 11:44 PM

صهيب حامد

تاريخ التسجيل: 09-29-2011
مجموع المشاركات: 1657

للتواصل معنا

FaceBook
تويتر Twitter
YouTube

20 عاما من العطاء و الصمود
مكتبة سودانيزاونلاين
Re: آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كي� (Re: صهيب حامد)

    🔴آيديولوجية المركز العروبي في السودان.. كيف تشكلت وكيف أنهت حرب الجنجويد صلاحيتها!!؟. (١٦-٢٠)🔴

    ✒️ صهيب حامد

    دورة صيد الرقيق وتجارة المسافات الطويلة (Raiding - Trading cycle) :

    يقول أوفاهي أن الخليط من سكان بحر الغزال جنوب سلطنة (كيرا) ممن إعتاد الفور على تسميتهم بالفرتيت (Firtit) هم من أمدوها بأسباب النمو والقوة كمستودع لصيد الرقيق ، لذا فلقد كان ظهور (الكبانيّات) ببحر الغزال بعد دخول الأتراك السودان وحرمان (كيرا) من هذا المورد مؤلما بشكل مريع على طبقة الدارفوريين المحبين للبذخ حسب وصف سلاطين باشا حاكم مديرية دار فور في أواخر العهد التركي. لقد ألجأ ذلك نخبة السلطنة لتحويل مواطنييهم أنفسهم كمصدر للموارد بزيادة الضرائب وهو ما سنسهب فيه بعد قليل. يستطرد أوفاهي بأنه دوماً ثمة علاقة بين التجارة وتكوين الدولة ، وتعبر عنها العلاقة المهمة بين تجارة المسافات الطويلة (long distance trade) وشبكة الأسواق المحلية والإقليمية. فرغم أن التجارة الخارجية تخدم إحتياجات النخبة بالبلاط بالمقام الأول ولكنها كذلك تخدم أهداف إستراتيجية للسلطنة مثل توريد السلاح والعلاقات الدبلوماسية. يورد (التونسي) في (تشحيذ الأذهان) ما يمكن أن يكون الدورة الكاملة لتجارة المسافات الطويلة (القوافل) التي عناها أوفاهي أعلاه في سلطنة كيرا وعلاقتها بصيد الرقيق.. فغزاة الرقيق يجلبونه من دار فرتيت التي وصفناها في أعلاه ، الجلابة الجوالون الذين يجمعون البضاعة المطلوبة من الأسواق المحلية للسلطنة ، العرب الأبّالة (زيادية ومحاميد وماهرية وعريقات) يوفرون الرواحل (الإبل) للقوافل ، الخبراء (جمع خبير) وكبار التجار الممولين للقوافل فهؤلاء يقبعون في كوبي كمنسقين لا غنى عنهم الأوائل بعلاقاتهم بنخبة البلاط بل السلطان نفسه كممثلين له في الدولة الهدف ( Destination State) والأخيرون كممولين. وهكذا يمنح السلطان الإطار السياسي (الفرمانات) للقافلة الداخلة أو الخارجة من السلطنة عبر كوبي (Kobbei).

    إذن عقدة التجارة الخارجية ومنتهاها هي كوبي (الميناء الرئيسي بالتعبير الحديث). من كوبي وإليها تتقاطع القوافل لأسيوط بصعيد مصر وإلي فزان بشمال أفريقيا ومنها كذلك إلي النيل بعد تحالف (الكيرا) والشايقية في نهاية القرن الثامن عشر وإلى ودّاي في ظروف الهدنة مع المابا (برقو) ومنها لباقي ممالك السودان الغربي. ولكن قطعا فإن أهم مقصد للقوافل الخارجة من كوبي (Kobbei) هي أسيوط (مصر أهم شريك تجاري لدارفور) والتي تبلغ المسافة بينهما ١١٠٠ ميل عبر درب الأربعين. كوبي(Kobbei) كانت تبدو كمدينة نيلية في تخطيطها تمتد على وادي كوبي من كفود إلى الجبل المسمّي بإسمها. لقد أسس كوبي (Kobbei) كمجتمع كوزموبوليتاني مجموعة من الجلابة الهوارة والجعافرة والدناقلة. يحكي (براون) في زيارته لها في ١٨٠٦م أنه شاهد أجناس من مصر وتونس وطرابلس ودنقلا والنوبة وكردفان ، والمهمة الأساسية لهذا المجتمع هي تجارة المسافات الطويلة. هناك شواهد قوية على وجود علاقات تجارية بين القاهرة ومدينة أوري (يرجح أنها عاصمة تنجر) عبر درب الأربعين منذ ١٥٨٠م وثقها الرحالة فانسلبين (Wansleben) في مذكراته. إذن كوبي كانت الحلقة الأكثر أهمية التي ألحقت دارفور ببنية عقل برجوازي عالمي والتي بدورها أسهمت كذلك في إعادة هيكلة الاقتصاد الدارفوري بغرض تلبية طلب هذا المركز البرجوازي العالمي بالرقيق (أهم سلعة تصدر من كوبي) والعاج وريش النعام والذهب وبعض السلع المحلية الأخرى الأقل أهمية ، وكذلك عبر كوبي (Kobbei) يتم إستيراد السلع البذخية للطبقة السياسية لبلاط كيرا (الملابس والعطور والسجاد والتوابل) إلى جانب المعدات العسكرية كالجياد والأسلحة (خصوصا السلاح الناري إبتداءا من نهايات القرن الثامن عشر فصاعدا). لقد كان الرقيق هم السلعة الرئيسية بين دارفور ومصر وقد قدر والز (T. Walz) في دراسة دكتوراة عن التجارة بين مصر وبلاد السودان وفق مصادر فرنسية في الفترة بين ١٧٩٨ - ١٨٠١ أن الوارد من الرقيق من دارفور يبلغ بين ٥ الف-٦الف في العام.

    إذن يمكننا بإطمئنان وضع يدنا على أسباب الرخاء والتفوق لسلطنة (كيرا) إلى خمسينيات القرن التاسع عشر خصوصا الفترة التي شملت ولاية السلاطين عبد الرحمن الرشيد (١٧٨٧م-١٨٠٢م) ومحمد الفضل (١٨٠٢م-١٨٣٩م) والعقد الأول من ولاية السلطان محمد الحسين (١٨٣٩م-١٨٧٣م). ثمة تطور مهم طفر أبتداءا من ١٨٢١م وذلك بإستيلاء جيوش محمد علي باشا على الفضاء الذي شغلته سلطنة الفونج إلى جانب نزع كردفان من (الكيرا). وهكذا إنقلبت الأحوال رأسا على عقب بدارفور ، فتسارعت الأحداث وطرأت مستجدات أثرت بشكل مريع على الأوضاع الإقتصادية والسياسية والإجتماعية بالسلطنة. أولا فلقد فقد بلاط (كيرا) كل موارد الإقليم المهم (كردفان) ، ثم ثانيا قل الطلب على سلعة الرقيق من دارفور لإكتفاء مصر بالوارد عبر السلطات التركية بالسودان إنطلاقاً من عاصمتها الجديدة (الخرطوم) مما أثّر بشكل مريع على الإقتصاد الداخلي للسلطنة. ولكن رغم ذلك فلم يزل الطلب الداخلي للرقيق ينعش هذه التجارة لأغراض الجندية والخدمة في الأرض. ولكن إبتداءاً من خمسينيات القرن التاسع عشر ظهرت سيطرة كبّانيات صيد الرقيق في إقليم بحر الغزال ا لتي يديرها اجانب أو سودانيون ، وبذا تم قطع إمدادات الرقيق نهائيا من سلطنة (الكيرا) وهي الموارد التي طالما أنعشت سلطنتهم!!. هنا إذن بدأ الضيق التدريجي للإطار الإقتصادي الإجتماعي الذي كان سبباً في إزدهار دارفور طيلة حكم (الكيرا) . وكما يؤكد أوفاهي فلقد كانت دورة صيد الرقيق وتجارة المسافات الطويلة هي قاعدة الرفاهية في دارفور، فبإخفاق إحد حدّي هذه القاعدة (صيد الرقيق) فتوقف تدفق الثروة بإعطاب تجارة المسافات الطويلة (كوبي أسيوط) وإلى الأبد. ولسنا في حوجة لدليل أكثر من وصف ناختقال للمدينة (كوبي) التي زارها في ١٨٧٤م ليجد أن أكثر من نصف منازلها غير مأهولة، ولكنه وبعد ٦ سنوات من تلك الزيارة وجد أنه فقط ما بين ٨٠-١٠٠ منزل مأهولة ضمن ٥٠٠ منزل بالمدينة!!!.

    إذن وكما ذكرنا أعلاه ، فإن ضيق الإطار الاقتصادي والإجتماعي في سلطنة (الكيرا) بسبب التطورات الناتجة عن تدخل محمد على باشا في السودان قد أدّت لضيق الإطار السياسي داخلها وذلك بسبب إحباط مفهوم (الحاكورة مقابل الولاء). فلقد كانت الحاكورة هي قاعدة بنية العقل البرجوازي المحلي بدارفور ، وكذلك هي آلية ومنطق التبادلية بين البلاط ونخبته السياسية. إذن أولاً تأثّر النظام العقاري في السلطنة الذي كان يعتمد بشكل أساسي على وارد الرقيق كجزء من الدورة الإقتصادية بخلقه التدفق النقدي الضروري لمقابلة الإحتياجات البذخية والضرورية للبلاط والنخبة السياسية معاً وكذلك بتخفيفه الضغط على موارد الحاكورة. ذلك من يد ، ولكن ثمة أمر غاية في الخطورة أبرزه الرحالة ناختقال فلقد لاحظ في السنوات الأخيرة للسلطان محمد الحسين على لسان راويته المحلي (أحمد كتنقاتنقا) أن التساهل في نزع الحواكير من أصحابها بضغط من الأسرة السلطانية على السلطان الضعيف (محمد الحسين) هو ما أضعف النخبة غير الملكية (صراع الباسينقا/التالينقا) وهذه الأخيرة هي التي كانت تقوم بالواجبات السلطانية مثل الإلتزام بدفع الجبايات اللازمة وبذا صار العائد للدولة ضعيفا جدا حسب وصف ناختقال. وليس ذلك فحسب بل أجهدت المجموعات السلطانية التي إستولت على هذه الحواكير وعلى رأسها أيّا باسي زمزم وأيا باسي عرفة (زوجة محمد خالد زقل) أقول أجهدت الأٌجراء والأتباع بالحواكير باللامبالاة السلطانية والإتاوات الباهظة فتم هجر الحواكير وهو ما أنعكس على الوضع السكاني الذي يمكن تجييشه ضد الخطر القادم من الجنوب مع إنفكاك النخبة غير السلطانية من أي إلتزام بالتبادلية تجاه السلطان وبذا إنهارت القاعدة التي كانت تقف عليها بنية العقل البرجوازي ومنطقه بسلطنة (الكيرا) وإلى الأبد. وهكذا تضافر مع ذلك تشدد السلطات المصرية في إنفاذ الأمر التنفيذي الذي أصدره محمد علي باشا لحاكم أسيوط منذ العام ١٨٣٥م بالتشدد في عدم توريد السلاح الناري لدارفور ، فلقد أورد (نادي) باشا جاسوس الخديوي لدارفور في مبتدأ سبعينيات القرن التاسع عشر في تقريره أنه ضمن ٢ الف جندي من الذين يدربهم المقدوم عبد الرازق كان هناك فقط خمسمائة يحملون بنادق قديمة الطراز!!. إذن لم يعد من مصير أحسن من الذي لقيه السلطان إبراهيم قرض في ١٨٧٤ بمنواشي ، فحسب نعوم شقير تقدمت جحافل البازنقر (جيش الزبير باشا) البالغ عددهم ٧ ألف من حملة البنادق فدمرت أولاً جيش الوزير أحمد شطة ب(دارا) حيث لم يعد مع السلطان (قرض) بعد ذلك بمنواشي سوى مجموعة الكوركوا وطلبة مدرسة البلاط (سوم دوقللا) وبعض الفرسان على صهوات جيادهم لتجتاحهم عاصفة جيش البازنقر بقيادة الزبير باشا بلا هوادة.. نواصل.
                  


[رد على الموضوع] صفحة 1 „‰ 1:   <<  1  >>




احدث عناوين سودانيز اون لاين الان
اراء حرة و مقالات
Latest Posts in English Forum
Articles and Views
اخر المواضيع فى المنبر العام
News and Press Releases
اخبار و بيانات



فيس بوك تويتر انستقرام يوتيوب بنتيريست
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة
About Us
Contact Us
About Sudanese Online
اخبار و بيانات
اراء حرة و مقالات
صور سودانيزاونلاين
فيديوهات سودانيزاونلاين
ويكيبيديا سودانيز اون لاين
منتديات سودانيزاونلاين
News and Press Releases
Articles and Views
SudaneseOnline Images
Sudanese Online Videos
Sudanese Online Wikipedia
Sudanese Online Forums
If you're looking to submit News,Video,a Press Release or or Article please feel free to send it to [email protected]

© 2014 SudaneseOnline.com

Software Version 1.3.0 © 2N-com.de