عندما تصبح كل الأحلام مجرّد أوهام والواقع كابوسًا تعيسًا، يشبه همسات الكاذبين في ليالي السأم الطويلة، وحينما تتحول مشاريعك كلها إلى محاولات عقيمة كزرع في أرضٍ بور، ربما يكون الخيار الوحيد هو أن تتظاهر بالجنون الكامل. تتحدث مع نفسك، لا تهتم بقص شعر رأسك أو لحيتك، وتأكل الطعام البائت فقط من القدور القديمة. تستحم مرة في الأسبوع أو ربما مرة في الشهر إذا انقطعت المياه، وتذهب إلى عملك متقطعًا؛ يومًا تحضر وخمسة تغيب. تعيش في عزلة كمن يسكن كوخًا مهجورًا، تحتسي الشاي الثقيل الخالي من النكهة، بينما القهوة باتت ضربًا من المستحيل لأن البن أصبح باهظ الثمن.
عندما تسمع عن أحدهم يسافر، تكون أول من يودّعه، لأنك تخشى أن يرحل بلا عودة، أو أن يسبقك القدر إليه. تصارحهم بخيالاتك، وتخبرهم بأنك سمعت همسًا داخليًا أن اللقاء قد لا يتجدد. تفكر في الموت كحقيقة مخيفة يتجنب الجميع الحديث عنها، ومع ذلك، لا يزعجك ظلم الآخرين كما لو كان أمرًا عاديًا.
ثم ترى أشخاصًا مثل "نعمان القذر"، الذي كان يبيع الفحم بالأمس وأصبح اليوم قياديًا يتحدث بكبرياء ويرتدي جلابية فاخرة. حلمه الذي كان يقتصر على الزواج من العاصمة والسكن في المعمورة تحقّق، ومع ذلك، تظل تتساءل كيف تحوّلت حياته فجأة، وأصبح يملك أحدث سيارات البرادو ويتفاخر بمنصبه.
في ظل كل هذه التغيرات، تشعر بأنك تفقد السيطرة على حياتك. تتجنب الهاتف، تهجر أصدقاءك، وحتى تلك الفتاة الطويلة التي كانت تحبك أصبحت ألدّ أعدائك. تفارق مجموعات الواتساب بسبب الملل، وتذهب إلى الأطباء بحثًا عن تأهيل بعد الإدمان، ولكن دون جدوى. تُجرّب العلاج بالقرآن، واللجوء إلى المشايخ، والرقية الشرعية، وحتى الحجاب من "الشيخ صايم ديمة"، ولكن الأمور لا تتحسن. ثم تتبع نصيحة البسيطات ممن حولك، فيأخذونك إلى معالجين غريبين، يقرأون عليك كلامًا غريبًا، لكن النتيجة واحدة: لا علاج!
تزداد حالتك سوءًا. النوم يصبح مستحيلًا، والسهر سيد يومك. تعود إلى الطفولة بشكل ما، تتبول في سريرك، تلعب مع الأطفال، وتذهب إلى المدرسة للالتحاق بدروس التقوية. لكنك تنهار أمام مدير المدرسة، وتفقد أعصابك، مما يدفع الجميع لتهدئتك بالمشروبات والحلويات. تحاول أن تستعيد حيويتك، تلعب في أماكن البلايستيشن، ولكنك تظل تشعر بالاغتراب.
اليوم، تظل جالسًا في المنزل، تفكر في العلاج بالأردن الشهر المقبل. العمل توقف، وحتى الخرطوم أصبحت وجهة لا تُطاق بالنسبة لك. سوق أمدرمان، الذي كان وجهتك المعتادة، صار غريبًا. تدعو الله أن يمنّ عليك بالشفاء، وتأمل ألا يكون هذا الجنون الذي تشعر به دائمًا، بل مجرد أزمة ستعبر بسلام.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة