عطبرة، المدينة التي لم تعرف النوم إلا على أنغام القضبان ودويّ القطارات، ليست مجرد مدينة على خريطة السودان؛ إنها ذاكرة الثورة ولهيب النضال. هنا، تتجلى الحكايات الكبرى للعمال، والمزارعين، والكادحين، الذين اختاروا أن يكونوا صوتاً ضد الظلم، وأملاً لا يخبو في وجه الاستبداد. مدنية عطبرة واليسار حصن الشيوعيين السودانيين منذ عقود، كانت عطبرة قلبًا نابضًا للحراك اليساري والشيوعي في السودان. برزت كقلعة للطبقة العاملة، حيث تشكلت حركة نقابية فريدة في ورش السكة الحديد، أحد أكبر القطاعات العمالية في البلاد. هنا، التقت الفكرة الشيوعية بعزيمة العمال الذين أرهقتهم الساعات الطويلة في أحشاء المصانع وصخب القطارات. فكان الحزب الشيوعي السوداني حاضراً، يجمع بين نضالاتهم اليومية وأحلامهم بوطنٍ يسوده العدل والمساواة. حكايات الأمسيات الحمراء في أمسيات عطبرة، حين يهدأ هدير القطارات، كان الرفاق يجتمعون. تحت ضوء المصابيح الباهتة في الأحياء العمالية، أو في زوايا المقاهي الشعبية، كان النقاش مشتعلاً. السياسة، الاقتصاد، النضال، والثورة؛ كلها كانت عناوين ليلهم الطويل. كانت الجلسات أشبه بورش فكرية، ينسج فيها العقول خرائط لمستقبل أفضل. هنا ولد حلم "الدولة العمالية"، وهنا انطلقت الشرارات الأولى لمظاهرات هزت عروش الظلم في الخرطوم وغيرها. مذاق الثورة ولهيب النضال لا يمكن الحديث عن عطبرة دون استحضار ثورة أكتوبر 1964 وانتفاضة أبريل 1985، وحتى ثورة ديسمبر 2018. كانت عطبرة أول مدينة تكسر حاجز الخوف، وأشعلت المظاهرات التي ألهمت كل السودان. ثورة أكتوبر 1964 كانت شوارع عطبرة تفيض بالهتافات، حيث خرج الشيوعيون والنقابيون يقودون الحراك الشعبي ضد النظام العسكري. شكلت عطبرة مشعلاً أوقد جذوة النضال في مدن السودان كافة. انتفاضة ديسمبر 2018 هنا، في محطة عطبرة للقطارات، اندلعت شرارة التغيير. خرجت الجموع بقيادة العمال والنقابيين، مرددين هتاف "تسقط بس"، الذي تحول إلى أيقونة الثورة. روح عطبرة الشجاعة والتضحية لم يكن اليسار في عطبرة مجرد حركة سياسية؛ بل كان روحاً تسري في تفاصيل المدينة. عمالها لم يروا في النضال مجرد واجب حزبي، بل جزءاً من حياتهم اليومية. النضال هنا كان مذاقه كالخبز، ضرورياً ومستداماً، يلامس تفاصيل الحياة البسيطة. تضحيات أبناء عطبرة ليست مجرد أسماء على جدران الذاكرة؛ إنها دروسٌ للأجيال القادمة. قادة نقابيون وشيوعيون، مثل الشهيد قاسم أمين وآخرين، دفعوا حياتهم ثمناً لحلم وطن بلا قيود. عطبرة مدينة لا تموت اليوم، ورغم تغير الظروف، تظل عطبرة رمزاً للإصرار والصمود. أمسياتها ما زالت تحمل ذاكرة الحكايات القديمة، وصخبها يذكر الجميع بأن الثورة ليست حدثاً عابراً، بل حالة مستمرة من الوعي والتغيير. إنها عطبرة، حيث مذاق الثورة لا يُنسى، ولهيب النضال لا يخبو، وأحلام العدالة تظل حية في كل خطوة على قضبانها التي لا تنتهي.
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة