بين أجنحة ملائكة الرحمة و قبيلة إبليس تهيم أرواحنا و نحن أحياء عند ربنا نرزق .. تسكن بين أعطافنا تسابيح العباد و الزهاد و أولياء الله الصالحين .. و تشرئب نحو السماء قبابهم و المآذن و كأنها تتضرع عنا و لنا .. أننتظر رحمة الخالق تتنزل علينا بالوكالة .. ؟ و تجوس خلال ديارنا وسوسات الشياطين .. و كأنهم يسترقون السمع خلف ظهورنا و من خلف أبوابنا .. أنتعوذ من إبليس و هو يبصق علنا تحت أسماعنا و أنظارنا في بقايا طعامنا و شرابنا و يشهد مع الشاهدين عقود أنكحتنا و يتمتم مباركا ختان صبياننا و يقبع لصيقا عند كل بسملة و عند كل حوقلة و يقف بين صفوف صلواتنا كتفا بكتف وهو آخر من يطفيء أضواء غرف نومنا ؟ يتخطفنا بغاث الطير في الدنيا .. تتناثر بقايانا تتناوشها بنات آوى وضباع البراري .. تعوي هزال الذئاب على قوافلنا .. تهوي على بطاحنا بقايا النيازك والشهب .. وتضيء الأنجم والمجرات البعيدة أكواخ الدهماء والغوغاء .. يغمرنا ضوء باهت من بقايا شعاع قمر أرهقه الكسوف .. و يغادرنا إن إكتمل بدرا ليلة التمام .. و يتآمر تحت أشعة قمر إكتمل بدره.. شُعْث غُبْر لم تعرف الطهارة طريقا إلى قلوبهم .. يتآمرون للإجهاز على غرسٍ أينع ثمره بعرق الكادحين من الخُلَص الذين إن أقسموا بالله لأبروه و لو على عقال بعير .. تخطو أشعة خجْلى نحو صباحاتنا المحبَطة بسأمٍ عجنَاه من قمحِ قبحنا الأزلي و خبزنا إدامه على نار غيرتنا في قدر حسَدِنا المتكيء على أثافٍ نخرها ثالوث من سوس الخداع و الأنانية و اللامبالاة و مزجناه بدموع تتوارى التماسيح خجلا من أن تذرف مثله و دلقنا بهار الزيف و المخاتلة على مرقته . سِفْر من الأحزان و الحسرات غزلنا خيوط بساطه من دم أبطالٍ لو رضعوا من من ثدى أرضٍ غير الأرض و أظلتهم سماء غير السماء و دبَتْ أقدامهم على غير أديم هذه الفانية ، لَسطروا تاريخا لا يحتاج إلى قاموسٍ لترجمة مفرداته و إن كُتبتْ بأعجمية موغلة في القدم كرسوم أهل الكهوف و إنسانها الأول في زمانه الحجري .. و لزلزلوا أركان الدنيا بالأخمصَيْن .. ضوامر الخيل و بطونهم التي صامت طوعا و كرها فأسكتوا جوعها بشِقِ تمرة و جاهروا بالحمد يتردد صداه بين جنبات العتامير و السهول .. و أضمروا الصبر الجميل ..
قبح الله تاريخا لم يدخله مَن قدمناه كبش فداء في محرقة إعتلاج أرواحنا المرهقة في رحلة أن نكون أو لا نكون .. أن نبقى أو لا نبقى .. قبح الله تاريخا نحاكم فيه مَن طرَزوا سجاد سيرته السمحة .. نحاكمهم بفرمانات الجلادين و أمزجة صعاليك دهاليز الحكم و السنن المشتقة من أضابير مَن لعنتهم أرحام أمهاتهم قبل أن يرمي بهم التاريخ في مزبلته المتخمة. فليجف نيلنا الأزرق .. و ليغيض ماء نيلنا الأبيض .. و لتتبخر مياه كل أنهارنا سحبا تمطر حيث يشاء لها من أركمها فوق بعضها البعض .. و لنرسل البصر كرتين إن كان ذاك النهر سيجري شمالا دون روافده .. أبتراً بلا ساقين و مستنزفا بلا شرايين .. فلن يرتد البصر إلينا خاسئا و هو كسيف .. بل سنقف كما نحن الآن عُمْي بُكْم نتخبط طريقا هو أوضح ما يكون .. مبصرين لا نرى أبْعَد من أصابع يدنا تلقمنا اللقمة .. أو فليرتد تيار الماء على عقبيه ليحاول الرجوع معاندا نواميس الكون إلى منبعه شرقا و منبعه جنوبا .. أو ليس هذا زمان العجائب .. فليختلط أجاج البحر مع فرات النيل ليجعله ملحا غير سائغ للشاربين ..
الرجل الصالح الذي قابل سيدنا موسى كليم الله عند الصخرة على البحر بأمر الله و تدبيره سبحانه .. كان من ضمن الدروس التي أعطاها لموسى أن أقام جدارا كان على وشك السقوط و الإنهيار .. و عاتبه موسى لأنه لم يتخذ على إصلاحه أجرا يقتاتان به .. فجاءه جواب الذي أمده الله بالعلم : بأن الجدار لغلامين يتيمين في المدينة و كان تحته كنز لهما و كان أبوهما صالحا فأراد ربك أن يبلغا أشدهما و يستخرجا كنزهما رحمة من ربك ..
ألا ترون بأننا من طينة هذين الغلمين ؟ و أننا بالفعل أيتام في هذه الدنيا ( ليس لدينا وجيع ) و نحن في كنف الأهل و العشيرة ؟ ألم يكن آباؤنا صالحين مثل والد هذين الغلامين ؟ فالعبر و العظات يكررها الله في خلقه أنَى شاء و كيفما أراد. فمن يتعظ ؟ ألا ترون أن جدارنا قد مال و أوشك على السقوط ؟ و من ذا الذي سيقيمه بحكمة كحكمة الرجل الصالح ؟ فإن إنتهى زمن الصالحين .. ألا يوجد بيننا حكيم ؟ و يبقى السؤال : هل بلغنا أشدنا ؟ هل بلغنا سن الرشد ؟ و إن لم نكن قد بلغنا سن الرشد فمن سيكون الوصي علينا ؟ من الملزم بتصريف شئوننا حتى ذلك الحين ..؟ الإجابة على هذه التساؤلات أصعب ما يكون في ظل هذه الإرهاصات .. في ظل هذه العتامة و القتامة و الضبابية .. و في ظل تجاذبٍ ، ظل أهلنا يعرفون كل خيوطه المتشابكة و مَن يقف عند نهاية كل خيط و من الذي يشد و متى.. و من الذي يرخي و كيف.. ليبدأ الشد من جديد و هلم شدا و رخْيَا. ثم عن طيب خاطر .. نلملم ما تشابك من خيوط و نفك عنها تشابكها و نسلمها لنفس الأصابع .. إذن فلننتظر رحمة ربنا كما قال الرجل الصالح لسيدنا موسى .. و حتى ذلك الحين .. سنكون بين أجنحة ملائكة الرحمة و قبيلة إبليس تهيم أرواحنا مع الموتى و نحن أحياء عند ربنا نرزق .. و سيتخطفنا بغاث الطير في الدنيا .. عجبي
01-05-2025, 11:39 PM
السر عبدالله السر عبدالله
تاريخ التسجيل: 11-10-2006
مجموع المشاركات: 2286
يا سلام يا سلام يا أبا جهينة لهذا السفر الرائع والبديع من الأدب الرفيع وانت تصف الحال ... فنعم سوف يتخطفنا بغاث الطير ... وكل سطر من سطور هذا الأدب الرفيع يكمن تحته معاني عديدة .. .نعم السنا مثل الغلامين اليتيمين في قصة سيدنا موسى والرجل الصالح...
تحياتي اخي السر كيف الحال حفظكم الله تشكر على المرور البهي ولا نملك الا ان نقول يا اخي العزيز: كان الله في عون السودان، وسخر له يأخذ بيده وسط هذه اللجة دمتم بخير
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة