نحن في بلد أصبحت فيه السرقة مباحة، والعمل يخضع للأهواء، والحمار عالمٌ محترم، والسفيه قائدٌ مرموق، والسفاهة مجانية بلا ثمن!
نحن شعبٌ نغضب إذا خسر المريخ أو الهلال، ونهجر العمل لأننا لا نملك أجرة المواصلات. نخلد للنوم مبكرًا لأن الكهرباء غالية، ونمتنع عن شراء المنتجات المستوردة بزعم دعم الصناعة الوطنية. صباحنا يبدأ بكوب من الشاي باللبن وقطع اللقيمات، لنوفر أموال الإفطار ونشتري بها صحيفة رياضية تجعلنا مشجعين مثقفين.
خيالنا توقف عند أوجاعنا، ومشاكلنا تراكمت في هذا البلد. حتى إذا كنت مريضًا لعام كامل، لا تجد عزيمة لبلوغ أقرب صيدلية، سوى الوقوف بجانبها مستمتعًا بالتكييف. أما التلفاز، فهو نافذة تُشعرك بالكآبة وضيق الصدر، وصحف السياسة لا تقدم إلا الإحباط والقرف.
في العمل، تبدو وكأنك في عالم غريب؛ هل هؤلاء زملاؤك أم أن هذا بيت عزاء؟ في المنزل، لا سكر، ولا بن، ولا حتى غاز، والفحم أصبح يُباع بالوزن، وأصغر عبوة تُكلف خمسة جنيهات. الحل الوحيد هو اللجوء إلى "ست الشاي" التي تجمع بين جمال الحُلي وحداثة الموضة، فتجد فيها فسحة لممارسة كل ما هو ممكن.
أما السفر، فقد بات حلم الجميع؛ حتى الشيطان جمع أمتعته وغادر البلد، معتبرًا ما يحدث هنا مجرد خراب. المعيشة هنا تفتقر للاستقامة، والابتكار غائب، والفوضى منتشرة في كل شيء. إذا أردت مغادرة البلاد، فلن تحتاج إلا لجواز سفر، ومبلغ ضخم لتحويله إلى تذكرة سفر. أي مدينة فيها حياة أفضل من هنا!
الأحوال في السودان تكاد تكون يأسًا متجسدًا. الوجوه عابسة، الكلمات مليئة بالشتائم، والحياة كأنها عذاب يومي. لا شيء يتحسن؛ لا دخلٌ يرتفع، ولا زواج يُعقد، ولا حتى صرخة احتجاج على ما يحدث.
حتى الشيطان أقر بأن البقاء هنا جحيم، فما بالك بالبشر؟ كل شيء في هذه البلد يدعو إلى الحزن والإحباط، من الفقر الذي أصبح عاديًا كوجع الرأس، إلى الفوضى التي طغت على كل مظاهر الحياة.
إن أردت وصف الحال، فأقول: البطولة أصبحت غباء، والنصاب قديس، والسكران فيلسوف، والعاطل سياسي. حتى التعليم لم يسلم؛ الدكتور يقود "ركشة"، والمكوجي صار طبيبًا.
كل شيء بات في غير محله، والقيم انقلبت رأسًا على عقب. البلد تعج بالفوضى والشذوذ والانتحار. حتى ما يُسمى بالفقراء أصبحوا يتناولون مساعدات مهترئة قديمة، ويعيشون على هامش الحياة.
نحن في بلد تتجلى فيه أبشع صور الفوضى، فلا عجب أن يفر الجميع، حتى الجن نفسه لم يحتمل البقاء هنا!
في بلادنا التي غادرها حتى الشيطان، صارت الحرب ديدناً والخراب عادةً. أصوات المدافع والرصاص أصبحت موسيقى الخلفية لأيامنا، والدماء غسلاً يومياً للشوارع التي لا تملّ من احتضان الأحزان. في هذا البلد، حتى الحرب عندها قوانين غريبة: من يسرق أكثر يصبح زعيماً، ومن يصرخ أولاً يُسكت إلى الأبد.
البلد باتت مقسمة بين سلاحين، وجثث الشهداء لا تنتمي لأي فريق. والناس، بين نازح يبحث عن مأوى، وجائع يبحث عن كسرة خبز، ومريض لا يجد علاجاً. يا فردة، نحن في بلد حروبها مزاج، والخراب مجاني، والحياة تمنحك إياها بخسارة الكرامة فقط.
الاقتصاد؟ حدث ولا حرج. الطحين يُهرب، والبترول يُباع على الحدود، والسوق يقرر قوانينه الخاصة. عملتنا أصبحت مزحة، والدولار يرقص رقصة الجنون كل يوم. يا خي حتى الزول البيفكر يدخل الحرب عشان يحمي رزقو، يلقاها ما حرب، يلقاها سمسرة. والناس الماتت؟ مجرد أرقام في نشرات الأخبار.
والأطفال؟ صاروا جنوداً صغاراً، يحملون البنادق أكبر منهم. يركضون بين أطلال المدارس التي انهارت وبين مزارع ملغمة، لا يعرفون غير لغات الحرب والجوع والخوف. والنساء؟ أصبحن لاجئات في بلاد لا تعرفهن، يبحثن عن الأمن في عالم لا يعرفه حتى أهله.
الحرب؟ الحرب يا فردة ما بتقتل بس، الحرب بتغير النفوس. الجار أصبح يخاف من جاره، والصديق أصبح يُحسب بعدد الخناجر في يده. كل شيء بات مؤامرة، وكل حركة مشبوهة. البلد انقسمت بين خنادق وسياسيين يتقاسمون الغنائم بينما الشعب يتقاسم الخراب.
حتى الأحلام صارت عنيفة. الحلم؟ أن تنجو، أن تهاجر، أن تجد وطناً لا يذكرك بالجحيم الذي خرجت منه. أما الواقع، فهو أن الموت يلاحقك، سواء كنت في أطراف الخرطوم، أو على قوارب اللجوء في البحر المتوسط.
12-21-2024, 11:45 AM
Biraima M Adam Biraima M Adam
تاريخ التسجيل: 07-05-2005
مجموع المشاركات: 32960
زهير يا صديق يا بكّاى يا مرهف الاحساس أُخِذنا يوم أُغتيل شباب الثورة امام بوابات قيادة الجيش غدرا و كما انتفض شبابنا و اسقطوا جبروت ثلاثون عاما فكبرياء الجرح قادر مع ابناؤنا للتصر للاعمار و محاكمة القتلة و الفسدة و نشر الأمن و السلام و الخير و الجمال ف ربوع وطننا العزيز فصبرا جميلا زهير فليس بعد الضيق الا الفرج و بعد ظلام الليل الا اشراق الصباح و ان ما نعانى به و منه الا حسنات يودعها الظلمة و القتلة ف صفاحاتنا دون ان يدروا و سنجده برحمة الله جبالا و ارتالا من الحسنات ستكون باذن الله معبرا لجنات الفردوس الاعلى
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة