كانت الشوارع تنبض بالحياة في صباح 17 ديسمبر البارد، ولكن دفء الأرواح المتطلعة للحرية كان يغمر كل زاوية. لا شيء يكسر سكون الليل مثل هتافات الشباب، "حرية، سلام، وعدالة"، تلك الكلمات التي حملت أحلام شعب بأسره.
في قلب الخرطوم، تداخلت خطوات المتظاهرين مع دقات الطبول التقليدية، وكأن الأرض ترقص معهم في انسجام. كان المشهد لوحة حية، ألوانها تمتد من أقمشة علم السودان التي تتأرجح فوق الرؤوس، إلى وجوه مضيئة بشعاع الأمل.
الجموع التي خرجت لم تكن مجرد أفراد؛ كانوا قصة وطن يعيد كتابة فصوله. الأمهات يزغردن من الشرفات، الأطفال يلوحون بعلامات النصر، وكبار السن يسيرون بثقل السنين، لكن بقلوب خفيفة كريشة على أعتاب الخلاص.
كان "علي"، الشاب النحيل ذو العشرين ربيعاً، يتقدم صفوف المتظاهرين. وجهه المغطى بغبار الشارع كان يحمل ملامح جيل كامل قرر أن يكسر أغلال الماضي. هاتفه المرفوع بيده يوثق كل لحظة، ليشهد العالم أجمع على حكاية السودانيين.
في أحد الزوايا، تجمعت مجموعة من الفتيات، منهن من كانت تغطي رأسها بحجاب بسيط، ومنهن من تركت شعرها حراً يلامس نسيم الحرية. كن يرددن أغنية حماسية بصوت متحدٍ يعلو فوق قنابل الغاز المسيل للدموع، وكان صوتهن كالرعد في سماء النضال.
لم تكن المواكب مجرد حشود، بل كانت مدرسة للحياة. تعلم فيها الجميع أن الوحدة أقوى من أي انقسام. السودانيون بجميع أطيافهم: من الشرق إلى الغرب، من الشمال إلى الجنوب، اجتمعوا في هذه اللحظة الحاسمة.
عندما اشتد القمع، كان المتظاهرون يحملون بعضهم بعضاً. يسحبون الجرحى إلى بر الأمان، ويهتفون باسم كل شهيد سقط. كانت الشوارع تمتلئ بدموع الفقد، ولكنها كانت أيضاً تمتلئ بغضب يرفض الانكسار.
مع انبلاج الفجر، كانت المدينة تبدو هادئة، لكن الصدى في قلوب الثائرين لم يخفت. خلف الجدران، كانوا يخططون للموكب التالي، ويعيدون صياغة حلمهم المشترك.
وفي تلك الليالي الطويلة، كانت نجمة الثورة السودانية تزداد بريقاً في سماء الحرية. كانوا يعلمون أن الطريق طويل، ولكنهم كانوا مستعدين للسير فيه حتى نهايته. لأنهم، كما كانوا يرددون دائماً، "السودان وطن يسع الجميع".
الرسائل والمقالات و الآراء المنشورة في المنتدى بأسماء أصحابها أو بأسماء مستعارة لا تمثل بالضرورة الرأي الرسمي لصاحب الموقع أو سودانيز اون لاين بل تمثل وجهة نظر كاتبها
لا يمكنك نقل أو اقتباس اى مواد أعلامية من هذا الموقع الا بعد الحصول على اذن من الادارة