الدعم السريع يجتاح ويستبيح قرية اللعوتة شاهد يصف ما حدث

Quote: الدعم السريع يجتاح ويستبيح قرية اللعوتة (١) اجتاح الجنجويد الخميس الماضي قرية اللعوتة، جنوب غرب المسيد. تقع اللعوتة بين ترعتين رئيسيتين، تجريان من الجنوب إلى الشمال، لكناها منحنيتان بصورة تكادا تحيطان بها من كل الجهات. العبور إلى القرية يحصل عبر تلات نقاط خلال الترعتين. مؤخراً قام المواطنون بغمر المداخل بماء الترعتين تحسباً لدخول وخروج المعتدين المحتملين، والمتوقعين. الاّ انّ أعداد كبيرة من الجنجويد فاجأ سكان القرية عند حوالي الساعة ١٠:٣٠ ص من المدخل الشمال الغربي القريب من المقابر القديمة، أكثر النقاط قلة للسكان، حيث تركوا عرباتهم ومواترهم عند ذلك المدخل المغمور بالماء والطين، ودخلوا راجلين، فقام إليهم الشباب المتواجدون في الميدان القريب، كأحد ارتكازاتهم، فقاموا باطلاق النار في الهواء، ففزع إليهم كثير من الناس، خاصة من الشباب، لكن وجد الشباب انفسهم مطوقين بالجنجويد من كل الجهات، فقاموا بإطلاق النار مباشرة نحوهم، فقُتل عدد من المواطنين، وأصيب عدد أكبر. ومن هناك سرعان ما انتشر الجنجويد في شكل ثنائيات - اتنين اتنين - بطول وعرض القرية، فغطوها في زمن وجيز جداً، في حدود العشر دقائق! ثم بدأت فوراً حملة واسعة جداً للنهب، قُتل وأصيب فيها مواطنون آخرون. طال النهب كل الدكاكين في السوق (يسموه الجزارة)، والدكاكين البسيطة في الفُرق/الأحياء، ومعظم البيوت بحثاً عن العربات والمال والدهب، وحتى الماشية - من غنم وخراف وبقر - ساقوها! (وفيما بعد أصبحوا يذبحوا بعضها لطعامهم). أثناء عملية النهب تم ضرب الرجال والشباب بالسياط أو العصي - ولم يسلم حتى الشيوخ - الذين يقولون "ما عندهم قروش أو دهب"، وأُجبر بعضهم تحت التهديد على صيانة وتصليح عرباتهم الخاصة، وعربات القرية المشلّعة منذ دخول الجنجويد ولاية الجزيرة، وتم حجز آخرين - خاصة الشباب - وأُتخذوا عمال لتفكيك وحمل وشحن المنهوبات!! غايته، كان ترويع رهيب، وفي زمن وجيز جداً، كان نتيجته أن خرج المواطنون، من بيوتهم خاصة بعد معرفتهم بحصول حالات القتل.. خرجوا زرافات زرافات نحو مخرجين رئيسيين على الترع المحيطة، واحد من الناحية الجنوبية إلى قرى وسط وغرب الجزيرة. والآخر (مرفقة صوره) كان عند المخرج الجنوبي الشرقي، جوار منزلنا. فعند هذه النقطة، كان عبور الترعة يتم عبر الكبري الصغير/الضيق، والمتهالك، وعبر خوض الترعة، نتيجة الهلع من الجنجويد المقتربين من المكان. فخاض الترعة - العميقة - الشيوخ والنساء والأطفال، وبالطبع الشباب الذين كانوا يحملون كبار السن والمقعدين والمرضي فوق الكراسي العادية والمتحركة، والعناقريب، أو على أكتافهم، أو يتعاونوا على مساعدتهم على خوض الترعة، في منظر صعب للغاية يحبس الانفاس. كان هم الناس أن يعدوا الترعة للجانب الآخر منها، ليسلموا من الجنجويد، الذين لحقوا بمؤخرة الركب، ففتشوا أحمالهم البسيطة - أكياس وشوالات - فسلبوهم مالهم وإن قلّ، وموبايلاتهم، التي تمكّن القلة القليلة جداً منهم أن يتدبرها، أو لأنها أصلاً كانت في متناولهم، في ذلك الوقت. وفي الحقيقة الغالبية العظمى منهم لم يآخذ معه أي شيء، وخرج بما عليه من ثياب، وحتى بعض الأطفال كانوا حفايا! بعد عبور الترعة سالمين، كان الناس يتفقدون بعضهم البعض، الموجود والمفقود، بعضهم حاول يرجع للعودة بالمفقودين. ثم بعدها تاه الناس (حرفياً) إلى المجهول! فبعضهم سار نحو القرى المجاورة، رغم خوائها إذ أنّ الجنجويد اجتاحها في الايام القليلة الماضية، فنزح سكانها إلى اللعوتة! أما أغلبية الناس ظلت قابعة في الحواشات جوار الترعة، لا تدري أين تتجه، وكانوا يفكرون في البقاء مكانهم، حتى ينجلي الموقف، وطبعاً كانوا يمنون انفسهم بالعودة للديار. لكن مع دخول العصر - وقد قضوا النهار بطوله تحت الشمس، بدون أكل (الغالبية لم تفطر)، فقط شراب ماء الجداول والترعة - فبحلول العصر أخذوا يفكروا في أطفالهم وأكلهم، والحشرات والعقارب بعد مغيب الشمس. فاستقر رأي الشيوخ على التحرك للقرى المأهولة المجاورة. فأخذ الناس في التحرك ناحية الشرق، وقد أخذ منهم الاجهاد وحر الشمس والجوع مبلغاً عظيماً. وعندما وصل الناس إلى الترعة الشرقية التالية، انقسموا لفريقين، فريق إتجه جنوباً إلى عمق الجزيرة، حيث القرى القريبة الخاوية بعد نزوح سكانها، والفريق الآخر إتجه شمالاً مشياً على الاقدام بمحاذاة الترعة، إلى أقرب قرية. (٢) كان السير بطيئاً للظروف عالية، وكان الناس يسيرون ثم يتوقفون، أو يجلسون أرضاً ليرتاحوا قليلاً ثم يواصلون. وعند مرورنا بتقاطع الشارع المؤدي لمدخل القرية الرئيسي/الشمالي، شاهدنا عربات الجنجويد تقف هناك، وكنا نشاهدها من فوق الترعة تجري على الطريق الرئيسي نحو القرية، والجنجويد فوق مواترهم كالذباب يحوم فوق الطعام، فتملك الناس خليط من مشاعر الغضب والحسرة، ومن العجز وقلة الحيلة. واصلنا السير، وبعد قليل من ذلك التقاطع، ظهرت عربة دفار في منتصف السكة، فهابها الناس أول أمرهم خشية أن يكونوا جنجويد، لكن ظهر أنهم دعامة الارتكاز القريب من القرية، الذين كانوا يتعاملون باحترام و ود متبادل، وهؤلاء يتبعون لفصيل آخر غير الفصيل المستبيح للقرية، وقالوا انهم حاولوا صدهم، لكن كانت جحافلهم كبيرة جداً، فأخذوا يجلون السكان النازحين إلى القرى القريبة. كان الدفار أولاً يآخذ أصحاب الاعذار، ثم شمل بعض النساء وأطفالهن، إلى أن وصلت مقدمة المسيرة أقرب القرى. كان رجالها الشبان يستقبلون النازحين قبل نهاية الطريق بمسافة بعيدة! يستقبلوهم بالسلام وكلمات الترحيب العميقة، والأسف للحدث، المصحوبين بالتأثر الشديد للمصاب الجلل، وبحافظات المياه الباردة. ولأننا كنا رويانين من ماء الترعة على طول الطريق، كنت أحرص على الشرب ولو القليل من كل واحد منهم، لجبر خاطره، وللموقف النبيل الواقفه! وكنت أبكي عند كل واحد منهم، فيجزعوا هم لذلك، فيربّتوا عليّ بشفقة كبيرة! مؤكد هم يظنون السبب فداحة مصيبتنا، لكني كنت أبكي متأثراً بروعة موقفهم النبيل!! فعلاً، أقام العباد فيما أراد، بعض الناس يبكي آخرين فرحاً، وبعضهم يبكيهم قهراً وذلاً!! على بعد مسافة من هؤلاء الرجال، في طرف قريتهم، قابلتنا نساؤهم بنفس الترحاب والبشاشة، وأيضاً المواساة.. كل واحدة من النساء كانت تبحث عن معارفها من النساء والرجال في قريتنا لتستضيفهم، لأن كثير منهن يبعن الخضار في سوق اللعوتة.. وكذلك كان يفعل الرجال مع الرجال، ولقد لاحظت أنّ كثير من المستقبلين - نساء ورجال - أصحاب أعذار من المرض، ومن الاعاقة الجسدية، الظاهرة، لكن مع ذلك كان مصممين وعازمين على مقابلة النازحين وعمل الواجب!! في هذه المحطة كان الاستقبال بالشاي والقهوة والونسة، وكان بعض المستقبلين يأخذ الواصلين مباشرة لمنازلهم. قبل المغرب بقليل طالب أحد رجال القرية بأن يتحرك كل الرجال للجوامع مع الشبان المرشدين، والنساء وأطفالهن يذهبن مع النساء للبيوت، وهكذا انصرفنا كلٌّ لمسجد حسب مرشد المجموعة، فصلينا المغرب في احد مسجدي القرية، الذي أصبح منزلتنا. بعد الصلاة شاهدت الشبان يقومون بتقطيع اللحم فوق ترابيز كتلك لبيع اللحم في الجزارات. لكن سرعان ما جاءت صواني الأكل تترى، كان الواحد منهم يأتي بما تيسر عنده من كسرة أو عصيدة وملاح دمعة أو ويكة، بليلة أو فتة بليلة بالرغيف، أو عدس، إلخ إلخ.. فعلاً، ما ألذّ الأكل على الجوع، أو بطن فارغة!! ثم جاءت ثرامس الشاي، فأخذ كبابي الشاي السادة تدور وتدور، حتى لما حل وقت العِشاء كان الجميع قد اكتفى. كنا نلتحف بروش الصلاة، فجاءنا بعض الشباب بمخدات ومساند، وملاءات وبطاطين، فأخذنا نتهيأ للنوم وقد أخذ منا التعب مبلغاً كبيراً. لكنه سرعان ما جاءت الصواني الكبيرة بأطايب اللحم مع الأرز، والكمونية، وغيرهما، فكان لا مفر من تطييب خواطر مكرمينا، وكانت كبابي الشاي تواصل دورانها المقدس! حينها فقط بدأ كل واحد يحكي ما مر به من تجارب في ذلك الزمن الوجيز من صبيحة ذلك اليوم، فظهرت بشاعة الحالة بصورة مفزعة، كأنما الناس تشاهد فليم رعب سينمائي!! حتى ذلك الوقت كان النازحون يأتون من القرية فرادى وجماعات، إلى منتصف الليل، وربما بعده. كانوا يروون القصص المرعبة من التنكيل بالناس وترويعهم، ومن قُتل من الأهل والأصحاب!! لم استطع النوم، ولا الآخرين استطاعوا، فالمصيبة كبيرة، والمستقبل غامض ومرعب، ولا أحد يعرف ماذا يمكن ان يحدث، أو ما يجب عليه فعله غداً صباحاً!؟! ملحوظة: اللعوتة ما فيها جيش، ولا استنفار أو مستنفرين، ولا سلاح، ولا فلول أو كيزان نشطين منذ بداية الحرب.